من ليس لديه ترموستات لغوية فليتوقف عن الكتابة
علي مغازي :تعالوا لنكتب: (دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ). ونطلب من التلاميذ إعادة صياغة هذه العبارة بشكل مختلف لكن بالنسق ذاته؛ وذلك بطرح أسئلة تدريبية. - ماذا دفنت دنيازاد يا أولاد؟يجيب تلميذ نبيه: (دفنت حبات السمسم). لقد استبدل الابتسامات بحبات السمسم.- أين دفنتها؟يجيبنا: (دفنتها في جيبها). حسنا.. هيا نواصل:- (ثم باتجاه ماذا انسحبت دنيازاد)؟ ستكون إجابة التلميذ النبيه على الأرجح: (باتجاه السهل).هكذا يكون تلميذنا قد شكل العبارة التالية المعادلة للعبارة الأولى نسقياً: (دفنت دنيازاد آخر حبات السمسم في جيبها ثم انسحبت باتجاه السهل).فرضية..لنفترض أننا قررنا مبدئيا أن نفتتح بهذه العبارة نصا روائياً من 422 صفحة. لكننا ارتأينا قبل ذلك أن نقوم بتعديلها وتنقيحها لنشجع أنفسنا على مواصلة الكتابة بثقة وحماس، حتى ننجز عملا أدبيا يتناوله القارئ لاحقا بمتعة وسلاسة أو على الأقل دون مشقة.إن فعل «دفنت» يحيلنا إلى الموت والقبر.. يا للهول..! وبالتالي فهو مشحون بمأساوية شديدة. نقول تقريريا، على سبيل المثال: «دفن الجندي جثة زميله». أو نقول مجازيا: (دفن الشعب أحلامه). إن الشحنة البلاغية الكامنة في فعل (دفن) تفرض علينا الحذر في اختيار الحدود الأخرى للجملة بما يليق بقوة هذا الفعل، فلا يعقل أن نكون ساذجين ونكتب مثلا: (دفنت دنيازاد أحمر الشفاه في جيبها).دعونا نستعير من الموثقين والمحامين ذلك التعبير الذهبي: (و..عليه)، لنشدد على قيمة الانسجام اللفظي في بناء أي جملة، فكل كاتب عليه امتلاك (ترموستات لغوية) تؤدي عملها أثناء الكتابة حتى لا يتورط في استعمال عبارات غير متوازنة: إن أحمر الشفاه كالسمسم، لفظتان لا تحتملان أية شحنة بلاغية، ولهذا فمن السخافة أن نكتب: (دفنت دنيازاد آخر حبات السمسم)، بل يستحسن أن نكتب: (دست دنيازاد آخر حبات السمسم...).هل انتهت المشكلة؟.. لا.. أبدا..إن لفظة (آخر) أعطت للجملة صيغة المبالغة على نحو ما، لهذا نستعملها عادة في تلك التعابير التقليدية مرتبطة بالرصاص أو الأنفاس.. أو.. أو... فنقول مثلا: (أطلق الجندي آخر الرصاصات). أو: «لفظَ الجندي آخر أنفاسه». لكن جملة (آخر حبت السمسم) تنبهنا إلى عطل فادح في ترموستات اللغة الخاصة بنا، إذ يمكن تفادي الوقوع في هذا الخطأ التعبيري بشطب لفظة (آخر) فتكون الجملة كما يلي: (دست حبات السمسم) مثلاً.حسنا. إن كل شيء على ما يرام. صارت العبارة الآن على هذا النحو: (دست دنيازاد حبات السمسم في جيبها ثم انسحبت باتجاه السهل). هل انتهت المشكلة؟.. لا أبدا..فالجملة تضمنت فعل (انسحبت») التي إذا ارتبطت بالسهل، توقعنا أن يكون الانسحاب عسكرياً كأن نقول في خبر صحفي: (انسحب (فيلق بدر) باتجاه سهل نينوى).إن دنيازاد ليست بخطورة (فيلق بدر)، فهي قد تنسحب إلى الجهة الأقل إضاءة، أو تنسحب من مكانها، أو تنسحب من طابور المتقدمين إلى جائزة أدبية... وهكذا. أما أن تنسحب باتجاه السهل فهذا ما لا يستسيغه أي قارئ لأن فضاء السهل أوسع من أن تنسحب إليه دنيازاد المسكينة. انتبهوا فثمة حالة تجعل العبارة مستساغة إلى حد ما، خصوصا إذا تعلق الأمر بكاتب مبتدئ إلى متوسط الموهبة؛ (كما في قاموس نشرة الأرصاد الجوية)، فتكون: (ثم انسحبت خفية باتجاه السهل). لكن أيعقل أن تضع حبات سمسم لتنسحب خفية..!؟ إن هذا غير معقول يا جماعة الخير، إلا إذا كانت قد انسحبت خفية عن أهلها لتلاقي حبيبها في السهل، والأرجح أن يكون حبيبها في هذه الحالة جنديا من (فيلق بدر)، فهي انسحبت للقاء غرامي من جهة، وهذا ما لا يقبله أهل دنيازاد، ثم أن هذا اللقاء الغرامي من جهة أخرى سيكون مع رجل من (فيلق بدر)، أي أنه ملاحق من طرف الحكومة أو يجب أن يكون كذلك. فإذا تم شحن الغرض من الانسحاب بتلميحات توحي بالشبهة، كان التخفي مبررا ويحتمل قوة فعل (انسحبت). أما وأن دنيازاد قد (انسحبت) فقط إلى السهل وأنه لا وجود لحبيب مشبوه ولا لحالة (تخفي) أو شيء يدعو للتخفي، فإنه من الضروري سحب لفظة (انسحبت) واستبدالها بلفظة أخرى، فتصبح الجملة ببساطة كما يلي: (دست دنيازاد حبات السمسم في جيبها واتجهت إلى السهل).خدع الكروائيينآه لقد خدعتكم... ولم ينتبه إلا النبيه منكم، فالدّس من الدسيسة، والسمسم ليس سما أو سلاحا كيماويا مزدوجاً، ولهذا فـ (دست) توحي بخطر ما دسته، ونحن لا نريد إلا عبارة بسيطة. ما رأيكم أن نستعمل ما هو أنسب؟ فتكون العبارة كما يلي: (وضعت دنيازاد حبات السمسم في جيبها واتجهت إلى السهل).السمسم يمكن زرعه في السهل لأنه بذور، أما السمسم في اللهجة المحلية الجزائرية فهو نوع من الخرز يستعمل للزينة.. فما علاقة الزينة بالسهل؟ وهكذا تتوالد الأسئلة فلا يكون بوسعنا الوصول بسهولة إلى نهاية لجدالنا.ما أريد قوله أن بناء جملة ذات معنى أمر شاق، وقد نقضي ساعات طويلة لننجح في صياغتها، خصوصا إذا تعلق الأمر بعبارة نفتتح بها رواية من 422 صفحة. لهذا يلجأ الكروائيون المخادعون لصياغة عبارات استهلاكية تصلح لكل شيء ولا تصلح لشيء كما هو الحال في عبارة (دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ).إن هذا يشبه أغنية مصرية يكتبها فنان مستعجل فيقول: أنا ضايع في هواك.. وآخر يستعملها أنا ضايع في جفاك.. أنا ضايع في سماك.. أنا ضايع في بهاك.. وهكذا إلى نهاية التاريخ.وهذا بالضبط ما يمكن أن نفعله مع العبارة أعلاه: (دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ).فنحتفظ بـ (دفنت)، لخلق حالة مأساوية، وبـ (دنيازاد) باعتبارها اسم علم وهي بطلة الرواية. ونقوم بإحداث تغييرات دون أن يتغير إحساسنا بالجملة: دفنت دنيازاد آخر الأحلام.. آخر الذكريات.. آخر الآمال وهكذا. أما أين انسحبت فيمكن أن يكون ذلك باتجاه الفراغ أو البياض أو الظلام أو العذاب أو التيه... وهكذا.دعوني أخبركم أن هذه العبارة مأخوذة من رواية (رمل الماية) للكاتب الجزائري، المرشح بقوة لجائزة البوكر، واسيني الأعرج في طبعتها (2011). وهي العبارة التي بني على نمطها أغلب كتاباته.