محمد زكريافي الحادي والثلاثين من أكتوبر سنة 1914م ، أعلن الباب العالي العثماني الحرب على إنجلترا ، فرنسا ، وروسيا القيصرية , وايطاليا . والحقيقة أنّ السلطنة العثمانية لم تدخل الحرب بإرداتها وباختيارها ، ولكنها دفعت إلى تلك الحرب دفعاً حتى وجدت نفسها في شباكها . وهذا ما أكده وزير السلطنة طلعت باشا في مذكراته بأن ألمانيا وقعت مع السلطنة العثمانية معاهدة سرية عسكرية بمقتضاها في حالة دخولها الحرب أو تعرضت للهجوم المسلح ، فإن على الأخيرة أن تقف بجانبها و تقاتل معها . ويضيف طلعت باشا بأنه لم يكن يدور بخلد السلطنة أنّ ألمانيا كانت تعد العدة لحرب شاملة على إنجلترا وحلفائها , ولذلك دخل العثمانيون الحرب رغم أنفهم ، وهم يدركون أنهم سيخسرونها . وهكذا سحبت ألمانيا السلطنة العثمانية إلى ساحة الحرب العالمية الأولى في الوقت التي كانت الأخيرة تعاني من ضعف شديد في الجانب العسكري ، بالإضافة إلى الفساد الرهيب الذي استشرى في كل مفصل من مفاصل الدولة . فكانت الحرب العالمية الأولى المسمار الصريح والأخير في نعش السلطنة العثمانية . [c1]عدن وقناة السويس[/c]ولقد احتلت عدن مساحة واسعة وعميقة في تفكير الساسة والقادة العسكريين الإنجليز في مطلع الحرب العالمية الأولى . فقد صارت عدن من محطة لتمويل السفن الإنجليزية بالفحم والمياه ، والمؤن وغيرها إلى قاعدة استراتيجية بحرية وعسكرية هامة للإنجليز في البحر العربي و البحر الأحمر وذلك عقب افتتاح قناة السويس سنة 1869م " إذ أنّ فتح القناة كان له أعمق الأثر على مجريات الأحداث التاريخية في البحر الأحمر ، وفي ميناء عدن الهام . . . " . أدت " إلى تحول نظرة الإنجليز بالنسبة لعدن من اعتبارها مجرد محطة لتزويد السفن البريطانية بكميات الفحم اللازمة لها ، إلى الاقتناع الكامل ، لدى جميع الأطراف والمستويات المسئولة في بريطانيا ، والهند ، وعدن ، بأهميتها كقاعدة استراتيجية بحرية وعسكرية للبريطانيين في منطقة البحر الأحمر. وقد عمدت بريطانيا إلى السيطرة على مصر ، والقناة باعتبارها المفتاح الشمالي للبحر الأحمر، في الوقت الذي احتفظت فيه بسيطرتها المتزايدة على عدن والمنطقة المحيطة بها ، باعتبارها المفتاح الجنوبي لهذا البحر " . و نستخلص من ذلك أنّ عدن زادت أهميتها الإستراتيجية عند افتتاح قناة السويس ، وباتت قاعدة عسكرية خطيرة للإمبراطورية البريطانية عملت كل ما في وسعها أنّ تجعل البحر الأحمر بحيرة بريطانية ، وأن تقف بالمرصاد للدول التي تحاول تعكير صفو ذلك الشريان البحري الحيوي الهام الذي يربطها بالهند والشرق الأقصى .[c1]عدن ، بريطانيا ، سنغافورة [/c]ويفهم من ذلك أنّ عدن ظهرت أهميتها الاستراتيجية على الخريطة العسكرية والسياسية في مطلع الحرب العالمية الأولى على وجه التحديد ، وبعد الحرب باتت عدن أهم المواقع الإستراتيجية لإنجلترا العظمى قبل رحيلها عنها سنة 1967م , وهذا ما دفع وزير الدفاع البريطاني هارولد واتكنسون أنّ يصف عدن بأنها قاعدة بحرية عسكرية خطيرة وحيوية لبريطانيا في شهر مارس سنة 1967م ، قائلاً : " تعتبر عدن أحدى القواعد الثلاث الرئيسية التي اعتمدت عليها الاستراتيجية الحربية البريطانية في العالم " أمّا القاعدتين الأخريان كانتا حينذاك بريطانيا وسنغافورة . وصارت عدن القاعدة العسكرية الإنجليزية التي منها تستطيع أنّ تراقب تحركات أساطيل الدول الأجنبية المنافسة لها في البحر الأحمر بل تعدى الأمر أنّ تطارد و تطرد تلك الأساطيل المناوئة لها من شريط البحر الأحمر لكون ذلك الشريط البحري يمثل لها الطريق الحيوي والهام إلى أغلى درة في تاجها وهي الهند وكذلك الشرق الأقصى . ولقد بات البحر الأحمر في تلك الفترة التاريخية بحيرة إنجليزية . والحقيقة لقد وصفها القادة العسكريين الإنجليز في تقريرهم بأن عدن برج مراقبة عسكري خطير ، ومركز تجمع عسكري هام ، وقاعدة انطلاق لأسطولها البحري الذي في إمكانه الوصول إلى ضرب الأهداف المحددة له سواء في البحر العربي ، أو الخليج العربي أو المحيط الهندي بأسرع وقت ممكن . [c1]عدن جائزة لإنجلترا[/c] والحقيقة أنّ السلطنة العثمانية كانت تدرك تمام الإدراك أهمية عدن بالنسبة لإنجلترا ، فقد طلبت من الأخيرة مساندتها ضد محمد علي باشا التي قويت شوكته الحربية ، ونفوذه السياسي في أملاكها في الحجاز ، ونجد ، واليمن وذلك مقابل سكوت الباب العالي العثماني على احتلال إنجلترا لميناء عدن . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : " . . . استطاعت ( إنجلترا ) أنّ تحصل على موافقة الباب العالي على احتلال ميناء عدن ، وكانت وجهة نظر السلطان هو دفع بريطانيا وإغرائها في مساندته ضد والي مصر محمد علي باشا الذي استطاع أن يكّون إمبراطورية عربية خارجة على السلطان " . أو بالأحرى ، كانت عدن جائزة ثمينة لإنجلترا في مقابل وقوفها مع السلطنة العثمانية ضد والي مصر محمد علي باشا الذي بسط نفوذه السياسي في الحجاز ، ونجد ، واليمن ـــ كما أسلفنا ـــ . والحقيقة أنّ إنجلترا العظمى كانت ترى في وجود قوات محمد علي باشا في اليمن تهديداً صريحاً على مستعمرتها في عدن ولذلك عملت بكل الوسائل وشتى السبل على إخراج والي مصر محمد علي باشا من اليمن وبالفعل انسحبت القوات المصرية من الأراضي اليمنية في سنة 1840م بناء على معاهدة لندن التي قضت على كل مشروعاته الكبرى و أهمها على الإطلاق تأسيس دولة مصرية قوية من ناحية وتكوين الدولة العربية الكبرى التي قاعدتها مصر وجناحيها بلاد الشام ، وبلاد السودان التي كادت تخرج إلى حيز الوجود ولكن الدول الأوربية روسيا ، و فرنسا وإنجلترا وإلى جانبهم السلطنة العثمانية وقفوا ضد ذلك المشروع الكبير بالمرصاد الذي كان يهدد نفوذهم السياسي ، ومصالحهم الاقتصادية , وتم القضاء عليها قضاءاً مبرماً . ومن بين نصوص معاهدة لندن هو أنها منحت محمد علي باشا " ولاية مصر تنتقل بالإرث لمحمد علي باشا ، وأولاده وأولاد أولاده الذكور بصورة أنّ يتولى الأكبر فالأكبر فيقلده الباب بالعالي منصب الولاية كلما خلا هذا المنصب من وال " . وهذا يعني أنّ محمد علي باشا ، قد تقلصت وانكمشت حدوده السياسية في داخل حدود مصر مثلما تقلصت أحلامه السياسية الكبرى. وعلى أية حال ، غربت شمس حياة محمد علي باشا سنة ( 1365هـ / 1849م ) عن سماء الأحداث التاريخية المصرية بل والوطن العربي . ولقد أجمع المؤرخون بأنه كان أعظم شخصية ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر ، وأنه بانِ نهضة مصر الحديثة . ولقد ذكره المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م بأنه كان عبقري عصره وزمانه .[c1]عدن والأمن الغذائي[/c]والحقيقة أن السياسية الإنجليزية رسمت خطة إستراتيجية لعدن منذ أنّ وضعت قدميها فيها وهي أن تكون دائماً وأبداً في مأمن من الاختناقات والكوارث الاقتصادية ، فعمدت أن تصل إليها المؤمن الغذائية دون انقطاع . وهذا ما أكده هارولد انجرامز ، قائلاً : " وكان هينس ــ القبطان الإنجليزي الذي احتل عدن سنة 1839م ــ قد أدرك منذ البداية ضرورة التفاهم مع القبائل التي كانت تسيطر على المناطق القريبة ، لأنها كان يمكن أنّ تعرقل التجارة البرية ووصول أنواع المؤن التي كانت تعتمد عليها عدن " . ويلفت نظرنا أيضاً أنّ الإنجليز من أجل أنّ تصل المؤن الغذائية إلى عدن بصورة مستمرة فقد سيطروا على مينائي زيلع وبربرة بهدف " استمرار تزويد عدن بالمواد الغذائية من الساحل الصومالي المواجه " لعدن . ونستخلص من ذلك أنّ إستراتجية إنجلترا في مجال الأمن الغذائي هو تأمين المواد الغذائية لقواتها المتواجدة في عدن عن طريقين الطريق البري الداخلي والطريق البحري من الصومال . وزاد اهتمام إنجلترا بتأمين البضائع والسلع الغذائية إلى عدن إثناء الحرب العالمية الأولى ، فعملت على السيطرة على سواحل شرق أفريقيا حتى تؤمن وصول المواد الغذائية إلى مستعمرة عدن المتواجدة فيها جنودها بصورة دائمة . وعندما تجمدت الأوضاع العسكرية بين القوات العثمانية في لحج والقوات الإنجليزية في عدن ، وعادت الحياة الطبيعية إلى مجراها ، واعتنى أهل لحج بالزراعة ، فكانت السلطات الإنجليزية تسمح بمرور تلك المحاصيل الزراعية بل وتشجعها إلى دخول مستعمرتها في عدن وذلك ضمن خطة إستراتيجية تأمين الغذاء التي تحدثنا عنها قبل قليل .[c1]" نمر من ورق "[/c]والحقيقة أنّ إنجلترا التي تعد أقوى دولة بحرية في العالم ـــ حينذاك ـــ عندما دخلت حلبة التنافس السياسي بينها وبين السلطنة العثمانية لكسب وتأييد الأمراء ، والمشايخ ، والحكام المحليين في الجزيرة العربية ، والخليج العربي لصفهم . كانت كفة الموازين السياسية تميل لصالحها. أما السلطنة العثمانية . فقد دخلت التنافس في جزيرة العرب ، والخليج العربي في وقت كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وتتوارى عن الأبصار عن مسرح الأحداث التاريخية في المنطقة العربية وتحديداً في جزيرة العرب ، والخليج العربي . وهذا ما دفع بالسفير الروسي في لندن يبث في أذن وزير الخارجية الإنجليزية ، قائلاً " بأن السلطنة العثمانية باتت ورق من نمر " . كأنه ينبه الوزير الإنجليزي ، أنّه قد حان تقسيم أملاكها فيما بينهما . وفي واقع الأمر ، أنّ إنجلترا كانت تدرك تمام الإدراك أنّ السلطنة العثمانية وخاصة في مطلع القرن التاسع عشر ضعفها كان ماثلاً للعيان ، ولكن إنجلترا كانت ترى أنّ الوقت غير مناسب للانقضاض على أملاك السلطنة ، وأنّ عليها أن تتريث حتى تكون الأجواء الدولية مناسبة لاحتلال أملاكها الشاسعة المترامية الأطراف . " فقد كانت ـــ إنجلترا ـــ تكره حينذاك وجود قوة أوربية على ساحل البحر الأفريقي حرصاً منها على سلامة (( الشريان الحيوي )) وخاصة بعد فتح قناة السويس ( 1869م ) . فنراها ترفع عندئذ شعار (( الحق الشرعي )) للسلطنة العثمانية . . . " .[c1]المعاهدات السرية[/c]والحقيقة لقد شهدت الجزيرة العربية بصفة خاصة والخليج العربي بصفة عامة سباقاً محمومًا بين السلطنة العثمانية و إنجلترا لضم إمارات ومشايخ المنطقة لصفوفهما ، ولكن النصر كان للأخيرة بسبب أساطيلها البحرية القوية ــ كما قلنا سابقاً ـــ ، فقد كانت سيدة البحار دون منازع حينذاك ، فضلاً عن ذلك فقد أتاحت الأوضاع السياسية لإنجلترا أن تكون لها اليد الطولى في تلك المنطقة الحساسة من الوطن العربي بسبب التنافس والتنازع ، والصراعات بين أمرائها ، ومشايخها ، وحكامها المحليين . وفي واقع الأمر ، لقد كان الغالبية من مشايخ ، وأمراء ، وحكام تلك المنطقة يدركون أنّ القوة الحقيقية تكمن في إنجلترا وأن مصالحهم معها وليس مع الدولة العثمانية التي جنحت شمسها إلى المغيب . لقد تحدثنا قبل قليل أن الجزيرة العربية ، والخليج العربي شهدتا تنافسًا شديداً بين إنجلترا من جهة والسلطنة العثمانية من جهة أخرى وقلنا أيضًا أن كفة الميزان مال لصالح إنجلترا للأسباب التي ذكرناها قبل قليل ، وكانت إنجلترا تعتبر أن الجزيرة العربية جزء من مواصلاتها الهامة إلى الهند و الشرق الأقصى ولا يمكن التفريط بذلك الشريان الحيوي وهو البحر الأحمر . وعلى أية حال ، تمكنت إنجلترا أن تعقد عددًا من المعاهدات السرية والعلنية مع أمراء ومشايخ الخليج العربي و الجزيرة العربية " مع الكويت في 3 نوفمبر 1914م ، ثم مع الإدريسي في 30 إبريل 1915م ، ومع سلطان نجد ابن سعود في ديسمبر 1915م ، وأعلن الشريف حسين ثورته ضد تركيا في يناير 1916م ، بعد المراسلات الطويلة المعروفة باسم مراسلات حسين ـــ مكماهون ". والأمير الوحيد الذي انضم إلى السلطنة العثمانية هو ابن الرشيد أمير حائل الذي كان العدو اللدود لأبن السعود .[c1]العثمانيون يتقهقرون[/c]وأما السلطنة العثمانية التي كانت تحاول قدر المستطاع أن تكسب ود أمراء ومشايخ الخليج العربي و الجزيرة العربية إلى جانبها مثلما فعلت إنجلترا عدوتها اللدود ونجحت في ذلك نجاحًا كبيرًا ـــ كما قلنا سابقاً ـــ وحاولت أن تكسب السلطنة العثمانية إلى صفها شخصية تحتل مكانة دينية كبيرة وهو الشريف حسين ولكنها فشلت السلطنة في مسعاها ذلك فشلاً زريعًا . بسبب أنّ الشريف الحسين كانت لديه طموحات سياسية واسعة في الجزيرة أصدمت بسياسة العثمانيين . فقد كان الشريف حسين ذا شخصية قوية تنزع إلى الاستقلال " إذ عمل منذ وصوله مكة على جذب القبائل حوله وحول الأشراف . . . لهذا خشي الاتحاديون ( الأتراك ) هذه الشخصية التي تريد أنّ تثبت وجودها في بقعة داخل إمبراطوريتهم . . . " . ومثلما فشلت السلطنة العثمانية أن تضم الشريف حسين إلى جانبها , فقد فشل العثمانيون في مسعاهم أيضًا بضم شخصية مؤثرة في الجزيرة العربية وهو ابن سعود . وكانت حجته بعدم الانضمام إلى صفها هو أنه " يخشى أن تضرب بريطانيا من البحر سواحله . . . إذا انضم صراحة إلى تركيا " . وأما الإدريسي والذي كان مقر حكمه ودولته في جيزان ، فقد وجد في تحالفه مع إنجلترا فرصة ثمينة لتقوية جانبه ضد خصومه السياسيين . فقد " أسرع الإدريسي إلى التحالف مع بريطانيا لعدائه القديم مع تركيا . . . " . [c1]سلطان لحج والعثمانيون[/c]وعند مطلع الحرب العالمية الأولى ، حاول محمود نديم بك والي اليمن الاتصال بسلطان لحج علي بن أحمد العبدلي لكسبه لصفه أو بالأحرى إلى صف القوات العثمانية التي كانت تتأهب في الزحف على عدن بطرد الإنجليز منها ، وقطع خطوط المواصلات البحرية في البحر الأحمر الذي كان يمثل الشريان الحيوي لإنجلترا إلى الهند ــ كما قلنا سابقاً ـــ . وعلى أية حال ، فقد كان السلطان ( علي ) مطلع على دقائق مجريات الأمور في السلطنة العثمانية فقد كان يعلم علم اليقين الأوضاع المتدهورة التي تعيشها السلطنة ، وأنها لا تستطيع أنّ تحرك ساكناً في جبهة القتال في اليمن أو غيرها من البلدان العربية أو بالأحرى أنّ العثمانيين أضعف من هزيمة الإنجليز في الحرب ، ودليل على فهم السلطان العبدلي لأوضاع السلطنة العثمانية البائسة في مطلع الحرب ، عندما أبدى دهشته من دخول السلطنة العثمانية الحرب مع المانيا القيصرية ، قائلاً : " أنّ الدولة العثمانية خاطرت بكيانها بسبب دخولها في هذه الحرب " . والحقيقة أنّ سلطان لحج ، كانت له رؤية واسعة وشاملة عن الحرب العالمية الأولى التي تدور رحاها سياسياً وعسكرياُ على كثير من المناطق العربية الهامة والحساسة والتي لها تأثيرات عميقة في سير المعارك القتالية مثل الجزيرة العربية ، والخليج العربي بصورة عامة وسواحل اليمن بصورة خاصة . وذكر عبارة تدل عن عمق كبير في رؤيته لأحداث الحرب ، بأن اليمنيين ليس لهم ناقة ولا جمل في تلك الحرب الضروس .[c1]طرد الإنجليز من عدن [/c] والحقيقة لقد أعرب السلطان ( علي ) عن انزعاجه الشديد عن المعلومات التي استقاها من مصادر مسئولة ومقربة من والي اليمن محمود نديم بك ، بأن القوات العثمانية تنوي الزحف على عدن بهدف طرد الإنجليز منها . ولقد أرسل سلطان لحج رسالة إلى الوالي العثماني في اليمن يحذره من مغبة إقدامه على تلك الخطورة الخطيرة التي من شأنها أنّ تجر على اليمن واليمنيين الويلات ، والكوارث الاقتصادية الكبيرة ، قائلاً : "أنّ أية تحرك من قبل القوات العثمانية المتواجدة في اليمن على عدن بهدف طرد الإنجليز منها ستكون لها عواقبها الخطيرة حيث ستحاصر الأساطيل البحرية الإنجليزية سواحل اليمن " . وقد تقوم البوارج الإنجليزية بضرب بعض تلك السواحل مما ينتج عنه أزمة اقتصادية خانقة بل كارثة اقتصادية ، وإنسانية ستلقي بظلها البشع والثقيل والخطير على اليمن واليمنيين . وهذا نص محتوى الرسالة التي بعثها السلطان اللحجي إلى الوالي العثماني في اليمن ، قائلاً : " أنّ نزول الأتراك لمحاربة عدن سيكون ضرراً عائداً على أهل بر اليمن ، بسبب الحصر البحري ، الذي تضربه بريطانيا العظمى على سواحل اليمن . والأولى أن يسعى مشايخ اليمن في تسكين حركات الأتراك ، ويقنع السلطان حكومة عدن أنّ لا تحصر سواحل اليمن ، وتعتبر اليمن أرضاً عربية محايدة . . . " .[c1]عدن وحملة علي سعيد باشا[/c]والحقيقة أنّ تحرك الحملة العثمانية بقيادة علي سعيد باشا قائد القوات العثمانية في اليمن نحو عدن لطرد الإنجليز منها و الاستيلاء يعد ضرباً من ضروب العبث العسكري ـــ إذا صح ذلك التعبير ـــ فالقوات العثمانية الجاثمة في اليمن ، كانت أضعف أن تستولي على عدن سندريلة الإمبراطورية البريطانية والذي وضعت كل ثقلها العسكري فيها نظراً لموقعها العسكري الخطير والاستراتيجي الهام والتي تعد برج مراقبة ، ومركز تجمع ، ونقطة انطلاق لأساطيلها البحرية ـــ كما أسلفنا سابقاً ـــ والحقيقة أنّ عدن كانت المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر. وهذا العامل الجغرافي نفسه كافي أنّ تجعل إنجلترا تحافظ عليه أو بعبارة أخرى أنّ تلقي بكل ثقلها عليه . وهذا يعني أنّ إنجلترا تشبثت بموقع عدن الاستراتيجي الهام والخطير بغرض أن يكون الطريق البحري مفتوحاً إلى الهند والشرق الأقصى لكونه كان يمثل لها الشريان البحري الحيوي لها . فكان من الطبيعي أنّ تحصن عدن ومينائها تحصيناً قوياً وبتعبير آخر أنّ تلقي بكل ثقلها العسكري في عدن . فسيطرة العثمانيين على عدن كان من المستحيلات في العرف العسكري . ويبدو أنّ القادة العثمانيين الكبار في الآستانة ، كانوا يضعون الخطط العسكرية وهم بعيدين كل البعد عن الحقائق الجارية على الأرض . أو بالأحرى أنّ المعلومات العسكرية عن عدن ، كانت محجوبة عنهم أو يشوبه الضبابية . فلم يعلموا قدرة وقوة إنجلترا العسكرية الضخمة والعملاقة في عدن التي كانت تمثل لها حياة أو موت , وأنها كانت تعد أقوى المراكز البحرية الإنجليزية في العالم حينذاك وأنه من الصعوبة بمكان أن تزحزح القوات العثمانية بقيادة علي سعيد باشا الإنجليز من عدن قيد أنملة .[c1]عدن الحصينة [/c] وهذا ما جعل الواسعي يصف عدن بأنها أمنع البلاد ، وأحصنها التي لا يمكن اختراقها أو حتى الاقتراب منها أو المساس بها من قبل الآخرين بسبب القوة العسكرية الضخمة الإنجليزية المرابضة فيها ، قائلاً : " فعدن ، ثغر بديع يشرف على الخليج المسمى باسمه . وقد حصنه الإنكليز تحصيناً لا يمكن أنّ يؤخذ من أيديهم إلاّ بقوى خارقة العادة . ولا سيما أنّ موقعه بين جبال ، وآكام آخذة بعضها برقاب بعض من جميع جهاتها ، اللهم من جهة البحر ؛ لكن بوارجهم ، ومدرعاتهم ومدافعهم الضخمة ، تجعل الأمر مستحيلاً ، لأنها لا تعرف الرحمة والشفقة . ولهذا لا يمكن أنّ تؤخذ من تلك الفجوة " . ويضيف ، قائلاً : وقد حاول اليمانيون مرارا لا تحصى استرجاع المدينة ، ولكنهم باؤوا خافقين ، لأن البريطانيين حصنوها تحصيناً منيعا . . . فإن الطيارات التي أتوا بها إليها جعلت هذا الثغر الحصين ، من أعظم البلايا على العرب ( يقصد اليمنيين ) في تلك الأرجاء . ويستحيل عليهم استرجاعه بأي وسيلة كانت " . ويوضح الواسعي الأسباب التي جعلت الإنجليز يتشبثون بعدن ويحصونها ذلك التحصين القوي . قائلاً : " والإنكليز يعلمون أنّ هذا الثغر هو حياتهم " ، أي حياة تجارتهم ، وحياة الاحتفاظ بالهند ، بل أصبحت اليوم ( عدن ) ، سرة عالم التجارة , وواسطة القلادة التي تجمع الغرب إلى الشرق ، فإذا خسر البريطانيون هذا الثغر ، عرّضوا للفناء ممتلكاتهم في الشرق الأقصى ، وبارت تجارتهم التي هي حياة بلادهم ، وحياة أهاليهم أنفسهم " .[c1]عدن جزء من الخطة الحربية[/c]ويكشف لنا الدكتور سيد مصطفى سالم النقاب عن الخطة العسكرية العثمانية الألمانية المتعلقة بطرد الإنجليز من عدن ، والسيطرة عليها ، وقطع خطوط المواصلات البحرية في البحر الأحمر الشريان الحيوي للإنجليز إلى الهند والشرق الأقصى ومن ثم تشل حركة الإنجليز في قناة السويس التي ستهاجمها القوات العثمانية والألمانية المشتركة في وقت واحد فيقول : " . . . بناء على خطة الدولة العثمانية عامة ومن ورائها ألمانيا ، وهي طرد الإنجليز من عدن واحتلالها ، واحتلال جزيرة بريم ، وهما مفتاح البحر الأحمر الجنوبي ، وبذلك يعطلون مواصلات بريطانيا . وكانت مهاجمة عدن جزءاً من خطة مهاجمة الإنجليز في مصر والاستيلاء على قناة السويس حتى يحرموا بريطانيا من أهم طريق حيوي في مواصلاتها الإمبراطورية " . وهذا دليل واضح على مدى الأوهام التي سيطرت على تفكير القادة العثمانيين والألمان معاً في طرد الإنجليز من عدن .[c1]العثمانيون في لحج[/c]والحقيقة أنّ تلك الخطة العسكرية العثمانية الألمانية ، كانت خطة طموحة أكبر من طاقات وقدرات وإمكانيات العثمانيين العسكرية. وبالرغم أنّ قوام الحملة العثمانية على عدن كانت ضخمة . فقد بلغت تعداد قواتها ألفي جندي تركي ، بالإضافة إلى أربعة آلاف يمني متطوع فضلاً عن المدافع الثقيلة التي كانت في حوزة الحملة . والحقيقية أنّ تلك القوة العثمانية كانت كافية أنّ تهزم القوات اللحجية ، ولكنها كان من الصعوبة بمكان أنّ تنتصر على الإنجليز في مستعمرة عدن . ودليل ذلك فإن تلك الحملة العثمانية على عدن لم تحقق أهدافها العسكرية المرسومة لها وهي نزعها من يد الإنجليز . على أية حال تمكنت حملة على سعيد باشا من السيطرة والاستيلاء على لحج في الخامس من يوليو سنة ( 1333هـ / 1915م ) . فقد رأت إنجلترا أنّ الحفاظ على عدن لا يمثل لها أهمية حربية خطيرة في الوقت الراهن , ولذلك تركت لحج دون مقاومة تذكر , فتركتها فريسة سهلة للعثمانيين . وركزت كل قوتها في عدن . والجدير بالذكر ، كان القادة العسكريين الإنجليز يدركون تمام الإدراك أنّ الحرب الفاصلة كانت تدور رحاها في جبهة السوم في فرنسا أمام القوات الألمانية القيصرية . وكان ذلك ما حدث بالفعل عندما تمكنت القوات الإنجليزية والفرنسية معاً من اختراق الجبهة الألمانية في السوم ودحرهم , فقد كان ذلك إيذانا بتغير كفة ميزان الحرب لصالحهما , وهزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى .[c1]العثمانيون في الشيخ عثمان[/c] وكيفما كان الأمر ، فقدّ سيطرت القوات العثمانية على لحج ، وتحديداً على الحوطة عاصمة السلاطين العبادلة ، فأسرع علي سعيد باشا المعروف بحنكته العسكرية بالزحف مباشرة إلى الشيخ عثمان قبل أنّ تفيق القوات الإنجليزية من صدمتها التي تلقتها في لحج . وبالفعل تمكن العثمانيين من الدخول الشيخ عثمان وهي أقرب نقطة من عدن ، ولكن سرعان ما ردت على أعقابها ، وعادت أدراجها إلى لحج . وحول سقوط الشيخ عثمان بيد العثمانيين ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " وفي ميدان آخر كان الإنجليز تحت ضغط القوات العثمانية الزاحفة ، قد اضطروا إلى إخلاء (( الشيخ عثمان ) ، وهي تعتبر ضاحية لعدن نفسها ـــ فأحتلها الترك والعرب ( يقصد اليمنيين المتطوعين ) في الحال ، ولكن الإنجليز تمكنوا ثانية من احتلالها في 21 يوليو سنة 1915م ، بعد أنّ وصلت إليهم نجدة عسكرية من مصر لإنقاذ عدن ، وللمحافظة على مركزها الهام " . ويضيف ، قائلاً : " ومن المعروف أنّ حكومة عدن أرسلت ـــ في هذا الوقت الحرج ـــ تستنجد بفرنسا في جيبوتي ، فأمدتها بحوالي 800 جندي من مدغشقر ، كما أرسل الجنرال مكسويل ـــ القائد العام في القاهرة ـــ فرقة هندية للمساعدة أيضاً" . [c1]" إشغال الإنجليز في عدن "[/c]وكيفما كان الأمر ، فإن الخطة العثمانية الألمانية التي ذكرناها سابقاً وهي أنّ تقوم القوات العثمانية في اليمن بطرد الإنجليز من عدن ، واحتلال جزيرة بريم لكونهما يمثلان المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر . قد فشلت فشلاً ذريعاً بسبب قوة إنجلترا العظمى . وهذا ما دفع بأمين الريحاني بأن الغاية من حملة علي سعيد باشا التركي هو مناوشة القوات الإنجليزية في عدن وليس احتلالها " ولم يكن قصده ( علي سعيد باشا ) غير إشغال الإنجليز هناك " .وفي نفس السياق ، يقول الأمير اللحجي أحمد فضل العبدلي المعروف بـ ( القومندان ) ، : " جاء هؤلاء الأتراك من أعالي جبال اليمن متيقنين بعجزهم عن أنّ يمسوا عدن الحصينة بسوء ، فلا يقصدون غير أذيتنا في بلادنا " . والحقيقة أن الخطة العثمانية الألمانية التي وضعها القادة العسكريين العثمانيين والألمان ، تدل على أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن الحقائق القائمة على الأرض ودليل ذلك هو أنهم عندما حاولت قواتهم الاقتراب من قناة السويس ، منيت بهزيمة قاسية . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ القوات العثمانية التي كان يرأسها قادة ألمان ، منيت بالهزيمة قبل أن تبدأ معركة قناة السويس . [c1]وتجمد الموقف العسكري[/c]وكان من نتائج فشل حملة علي سعيد باشا في الشيخ عثمان ، وانسحابها منها في غضون أيام قليلة إلى لحج هو أنّ تجمد الموقف العسكري بين الأتراك والإنجليز لنحو أربع سنوات . " فقد دفع تجمد الأوضاع جميع هذه الهيئات والفئات إلى الالتفات والبحث عن مطالب الحياة الضرورية ، والعمل على الحصول على مستلزماتها . فبدأت الحالة تعود إلى مجراها الطبيعي ، وبدأ الناس يعودون إلى الزراعة والتجارة ، واستئناف الحياة العادية ، لأن الأهالي والعساكر شرعوا يزرعون ، ويشتغلون ، فازدهرت بالاخضرار والثمار ، تلك البقعة الخصبة التي تستقي من فرعي وادي تبن بل الأكثر من ذلك أنّ القائد التركي ـــ علي سعيد باشا ـــــ سمح للقوافل بالمرور حرة إلى عدن ، لأنه يحصل بذلك على ضرائب انتقال ، وكان الإنجليز يسمحون بذلك أيضاً , وذلك بناء على ما قاله جيكوب : (( لمصالح أصدقائنا الذين يعتمدون على عدن في الحصول على احتياجاتهم حتى لا تحدث كارثة )) . وعقب أمين الريحاني ساخراً حول عودة مجرى الحياة الطبيعة بين الأتراك في لحج والإنجليز في عدن ، قائلاً : " تم الصلح بين الحلفاء ودول الوسط أو بالأحرى بين ممثليهم في عدن ولحج قبل أنّ تنتهي الحرب بسنتين " . [c1]علي سعيد باشا في عدن[/c]وفي سنة 1918م ، أعلنت الهدنة ، وفرض الحلفاء إنجلترا ، وفرنسا ، وإيطاليا شروطهم " التي تقضي بتسليم الجنود العثمانيين باليمن ، والمدينة المنورة ، وعسير مع معداتهم وأسلحتهم . وعندئذ كان على العثمانيين في اليمن أنّ يسلموا أنفسهم للإنجليز ، وكان ذلك أمراً حتمياً تفرضه ظروف الحرب العالمية العامة " . وبناء على ذلك . فقد ذهب على سعيد باشا قائد القوات العثمانية في اليمن من لحج إلى عدن لتسليم نفسه " وكان معه حوالي ألف جندي فاستقبل فيها استقبالاً طيباً ، (( ودخل المدينة لا كالمهزوم بل كالفاتح المنصور )) . ويصف جيكوب شخصية القائد التركي علي سعيد باشا ، قائلاً : " وقد دخل علي سعيد باشا عدن دخول المنتصر ، فقد قابلته الجماهير هاتفة له ، وذلك لأنه حارب بيدين نظيفتين . وكان جندياً ممتازاً ، وكذلك إدارياً من الدرجة الأولى ، وقد أكسبته شخصيته عند زحفه إلى الجنوب كثيراً من الأصدقاء " . وكيفما كان ألأمر ، فقد نقل الجنود العثمانيين في اليمن المتمركزين في (( اللحية )) و (( الحديدة )) إلى عدن على ظهر السفن " إلى جزيرة مالطة ثم إلى الأناضول ، وكان تسليم الأتراك هذا بناء على أوامر الآستانة " .[c1]الهوامش : [/c]د . فاروق عثمان أباظة ؛ عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر 1938ــ 1918م ، سنة الطبعة 1987م ، الهيئة لمصرية العامة للكتاب . محمد فريد بك المحامي ، تحقيق الدكتور إحسان حقي : تاريخ الدولة العلية العثمانية ، الطبعة الثانية 1403هـ ـــ 1983م ، دار النفائس بيروت . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية . الناشر : صنعاء ـــ دار الميثاق للنشر والتوزيع 2006م .د / سيد مصطفى سالم ؛ تكوين اليمن الحديث ، الطبعة الثالثة ، سنة الطبعة 1984م ، توزيع مكتبة مدبولي بالقاهرة 6 ميدان طلعت حرب . عبد الواسع بن يحيى الواسعي ؛ تاريخ اليمن ، الطبعة الثانية ، سنة الطبعة 1366هـ ــــ 1947م ، مطبعة حجازي بالقاهرة . أحمد فضل العبدلي ؛ هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن ، حققه وضبط نصه وعلق عليه : أبو حسان خالد أبا زيد الأذرعي ، الطبعة الأولى 1425هـ ـــ 2004م ، الناشر : مكتبة الجيل الجديد . اليمن ـــ صنعاء ــــ . Harold F . Jacob. Kings of Arabia , London. London. 1923.
|
تاريخ
عدن في الحرب العالمية الأولى
أخبار متعلقة