رياض الصائدياستقطبت الحركات الاسلامية منذ نهاية سنوات السبعين من القرن العشرين المنصرم اهتمام الدوائر السياسية، والاعلامية ثم لحقتها الدوائر الاكاديمية في الوطن العربي وفي العالم الغربي بخاصة ، حيث اصبح الاسلام السياسي موضوع الساعة. فاجهزة المخابرات ترصد حركاته وسكناته وتلتقي في مؤتمرات دولية من اجل محاصرته، والاعلام الدولي لا يبخل عليه بصفحاته الاولي، واطروحات الدكتوراه والابحاث الاكاديمية وجدت فيه الموضوع المفضل الذي يشجع عليه اساتذة الجامعات طلبتهم حتي يعالجوه من كل جوانبه في الماضي وفي سنوات الستين كان الكل مهتما بالحركات الشيوعية في العالم وبحركات القومية العربية ناصرية وبعثية في الوطن العربي، وفي تلك الفترة من الزمن كانت حكومات كثيرة تشجع ضمنا او مباشرة الاسلام السياسي حتي يواجه معها هجمة اليسار الشاملة.وكان الغرب الرأسمالي مرتاحا كثيرا لبروز الحركات الاسلامية، حيث حدث اكبر لقاء بينهما في افغانستان. اتحدا في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وكان ذلك الي حين. ومنذ انهيار الكتلة الشيوعية في بداية التسعينيات، انتبه الغرب الي ان حلفاء الماضي اصبحوا خطرا عليه وبالتالي يجب الحد من مدهم الجماهيري. ونفس الحكومات العربية التي شجعته في الماضي القريب وجدت نفسها الان في حالة مواجهة مفتوحة معه. وحدثت عملية تفاعل سياسي اليمة مع الانظمة القائمة، يمكن تصنيف نتائجها الي اربعة اصناف. اولا: نجح الاسلاميون بقيادة تحالف بين العسكر (الرئيس عمر حسن البشير) والجبهة القومية الاسلامية (حسن الترابي) في الوصول الي السلطة في بلد واحد هو السودان، لكن سرعان ما خيب هذا النجاح امال الاسلاميين حيث انتصر مفهوم مصلحة الدولة علي مفهوم احلام الثورة وازاح العسكر حلفاءهم. ثانيا: تعايش الاسلام السياسي مع بعض الانظمة مثل الكويت والاردن واليمن (حزب الاصلاح) وقطر. ثالثا: تم استئصاله من خلال الردع الامني العنيف في بلدان اخري كالعراق او سوريا او باكثر مرونة كتونس. وفي الحالة الاخيرة تفشي العنف المسلح فتضايقت منه دول مثل مصر او ليبيا ووصل الي ما يشبه الحرب الاهلية في الجزائر التي مثلت مختبرا حدثت في تجربة غالية الثمن لما يمكن ان يصل اليه الصراع.ان الصراع الذي تم، انقسم الي نوعين: صراع سلمي حينما يتعلق الامر بحركات الاخوان المسلمين وصراع دموي عنيف حينما يتعلق الامر بالجماعات الاسلامية. لقد تمزق الاسلاميون في الوطن العربي بين خيارين استراتيجيين متناقضين. الخيار الاول يعتمد علي مفهوم الاسلمة من القاعدة، في حين يعتمد الخيار الثاني علي مفهوم الاسلمة من القمة. هذا التقسيم وقع التفطن اليه والتنظير له من قبل بعض الباحثين الغربيين المهتمين بالحركات الاسلامية. يعتبر عالم السياسة الفرنسي جان فرانسوا بايار اول من انتبه الي هذا التقسيم عندما ميز بين العمل السياسي من القمة والعمل السياسي من القاعدة.ثم طبقها في ما بعد علي الحركات الاسلامية عالم الاجتماع الفرنسي جيل كيبيل وزميله المختص في الحركات الاسلامية اوليفياي روا اللذان ميزا بين اسلمة ثورية من القمة واسلمة اجتماعية من القاعدة. يري كيبيل ان تطور الاحتجاج الاسلامي لم يتم في منهج خطي فهو ينبهنا الي تغيير في استراتيجية الحركات الاسلامية منذ سنوات الثمانين. منذ هذه السنوات فضلت الحركات الاسلامية التي شدت انتباه السلطات ووسائل الاعلام (...) عملية الاسلمة من القمة .ثمة إتجاه يعتمد علي الاسلمة من القاعدة يعكس دائما منهجا سلميا في العمل السياسي. فهو يلفظ صراحة العنف ويؤمن بالتربية والتعليم اللذين لا بد ان يشملا كل السكان، كل طبقاتهم حتي ولو تناقضت اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. فهم يهدفون علي مدي بعيد الي امتصاص كل المعارضات التي تواجه مشروعهم الاسلامي. ومن ثمة اسلمة المجتمع كافة، بما فيه مؤسسات الدولة مثل الجيش والشرطة والاحزاب السياسية والنقابات.. يعتقد هذا ان الزمن سيلعب في نهاية المطاف لصالحه. نجد لهذا الخيار تجسيدا في حركات الاخوان المسلمين خاصة في مصر والاردن وبعض دول الخليج وكذلك في حمس في الجزائر او حتي تيار الجزأرة في الجبهة الاسلامية للانقاذ المنحلة.اما الخيار الثاني فيتعلق بالاسلمة من القمة. هذه الاستراتيجية تعتمد علي العنف المسلح للوصول الي السلطة، فهي تعتقد في الجهاد في بعده المادي وليس الروحي. وتري انه لا بد للحركات الاسلامية من الانقضاض علي اجهزة الدولة حتي تؤسلم المجتمع بالعنف عنف الدولة المنظم علي حد تعبير ماكس فايبر. انها ترفض جاهلية المجتمع وتهدف الي اعادة صياغته طبقا لما تعتقده الشريعة الاسلامية . تعتقد هذه الاستراتيجية انه يجب علي الحركة الاسلامية، وهي حركة عالمية تهدف الي تأسيس ما يماثل اممية اسلامية، ان تستخدم العنف حتي تستولي علي السلطة متجسدة في اجهزة الدولة وخاصة القوات المسلحة والشرطة للتمكن لاحقا من بناء المجتمع الاسلامي. فالدولة القهرية هي التي يجب ان تبني المجتمع الذي يناسبها وليس العكس. لقد تأثرت هذه النزعة ــ الاستراتيجية بمفكرين معروفين، هما السيد قطب من مصر وابو الاعلي المودودي من باكستان. فالخطاب القطبي يعتقد ان الجاهلية تمثل الانحراف عن نهج الاسلام ماضيا او حاضرا. يقول السيد قطب: فنحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الاسلام او اظلم. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتي الكثير مما تحسبه ثقافة اسلامية ومراجع اسلامية وفلسفة اسلامية وتفكيرا اسلاميا.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية . ومن هنا يصبح خطاب الاسلاميين خطابا جهاديا. يري السيد قطب ان الجهاد لا يجب ان يكون مقتصرا علي دار الحرب بل لا بد ان يتعداه الي دار الاسلام عندما نجد ان الحاكم او السلطان لا يطبق قوانين الله. اما ابو الاعلي المودودي فهو يميز بصرامة بين الجمهورية الاسلامية و الجمهورية الغربية . ففي هذه الاخيرة تأتي السلطة من الجماهير: ان صلاحيات الحكم وتنفيذ الاوامر (...) هي من احتكار الجماهير التي تمسك بدواليب السلطة، تشرع الجماهير، وتطبق كل التشريعات التي تعرضها. النتيجة ان هدف مثل هذه الحكومات سينحصر في افضل الحالات في البحث عن تعاطف جموع المواطنين الذين يشكلون السلطة اما في الاسلام فان السلطة ملك لله وحده. واخيرا يعتقد ان الجماهير مجبرة في الاسلام علي التشبث وتطبيق القوانين الشرعية المقدسة التي جاء بها الرسول صلي الله عليه وسلم. ومن جهة اخري فان اختيار الامير يجب ان يمر عبر معايير محددة سلفا بدقة مثل تقواه ، معرفته الكاملة بالاسلام و قدراته علي تصريف شؤون الحكم .[c1]عام 1928 نقطة البداية[/c]من الضروري التنبيه الي ان عمليات الاسلمة من القاعدة، اي النهج الاخواني السلمي بدأت منذ سنة 1928، اي سنة تأسيس جماعة الاخوان المسلمين في مدينة الاسماعيلية في مصر. مضت تقريبا 72 سنة علي استخدام هذا النهج دون ان تصل الحركة الاسلامية الي الحكم في اي بلد عربي، وفي الاثناء تمكنت الحركات القومية العربية من الاستيلاء علي السلطة في اكثر من بلد (مصر، سوريا، العراق، ليبيا، اليمن) بل حتي ان الشيوعيين وصلوا الي السلطة في بلد واحد هو اليمن الجنوبي. هذه الاستراتيجية التي تعتمد علي الصبر الطويل وجدت من يتمرد عليها من داخل الحركة نفسها حينما تشكلت تنظيمات الجماعات الاسلامية منذ السبعينيات لتتبني نهجا جديدا، اي الاسلمة من القاعدة واختارت عوض الصبر والعمل الجهادي السلمي ان تنقض مباشرة علي الحكم وتستولي علي اجهزة الدولة التي تصبح وسيلة ناجعة في ايديها لاسلمة المجتمع بالقوة وفرض قيمها عبر احتكار العنف المنظم الذي تمتلكه اي دولة مهما كانت ايديولوجيتها. ومن هنا رصدنا بداية العمليات العسكرية الدامية في مصر، المهد المبكر لنشاط الاسلام السياسي فحدثت سلسلة من الاعتبارات والانفجارات، توجت باغتيال الرئيس انور السادات نفسه في 6 تشرين الاول (اكتوبر) 1981 وفي مشهد مثير امام كاميرات التلفزيون التي نقلت وقائعه الي شتي انحاء العالم كانت البداية الحقيقية التي اعلنت ميلاد استراتيجية الاسلمة من القمة . تغذت هذه الاستراتيجية في الواقع من عاملين حاسمين آثارا آمالا كبيرة لدي القائمين بها. تمثل العامل الاول في نجاح الثورة الايرانية سنة 1979. هذا النجاح قدم نموذجا مثيرا لامكانية نجاح ثورة اسلامية والاستيلاء علي اجهزة الدولة في سبيل بناء مجتمع اسلامي مثالي. والعامل الثاني تمثل في صمود المقاومة الافغانية امام الاحتلال السوفياتي في مرحلة اولي والانتصار عليه في مرحلة ثانية. وهو ما اعطي زخما هائلا لدينامية الحركات الاسلامية. وكان الشعار لقد انتصرنا علي اعتي قوة في العالم، فما الذي يمنعنا من الانتصار علي حكومات محلية لا تمتلك مقدرات الاتحاد السوفياتي . وعاد الافغان العرب الي بلدانهم حاملين معهم قصص البطولات والانتصارات ليقاتلوا ضد حكوماتهم واكتشفوا ان الحرب ضد حكوماتهم اقسي من الحرب ضد الاحتلال السوفياتي وان الانتصار هناك لا يعني الانتصار هنا.[c1]نهاية الانبهار [/c]يحدث الان لدي الحركات الاسلامية ما يسميه ماكس فايبر بانحسار الانبهار بالعالم. فالثورة الايرانية ادت الي تمرد الجيل الشاب الاصلاحي علي شيوخه وقياداته الدينية الكلاسيكية ولولا ما أسسه الصراع عبر الانتخابات لانفجر الوضع ضد رجال الدين الحاكمين الذين هم في طور فقدان السلطة سلميا. وبعد عشرين سنة من الحكم الاسلامي لم تحدث معجزة كما كانت تحلم الحركات الاسلامية فالاقتصاد ضعيف والمستوي المعيشي غير جذاب والتفاوت الطبقي بين اثرياء الدولة وفقراء الشعب يتراكم.. اما العامل الثاني، اي نجاح حرب تحرير افغانستان، فانها ادت بالحركات الاسلامية الي حيرة واضطراب كبيرين، منذ خروج الروس من هذا البلد والمجاهدون يتقاتلون في ما بينهم، ولا احد يدري من هو المجاهد الحقيقي ومن هو المرتد، طالبان وبن لادن والقاعدة ، أم كرزاي وبرهاني وعبدالرسول سياف وأنصار احمد شاه مسعود الذين يحكمون بحماية قوات الناتو والدعم العسكري والمالي الأميركي . فجأة اكتشفنا جميعا واقعا اخر في افغانستان: بلد شديد التخلف، يعاني من الفقر، ومنقطع عن اي معني للحداثة وما زال يعيش طور الصراعات القبلية والاثنية، حيث تتقاتل القبائل كأنها في حرب البسوس، كأنها في عصر الجاهلية حيث لا نري فرقا بين قاتل ومقتول باختصار انتهي الانبهار بافغانستان ولم تعد نموذجا بل اصبحت حجة مضادة وعبئا علي الحركات الاسلامية في عملية التعبئة. استفادت الحركات الاسلامية من فشل الحركة القومية العربية في هزيمة يونيو 1967 لتقدم نفسها مشروعا بديلا لمشروع الحداثة الناصري. وبعد تجربة ثلاثة عقود من الزمن تجد نفسها في نفق مغلق. ميزة فشل مزدوج . بمعنى فشل الاسلمة من القاعدة اضافة الي فشل الاسلمة من القمة. ويبدو اليوم في الوطن العربي ان موجة الديمقراطية ستحل محل الموجة الاسلامية. حيث هناك اتجاه عام ان لا حل لهذه الامة الا في العمل الدؤوب وفي العلم وفي اعطاء الجامعات دورا كبيرا في القرار وفي الديمقراطية التي ينبغي ان تهذب بقية الايديولوجيات الاخري: قومية عربية او وطنية اسلامية او اشتراكية..
|
فكر
الاسلام السياسي العربي في ظل التحولات الراهنة
أخبار متعلقة