قصة قصيرة
نجاح حميد عقلان الشامي:سحبتني قدماي ببطء وامتدت يدي لتفتح باب الحمام دون أن أشعر، أدارت صنبور المياه على آخره فانسكب الماء كشلال فوق رأسي وذراعي مغرقاً ما تبقى من الجسد الذابل، دفنت وجهي بين كفي وبكيت بمرارة، حتى اللحظة مازلت أخفي حزني وهواجسي وجنوبي، كنت على يقين أن شلالات الماء ستمحو دموعي، لكني لم أشعر الا بحرارتها وغزارتها.شعرت إن قدمي اليسرى ليست مني، وأن ذراعي تتكسران وتتيبسان كحطبتين، بعدها لملمت نفسي لأخرج من ذلك الصراع والخراب المميت، فتحت الباب وخرجت بتثاقل، طبعت قدمي المبتلتين على سجاد الممر وقطرات الماء تتسحب من ثيابي لتبلل الأرضية، كان شعري الممزق وجسدي الباهت إثر ساعات طويلة تحت إعصار الماء والبرد غارقين تماماً وكنت أبحث عن أقرب حضن لأرتمي فيه أغوص بحرماتي.وصلت غرفتي فركلت بإحدى قدمي بابها شبه المفتوح، اقتربت من السرير وقذفت نفسي فيه بقوة، مددت يدي المتعبتين أتحسس أقرب وسادة لأضعها تحت رأسي المنهوك، ثم أغمضت عيني بعمق.كان المطر يصفع زجاج النافذة المعلقة أعلى رأسي بخبث، وكنت منهوكة حينها بما فيه الكفاية، فلم أحتمل النهوض لإحكام إغلاقها، واكتفيت بطمأنة نفسي أني ميتة، فما حاجتي الى أن أغلق النافذة إذاً وما جدوى خوفي من المطر.رشقت قلبي المشروخ، لأتدحرج بين أصوات تلك النسوة اللاتي ضج بهن مجلسنا اليوم، كن يقصدن لقائي، لكني هرولت بعد أن تقيأت قسوة نظراتهن المتطفلة وأسئلتهن الفارغة، رأيت وجه أمي الملائكي مكفهراً محاولة ـ دون جدوى ـ ابتلاع حسراتي وامتصاص حزني، أشباح تلك العجائز اللاتي هربت منهن يعلقن بأصوات مرتعشة ونبرات ساخطة:لماذا توصدين الأبواب أمامك ؟!ما فائدة بقائك كالبيت الخرب؟هل مازلت طفلة، وكل من أحبوك دمى تتسلين بهم؟هه، هاهي النتيجة، ابنة السادسة عشرة عاماً .. مطلقة؟مسكينة يا ابنتي ، ماذا جنيت ليكون هذا نصيبك؟كان الفارق الوحيد بين الأمس، واليوم أني احتفيت (بطلاقي) احتفالاً صاخباً رفعت صوت جهاز المسجل ليدوي ملعلعاً في فضاءات المدينة وعمقها، ورقصت كثيراً على صخبه.أما هو فكان واقفاً في شرفة منزله بنظراته الحادة، يمسح زجاج النوافذ المشرعة، مكبرات الصوت المشنوقة على قضبانها، يسبها ويلعنها ويشتمها بحرقة ..وكنت سعيدة بأني كسرته .. قهرت ذكوريته، حطمت سجنه، طوحت به في فراغات مخاوفي وحيرتي، نزقي وحنقي وغضبي على كف أبي الرابض تحت منديل أبيض ساذج مباركاًَ موتي بقلة حيلة.