من أعظم الدول اليمنية التي بزغ شمسها في سماء اليمن في العصور الوسطى وإن لم يكن أعظمها هي الدولة الرسولية التي بسطت ظلها على اليمن أكثر من مائتي عام . ولقد ذكرها المؤرخون القدامى والمحدثون بأنها كانت دولة حضارية بكل معنى لهذه الكلمة ، فقد وصفها المؤرخ الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع بأنها " غرة شادخة في مفرق جبين اليمن في عصرها الإسلامي " . ولقد كان عصرها عصر علم ومعرفة ، وفي عهدها ازدهرت مختلف الفنون ازدهارًا رائعاً وصارت تعز عاصمة الدولة الرسولية ومقر حكم سلاطينها وملوكها قِبلة لجهابذة العلماء ، والفقهاء ، وفطاحل الأدباء والشعراء ، ونوابغ الكتاب ، ويفسر مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع الأسباب الرئيسة التي جعلت الحياة الثقافية والفكرية وفنونها المتنوعة تزدهر في عهد تلك الدولة ، قائلاً : " ... وما ذاك إلاّ لأن سلاطين وملوك الدولة الرسولية ، كانوا علماء فاهتموا بنشر العلم في ربوع اليمن على نطاق واسع ." محمد زكريا[c1]حماية سواحلها البحرية[/c]ولقد أجمع المؤرخون القدامى والمحدثون ـــ كما أشرنا في السابق ـــ أن الدولة الرسولية تميزت عن سائر الدول التي تعاقبت على حكم اليمن بأنها أسست قاعدة صلبة وقوية في ميدان العلوم والمعارف ، والفنون المختلفة والمتنوعة ، فأنشأت المدارس التعليمية في شتى المناطق الخاضعة لسلطانها سواء في اليمن أو في مكة المكرمة . ولكن هناك ناحية تاريخية من نواح تلك الدولة لم يتناولها المؤرخين باستفاضة وهي دورها في النشاط البحري المتمثل في الحفاظ على سواحلها اليمنية ، بل نتجرأ ونقول أن تلك الدولة شكلت لنفسها قوى بحرية متحركة أشبه ما تكون بخفر السواحل في وقتنا الراهن هدفها حماية سواحلها البحرية من ( المُجَوّرين ) أي المهربين والقراصنة . ومن نشاطاها البحري أيضاً علاقاتها التجارية الواسعة مع مصر ، وبالرغم من الصراع فيما بينهما على بسط سيطرتهما السياسية على مكة المكرمة لكونها كانت تمثل مركزاً روحيًا كبيراً أمام العالم الإسلامي " وقد تكرر وصول السفراء والتجار بين اليمن ، وتكرر تبادل الهدايا ، حقيقة لقد كان بين الطرفين منافسة سياسية حول السيطرة على مكة المكرمة لأهميتها الدينية لكن هذا لم يؤثر على التبادل التجاري بين الطرفين ، إذ كان كل منهما يشعر بأهمية التكامل بينهما لتحقيق الازدهار لبلديهما " . [c1]علاقاتها مع شرق أفريقيا[/c]وتذكر المصادر الرسولية أن العلاقات التجارية لم تقتصر على مصر فحسب بل كان لسلاطين وملوك الدولة الرسولية علاقات تجارية مع الإمارات والبلدان الواقعة في غرب جنوب البحر الأحمر أي شرق أفريقيا والتي دفعتها الأحداث أن ترتمي في أحضان اليمن ، وصارت الأخيرة لها اليد العُليا والنفوذ السياسي القوي في تلك المناطق الأفريقية . ولقد حاولت مصر أن تدس أنفها في تلك المناطق إلا أنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعًا بسبب قرب تلك البلدان من اليمن ، وبُعدها الجغرافي عن مصر ، في الوقت التي تمكنت مصر من بسط سيطرتها على مكة المكرمة من خلال أشرافها . ومن العلاقات التجارية الأخرى التي ارتبطت بها الدولة الرسولية هي علاقاتها مع الصين ، والهند وتحديدًا في عهد حكم الملك الناصر أحمد بن إسماعيل المتوفى ( 827 هـ / 1424م ) . كل تلك الصور والمشاهد سنعرضها بإسهاب بعد قليل . [c1]مخطوطة نادرة[/c]ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم ، بأنه اطلع على مخطوطة قيمة ونادرة بعنوان ( تاريخ اليمن في الدولة الرسولية ) قام بتحقيقها ونشرها الباحث الياباني ( هيكوايشي يا جيما ) " فهي تحتوي على كثير من النتف الإخبارية التي تشير إلى العلاقات الخارجية والتجارية للرسوليين وإلى نشاطهم البحري ضد المُجَوّرين ( أي المهربين والقراصنة ) . والحقيقة لقد كانت تلك العلاقات التجارية سواء مع مصر أو البلدان الواقعة في الساحل الغربي للبحر الأحمر ( شرق أفريقيا ) ، أو مع الهند ، والصين ، كان يتطلب من سلاطين وملوك الدولة الرسولية جهودًا كبيرة في حماية سواحلها ضد تهريب البضائع من قبل المُجَوّرين المهربين والقراصنة إلى داخل المدينة دون المرور بموانئ الجمارك لدفع العشور المقررة عليها . " لذلك كان على حكامه أن يؤمنوا سواحلهم ضد " المُجَوّرين ( أي المهربين والقراصنة) . وتتحدث المخطوطة بالتفصيل عن مطاردة الدولة الرسولية لسفن المهربين والقراصنة والتي نجحت في ذلك نجاحاً كبيراً وفي بعض الأحيان كانت تتعرض سفن الدولة للخطر من جراء مطاردة هؤلاء المُجَوّرين . [c1]مطاردة المهربين[/c]على أية حال ، تصف المخطوطة بعض المشاهد والصور في مطاردة الدولة الرسولية لهؤلاء المهربين والقراصنة بأنها تمكنت القوى البحرية للدولة من القبض على سفينة مهربة من قبل القراصنة ، جنحت على شاطئ جزيرة ( الزّقر ) ، فطلبوا من الجند إنقاذهم . ولقد كان على ظهرها الكثير من السلع والبضائع الغالية والنفيسة كانت تحتوي على " القماش , والزعفران ، والجوخ ، والنقد ما يزيد على مائة ألف دينار ، وتصدق به مولانا السلطان الجميع على العسكر والأمراء والمقدمين .. وعرضوا الأسارى ( الأسرى ) , وكانوا يزيدون على خمسين نفرًا على نظر مولانا السلطان فعفا عنهم وأطلقهم وكان ذلك من شيمه الجميلة " . ويبدو أن السلطان ألرسولي أراد من وراء توزيع البضائع والسلع المهربة على كبار العسكر تشجيعهم على مطاردة هؤلاء المهربين والقراصنة الذين يتسللون إلى سواحل الدولة من ورائها . واللافت للنظر ، أن السلطان الرسولي أطلق سراح المهربين بسبب أنهم سلموا البضائع والسلع المهربة إلى سلطات الدولة من تلقاء أنفسهم . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، بقوله : " و تكررت ظاهرة العفو عن المُجَوّرين طالما أنهم كانوا يسلمون أنفسهم للسلطات ، فقد " اتفق أنه وصل العلم بوصول مراكب المُجَوّرين إلى بندر المخا ، وطلبوا من مولانا السلطان الذمة والأمان ، فلما علم السلطان بذلك تعطف عليهم بالشفقة والذمة .. فطابت نفوسهم وتخلوا ما معهم من التحف ووصلوا إلى الباب الشريف في زبيد المحروس ، فقابلهم مولانا بكل خير وتغضى على قبيح فعلهم ، ولازالت عوائده جميلة ، ومراحمه جسيمة .. وذلك في شهر محرم الحرام سنة 833 هـ ( 1429م ) " . والجدير ذكره أن تلك الأحداث التي شهدناها حول مطاردة السلطات الرسولية , وعفوا السلطان لهؤلاء المهربين والقراصنة كانت في عهد السلطان الملك المنصور عبد الله بن الناصر أحمد بن الأشرف المتوفى سنة ( 830 هـ / 1427 م ) ، وتصفه المصادر أنه " كان ذا رأي وتدبير لسياسة المُلك جوادًا شجاعًا مُمدحاً محباُ للفقهاء " .[c1]معارك بحرية ضارية[/c] والحقيقة أن مطاردة المهربين والقراصنة في عرض البحر كان خطيراً جسيماً على القوى البحرية الرسولية حيث تتعرض في بعض الأحيان تلك السفن التابعة لها التي كانت تسمى الناصرية ، والديوانية إلى الحريق والغرق , فقد حدث في عهد حكم السلطان الملك المنصور أن أغرق المُجَوّرين سفينة بعد حرقها بعد أن دارت معركة حامية الوطيس بين سفينة القراصنة وسفينة الدولة في عرض البحر " غير أن هذه المعركة قد أدت إلى حرق السفينتين معًا وغرقهما ، وموت أغلب الراكبين بما فيهم النقيب مسعود ـــ وهو من كبار القوى البحرية المطاردة للقراصنة ـــ " . وتستمر المخطوطة في سرد حوادث مطاردة المهربين والقراصنة من قبل السلطات الرسولية والتي كانت جادة في القضاء على هؤلاء المهربين أو المُجَوّرين الذين تهربوا من دفع العشور على السلع والبضائع التي في حوزتهم على ظهر سفنهم . ولقد تمكنت السلطات البحرية الرسولية من القبض على سفينة تابعة من المُجَوّرين كانت تحمل على ظهرها " أصناف البهار ، والبزّ العالي ... والحرير .... وغير ذلك بما يزيد على مائة ألف دينار وذلك بسعادة مولانا السلطان نصره الله ... وأمر أنّ يتقدم بالمركب وما فيه من الحمل إلى البندر الجديد بزبيد المحروس " . [c1]سفن حربية [/c]ويطرح سيد مصطفى سالم سؤالاً مثيراً وهو هل كانت السلطات البحرية الرسولية تمتلك سفن حربية لمحاربة ومطاردة المُجَوّرين أي المهربين والقراصنة ؟ . ولكنه يميل إلى أن السلطات كانت تمتلك سفن حربية خاصة لمطاردة سفن هؤلاء القراصنة والمهربين ، ونورد ما ذكره في تلك المسألة ، فيقول " وقد يلفت النظر بعض التعبيرات الخاصة بالسفن ، فقد نعت بعضها " بمركب الديوان " " وبالمركب الناصري " ، ولا ندري هل كانت هذه السفن سفناً حربية تابعة للدولة من أجل حراسة السواحل اليمنية ؟ وخاصة أن قائد المركب الناصري هو الذي أمر بإطلاق النفط على سفينة المُجَوّرين ، فاحترقت المركبتان معاً بسبب قربهما من بعض ، وبسبب امتداد لسان اللهب من إحداهما إلى الأخرى ، أم كانت سفناً كذلك فلماذا حملت كمية من النفط ؟ .[c1]حماية اقتصادها[/c]والحقيقة إنّ حراسة وحماية السواحل من قبل الدولة الرسولية لدليل واضح وقاطع أنها كانت حريصة على حماية اقتصادها من عبث هؤلاء المُجَوّرين المهربين والقراصنة الذين يتهربون من دفع العشور المقررة على البضائع والسلع المقررة عليها ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : " كانت هي الصورة العامة لتلك الدولة القوية التي ظهرت في اليمن منذ ظهور الإسلام ، والتي أعطت التفاتاً خاصاً لسواحله ، واستغلالاً طيبًا لموقعه " . ويعتبر حماية الدولة الرسولية لسواحلها وجه من وجوه نشاطها البحري إلى جانب وجه آخر من وجوه النشاط البحري المتمثل بعلاقاتها التجارية مع مصر ، شرق أفريقيا أو الجنوب الغربي للبحر الأحمر ، والهند ، والصين والتي سنوردها بعد قليل باستفاضة .[c1]ازدهار ميناء عدن[/c]إن الدولة الرسولية ( 626 ـــ 858 هـ / 1228 ـــ 1454م ) التي كانت امتدادًا للدولة الأيوبية في اليمن ( 569 ـــ 627 هـ / 1173 ـــ 1229م ) نهجت نفس منهج بني أيوب في محاربة ومطاردة القراصنة بهدف الحفاظ على مصالحها الاقتصادية من ناحية وهيبتها السياسية من ناحية أخرى . وكما هو معروف أن العلاقات التجارية بين الدولة الأيوبية في اليمن والهند كانت علاقة متميزة وقوية , وخصوصًا أن بني أيوب عندما سيطروا على عدن بعد أن أزالوا حكم بني زريع منها ، اهتموا اهتماما بالغا بمينائها والذي شهد تطوراً وازدهاراً كبيرًا وواسعاً في عهدهم حيث ارتفعت إيرادات الميناء بشكل كبير عما كان عليه في السابق . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : " ومن المعروف أن الأيوبيين قد اهتموا بتنمية ميناء عدن بعد دخولهم اليمن ، فارتفعت إيراداته إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه في العهد السابق عليه " . [c1]من سقطرى [/c] وكان من جراء تحسين أداء ميناء عدن أن ازدادت الحركة التجارية فيه وخصوصاً مع الهند ولكن كان من جراء ذلك أن تربص القراصنة بالسفن القادمة من الهند إلى عدن المحملة بالبضائع والسلع التجارية النفيسة والغالية الثمن مثل التوابل ، والأرز ، ومنتجات الهند المختلفة والمتنوعة الهامة وغيرها . فكان المُجَوّرون أي المهربين والقراصنة الهنود يقطعون الطريق البحرية على تلك السفن . فقد كانوا ينطلقون من جزيرة سقطرى كقاعدة لنهب وسلب تلك السفن الآتية من الهند إلى عدن ــ كما سبق وأن أشرنا ـــ . ويقول الدكتور محمد كريم الشمري في كتابه ( عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ) : " وبرغم استمرار العلاقات التجارية بصورة نشيطة بين عدن والهند إلا أنّ الطريق التجارية كانت عرضة لهجوم القراصنة الهنود الذين اتخذوا من جزيرة سقطرى مخبأ لهم ، فعرضوا طريق التجارة للأخطار والمخاوف المستمرة " .[c1]الحد من نشاط القراصنة[/c] وكان من الطبيعي أن يكون رد الدولة الأيوبية في اليمن حاسماً وقوياً ضد هؤلاء القراصنة الهنود الذين أثاروا الخوف والذعر الكبيرين بين السفن التجارية التي كانت تمخر عباب البحر العربي القادمة من الهند إلى عدن ـــ كما أسلفنا ــ . وجمدوا حركة النشاط التجاري بين اليمن بصورة عامة وعدن بصفة خاصة لمدة عام . " وقد أدى ذلك في الحال إلى قيام السلطان طغتكين بن أيوب بإرسال الشوافي ( من أنواع السفن الحربية ) لحماية التجار من السراق ( القراصنة ) نظير فرض عشور جديدة على البضائع عرفت بعشور الشواني ، وقام الأتابك سنقر أمير عدن بتجريد حملة على جزيرة سقطرة استخدم فيها الشواني . ولقد نجحت الدولة الأيوبية في اليمن من الحد من نشاط القراصنة الذين كانوا ينطلقون من جزيرة سقطرة لنهب السفن التجارية وسلبها من بضائعها وسلعها القادمة من الهند ـــ كما أسلفنا ـــ . [c1]النفوذ الرسولي في الهند[/c]ويميط اللثام المؤرخ عبد الله أحمد محيرز في كتابه بعنوان ( رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي ) حول مسألة تاريخية جديرة بالاهتمام والعناية الكبيرين حول نفوذ الدولة الرسولية السياسي على مناطق وإمارات واسعة من الهند . وهنا ربما كان مناسبًا أن نقتبس من كلام عبد الله محيرز حول تلك المسألة التاريخية وهي تأثيرها السياسي القوي في الهند ، فيقول : " وفي هذا الوقت بلغت اليمن مكانة دولية مميزة حتى خطب لملكها في أحد عشر بلداً في الهند ، وجعلت أهل قاليقوط يكتبون إلى الملك الأشرف يبذلون فيه الطاعة له ، ويستأذنونه في إقامة الخطبة له ، إذ : " لم يك يخطب فيها لأحد من ملوك اليمن ولا ملوك مصر ولا من غيرهم " . وكان يخطب بها سابقاً لسلطان دلهي وأمراء هرمز ، ويلتمس أكثر من بلد أن يخطب لأسم سلاطينها فيها ، يصرفون الأموال للفوز بذلك " . ويضيف عبد الله محيرز ، فيقول : " وفر إليه من الهند كوجر شاد ابن فيروز شاد سلطان دلهي سنة 798هـ / 1387م لاجئاً من عمه المتغلب على السلطنة بعد قتل أبيه ، فأجاره وأجرى عليه وأكرمه " . وكان في تلك الفترة التاريخية يحكم اليمن السلطان الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل العباس المتوفى سنة ( 803 هـ / 1400م ) الذي دام حكمه 14عاماً شهدت فيه البلاد الاستقرار والأمن والازدهار ، وصفه المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع في كتابه ( الدولة الرسولية ) ، قائلاً : " فكان آخر سلاطين الدولة الرسولية العظام ". [c1]تشجيع التجارة الهندية[/c]وفي واقع الأمر ، أن العلاقة القوية والمتينة والمتميزة بين اليمن والهند أسبابها الرئيسة تعود إلى الموقع الجغرافي لكلتا البلدين عن الطريق البحري الذي يربط اليمن بصورة عامة وعدن بصورة خاصة بالهند " ... لأن اليمن تقع عند طرف " الممر الجنوبي " للبحر الأحمر ، وهذا الطريق البحري كان يمثل الخط المباشر والسريع أو الشريان المباشر بين اليمن والهند ، فكانت السفن القادمة من الهند تمخر عباب المحيط الهندي متجه إلى عدن الواقعة في البحر العربي والذي هو امتداد لمياه المحيط الهندي ، ومن العوامل الأخرى التي زادت في توطيد العلاقات التجارية بين اليمن والهند هو بعد نظر حكام بني رسول التجاري في تشجيع التجارة الهندية في بلادهم . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " وقد وضح خلال هذا المخطوط ( ويقصد المخطوط الذي حمل عنوان تاريخ اليمن في الدولة الرسولية ) معاملة البضائع الهندية في الجمارك ، فقد : " وصل الناخوذة كروة صحبة القاضي رضى الدين وبرز المرسوم العالي إلى القاضي رضى الدين بأن لا يؤخذ من تجار كاليقوت غير العشور ، وسمح لهم نصره الله تعالى القواعد وغيرها ، وهذا غاية الرفق والإحسان من مولانا السلطان على التجار ، وكسى الناخوذة كسوة فاخرة ، وسمح له مولانا السلطان شيئاً من العشور ، وطابت خواطر التجار بما يصدق به مولانا السلطان عليهم ، وما بذله من العدل والإنصاف والرفق بسائر المتسببين ، كان ذلك يوم الاثنين 9 شهر ذي الحجة سنة 836 هـ ( 1432م ) " . وفي تلك الفترة التاريخية كان يحكم اليمن السلطان الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل المتوفى ( 842 هـ / 1439م ) . [c1]مع شرق أفريقيا [/c]ومثلما كانت العلاقات التجارية والنفوذ السياسي للدولة الرسولية في اليمن قوية في الهند ــ كما أشرنا في السابق ـــ ، كانت أيضاً علاقاتها الاقتصادية والسياسية مزدهرة وقوية مع بلدان الساحل الغربي للبحر الأحمر ( شرق أفريقيا ) . ولقد استخدم الدكتور سيد مصطفى سالم في وصف العلاقة مع باقي أجزاء حوض جنوب البحر الأحمر وتحديدًا مع البلدان الواقعة في الساحل الغربي للبحر الأحمر بكلمة ( عميقة ) وهذا دليل على مدى قوة ومتانة علاقة اليمن مع دول شرق أفريقيا في تلك الفترة التاريخية ( العصور الوسطى ) . ويسرد سيد مصطفى سالم معلومات متفرقة عن أخبار تلك العلاقات القوية بين اليمن والساحل الغربي للبحر الأحمر ، جاء فيها ما يلي : " فقد وصل السفراء من الحبشة بالهدية العظيمة والتحف الغريبة في شهر شوال سنة 770هـ ( 1368م ) ، ووردت أخبار كذلك عن وصول هدايا وتحف من صاحب دهلك إلى الباب الشريف وذلك في شعبان الكريم من سنة 779هـ ( 1377م ) , وفي العام التالي وصلت هدية صاحب دنكل إلى الأبواب الشريفة في اليوم 25 من شهر ربيع الآخر سنة 780هـ ( 1378م ) ، ثم وصول هدية صاحب دهلك ، فيل ووحوش ، وأنواع الغرائب في سنة 787هـ ( 1385م ). وبعد قليل وصلت هدية من أرض الزنج فيها من العجائب التي لم يدخل أرض اليمن مثلها وذلك في اليوم 28 شهر شوال المبارك سنة 790 هـ ( 1388م ) " . [c1]دورها السياسي[/c]والحقيقة أن العلاقة المتينة والقوية في المجال الاقتصادي بين الدولة الرسولية والساحل الغربي الجنوبي للبحر الأحمر لم تقف عند تلك الحدود بل تعدت إلى العلاقات السياسية وبتعبير آخر أن اليمن صار له دور سياسيً قويً في الساحل الغربي للبحر الأحمر ( شرق أفريقيا ) . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم قائلا : " ويبدو أن النفوذ الاقتصادي لليمن في الساحل الغربي للبحر الأحمر قد تحول إلى نفوذ سياسي ، فقد وصل ولد سعد الدين صاحب الحبشة بهدية إلى الباب الشريف ( يقصد الملك الرسولي ) بتعز المحروس ، وطلب النصرة على الكافر الحطى ، فقابله السلطان الملك الناصر بكل خير وكساه وأنعم عليه ، ووعده بالنصر نهار الجمعة 13 من شهر القعدة سنة 811هـ ( 1408م ) " . ويعقب سيد مصطفى سالم حول أسباب تفجر تلك المنازعات بين الحكام في الساحل الغربي للبحر الأحمر ، قائلاً : " ويبدو أن ذلك يرجع إلى الحروب المستمرة بين الولايات الإسلامية ــ التي كانت تسمى إمارات الطراز لإحاطتها بهضبة الحبشة ـــ وبين الولايات المسيحية التي تقطن تلك الحبشة " . و يسترسل سيد مصطفى سالم : " وقد تكرر ذلك بعد سنوات قليلة إذ استنجد سلطان دهلك عند خلعه ، فقد وصل صاحب دهلك الباب الشريف مستنجدًا بمولانا السلطان الملك الناصر قدس الله روحه على إخوته كونهم أخرجوه من البلد ، وكان الحكم له دونهم قبل ذلك " .[c1]اليمن وزيلع[/c] بل وصل الأمر ، أن اليمن امتدت سيطرتها السياسية على زيلع الأفريقية ، فقد أرسل الملك الناصر أحمد الرسولي حملة عسكرية إلى زيلع . وفي الحقيقة أن المصادر التاريخية لم تذكر أسباب تلك الحملة اليمنية على تلك المنطقة ، ولكن من المحتمل أن حاكم زيلع حاول التمرد ، والانسلاخ من النفوذ اليمني. ودليل ذلك أن بعد تلك الجريدة ( الحملة ) العسكرية على زيلع في سنة ( 826هـ / 1422م ) في عهد الملك الناصر أحمد أن عادات العلاقات قوية كسابقتها . وهذا ما أكدته جملة الدكتور سيد مصطفى سالم: " وقد عادت العلاقات مع دهلك ثانية ". [c1]مع الصين [/c]تقول المصادر الرسولية ، أنّ العلاقات التجارية اليمنية الصينية شهدت ازدهرت ازدهاراً كبيراً في عهد حكم السلطان الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل ( 803 ــ 827هـ / 1400 ـــ 1424م ) الذي حكم اليمن قرابة 24عاماً . وفي فترة حكمه زار الأسطول الصيني عدن مرتين , والمرة الأخيرة في عهد السلطان الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل الذي تقلد مقاليد الحكم بعد وفاة السلطان الملك الناصر أحمد . ويشير عبد الله محيرز تواريخ زيارة البعثة الصينية التجارية لعدن مرتين المرة الأولى سنة ( 820 ـــ 822 هـ / 1417 ـــ 1419م ) ، وبالنسبة للرحلة الثانية ، فقد كانت في ( 824 ــ 825 هـ /1421 ــ 1422م ) وأما الرحلة الثالثة والأخيرة كانت في (834 ـــ 837 هـ / 1431ـ 1433م) ويشير عبد الله محيرز بأن الرحلة الأخيرة للصينيين كانت فاشلة بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية في عدن وذلك في عهد الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل ــ كما أسلفنا ـــ , وأشار عبد الله محيرز أيضاً أنه من ضمن ما جاء ذكره عن زيارة البعثة التجارية الصينية لعدن في الرحلات الثلاث أنواع الهداية المقدمة من الإمبراطور الصيني للملك الناصر أحمد ، وهدايا الأخير لإمبراطور الصين رداً على هديته . ويصف عبد الله محيرز مراسيم استقبال البعثة الصينية في الباب الشريف أي في قصر السلطان الملك الناصر أحمد في تعز عاصمة الدولة الرسولية ومقر حكمها في اليمن . فينقل لنا ما قاله المؤرخ ابن الديبع المتوفى ( 944 هـ / 1537م ) حول تصرفات المبعوث الإمبراطوري الصيني إلى السلطان الملك الناصر أحمد ، بأنها تصرفات تدل على الجهل ، والغطرسة : " أن ملك الصين يظن أن الناس عبيده والظاهر أن بهم حمقاً وجهلاً بأحوال البلاد ، وملوكها , إلا فالأدب موجب لمن تحقق من نفسه الكمال أن لا يخاطب غيره ألا باللطف والإجمال " . ولقد دفعت ابن الديبع أن يقول هذا الكلام بسبب الجملة المتغطرسة الذي قالها رسول الإمبراطور الصيني للسلطان الملك الناصر أحمد وهي " سيدك صاحب الصين يسلم عليك ، ويوصيك بالعدل في رعيتك " . [c1]هدايا الإمبراطور الصيني[/c]وعلى أية حال ، الهداية الذي أرسلها الإمبراطور الصيني إلى سلطان وملك الدولة الرسولية في اليمن الناصر أحمد ، " كانت هداية فاخرة فيها : " من أنواع التحف ، والثياب الكمخات المذهبة ، والمسك العال ، والعود الرطب ، والآنية الصيني أنواع كثيرة ، قومت الهدية بعشرين ألف مثقال " . [c1]هدايا الملك الناصر الرسولي [/c] وكان " رد الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل على هدايا الإمبراطور الصيني " من الوحوش كالمها وحمر الوحش ، والأسود المؤلفة ، والفهود المؤدبة , ويضيف عبد الله محيرز ، قائلاً : وكان من أبرز هدايا الناصر إلى إمبراطور الصين هي المها ، والزرافة والأولى اشتهرت بها اليمن ، أما الثانية فلاشك أنها مستوردة من أفريقيا " . ويسترسل في حديثه : " وقد أدهشت الزرافة البلاط الصيني ، وأعجبوا بها إعجاباً صورته المصادر الصينية عند رؤيتهم لها : " وتطاولت أعناق الجميع للنظر إليها " . [c1]الرحلة الصينية الأخيرة [/c]ويذكر عبد الله محيرز ، أنّ الرحلة الصينية الأخيرة إلى ثغر اليمن عدن كانت في عهد السلطان الملك الظاهر يحيى بن إسماعيل ، ومن نتائج تلك الرحلة الصينية أنها كانت فاشلة لم تحقق نجاحاً يذكر في مسألة تقوية الروابط التجارية بين اليمن والصين بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي أصابت عدن بصفة خاصة واليمن بصفة عامة من جراء الثورات والتمردات ، والإضطرابات التي سادت الدولة في عهد ذلك السلطان, وفي هذا الصدد يقول : " ولعل هذه أكثر الرحلات فشلاً بالنسبة لعدن ، فقد توفى الملك الناصر ملك اليمن في 827هـ وخلفه بعد ثلاثة سنوات الظاهر يحيى بن إسماعيل في 831 هـ ، وقد تدهورت عدن وضعف حالها ، ووصلت البعثة الصينية والملك الظاهر في لحج ... ولم تبق البعثة طويلاً في عدن ، فقد تحولت إلى مكة المكرمة لكساد التجارة في عدن " . [c1]السلاطين العظام[/c]والحقيقة ينبغي الوقوف على مسألة تاريخية هامة وهي أن الدولة الرسولية بلغت ذروة قوتها وهيبتها على الصعيد السياسي والاقتصادي مع الدول الأخرى وهي المناطق الواقعة في الساحل الغربي لجنوب البحر الأحمر ( شرق أفريقيا ) ، والهند ، والصين ــ كما قلنا سابقاً ـــ في عهد سلاطينها وملوكها العظام أمثال السلطان الملك الناصر أحمد ، وقبله السلطان الملك الأفضل العباس بن المجاهد علي بن المجاهد المتوفى ( 778 هـ / 1386م ) ، والسلطان الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل بن العباس المتوفى ( 803هـ / 1400م ) . وأما عندما تولى مقاليد الحكم سلاطين ضعاف كالملك الظاهر يحيى بن إسماعيل التي أطلت الفتن ، والقلاقل ، والفوضى برأسها في عهد حكمه . وهذا ما أكده المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلاً : " ومع هذا الإرهاب العنيف الذي اتسم به حكمه ، فقد اضطربت عليه أمور البلاد ، ولا سيما تهامة ، ولم يستطع إعادة الاستقرار التام إليها ... ولم يزل الظاهر يعاني من اختلال الأمن الذي تفاقم عليه ، وعجز عن كبح جماحه حتى فارق الحياة في مدينة زبيد في شهر رجب سنة 842 هـ " . وكان من الطبيعي أن ينعكس اضطراب حبل السياسة على الأوضاع الاقتصادية في اليمن , وهذا ما شاهدناه عندما توقفت عجلة دوران الحياة التجارية في ميناء عدن مما دفع بالبعثة الصينية التجارية التوجه إلى مكة المكرمة .[c1]اليمن ومصر[/c]وأما العلاقة بين الدولة الرسولية في اليمن والدولة الأيوبية في مصر ، فقداتسمت بالعداء الصريح . فقد وجدت الدولة الأيوبية أن نائبها على اليمن نور الدين عمر بن رسول قد أنسلخ منها ، وأعلن استقلاله عنها بعد وفاة الملك المسعود الأيوبي في سنة (626هـ / 1228م ) آخر الملوك الأيوبيين في اليمن . والحقيقة أن السلطان الملك نور الدين عمر بن رسول كان قد مهد لنفسه الأجواء السياسية التي تهيئه أن يتولى سدة الحكم في اليمن وبالفعل فقد نجح في ذلك نجاحاً كبيراً ، وخطى خطوات واسعة في تكوين الدولة الرسولية على أرض اليمن التي استمرت قرابة نحو أكثر من مائتي عام ـــ كما أسلفنا ـــ . وفي هذا الصدد ، يقول مؤرخنا القاضي إسماعيل بن علي الأكوع " فلما أطمئن إلى أنه قد احتاط لهذا الأمر بما فيه الكفاية أعلن نفسه ملكاً على اليمن سنة 629 هـ وقيل سنة 630هـ , وتلقب بالسلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول ، وأمر بوضع اسمه على السكة ، كما أمر الخطباء بذكره في خطب الجمعة والعيدين " . وعلى الرغم من الخلاف السياسي الحاد بين الدولتين ، فقد كان هناك بينهما مصالح اقتصادية فرضت نفسها على النزاع والتضارب السياسي اللذين كان بينهما . ومن المحتمل أن الأيوبيين في مصر سلموا بسياسة الأمر الواقع في اليمن وهي قيام الدولة الرسولية فيها ، وأن الخلاف السياسي سيضر بمصالحهما الاقتصادية . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " وقد تكرر وصول السفراء والتجار بين اليمن ومصر ، وتكرر تبادل الهدايا ، حقيقة لقد كان بين الطرفين منافسة سياسية حول السيطرة على مكة المكرمة لأهميتها الدينية لكن هذا لم يؤثر على التبادل التجاري بين الطرفين ، إذ كان كل منهما يشعر بأهمية التكامل بينهما لتحقيق الازدهار لبلديهما " . [c1]الهوامش : [/c]د . سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، الناشر : صنعاء ــ دار الميثاق للنشر والتوزيع 2006 م .د . سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن ، معهد البحوث والدراسات العربية ـــ جامعة الدول العربية ــــ القاهرة ــــ 1969م .عبد الله محيرز ؛ رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر 2000م . القاضي إسماعيل بن علي الأكوع الدولة الرسولية ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر 2003م .
|
تاريخ
الدولة الرسولية ونشاطها البحري
أخبار متعلقة