ظللت لفترة من الزمن ــ أظنها استغرقت عدة سنوات ــ اسكن في غرفة صغيرة متواضعة في الدور العلوي لبيتنا المبني من الطين مع الروائي الكبير نجيب محفوظ في قريتنا الديس الشرقية الواقعة في أقصى الشرق الحضرمي.كان ذلك أول عهدي به. ولا أدري ماهي الظروف التي رمت به في ذلك الركن من الريف القصي حيث غابات النخيل، وبيوت الطين، والعيون الكبريتية المتفجرة من باطن الصخور وهو الذي لم يعرف سوى العيش في مدينة القاهرة والكتابة عنها، وعن حياة سكانها، بل ويعترف انه لايجيد الكتابة عن الريف وحياة الناس فيه.لكن ربما كان من حُسن حظي أن الظروف قد قادته إلى قريتنا التي اصبحت اليوم مدينة مترامية الأطراف، والسكن في نفس الغرفة الصغيرة التي اخترتها من بين جميع غرف الدار لتصبح سكننا المشترك.والحقيقة ان نجيب محفوظ لم يكن الساكن الوحيد معي في تلك الغرفة الطينية بل كان يسكنها معنا أيضاً يوسف السباعي واحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله ومحمود تيمور، وطه حسين وعباس العقاد، وجرجي زيدان،وتوفيق الحكيم، وعلي أحمد باكثير، ثم انضم اليهم يوسف ادريس في وقت لاحق.ليس ذلك فحسب، بل عاش معنا في نفس الغرفة أدباء روس وإنجليز وفرنسيون وأمريكا من أمثال تولستوي، ديستوفسكي، تشيخوف، واليوت، وشكسبير،وكولن ولسون، وهوجو، وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وهمنجواي، وجون تشابنيك، ولا أدري كيف اتسعت تلك الغرفة على صغرها لكل هذا العدد من الأدباء والكتاب من مختلف الأجناس، وتعدد اللغات والثقافات،ولكنني كنت سعيداً بوجودهم معي، وبأنستهم لوحشتي وسط ذلك الظلام الذي يحيط بالغرفة من كل مكان إلا من ضوء خافت ترسله "لمبة الجاز" التي كانت وسيلة الإضاءة الوحيدة في قريتنا تلك حيث لم تكن قد عرفت الكهرباء إلا بعد ذلك بسنين ان لم تكن عقوداً.هنا لأول مرة تعرفت على نجيب محفوظ، وكان هو نفسه لازال شاباً في مقتبل عمره لكنه كان قد اكتسب شهرة واسعة عن طريق أدبه وما أصدره من روايات كانت تجد طريقها من القاهرة حيث يقيم، إلى مختلف أنحاء الوطن العربي. ومن حُسن طالعي ان تلك الروايات وصلت إلى قريتنا، بل إلى دارنا بالذات واستقرت هناك في خزانة مع غيرها من الكتب في تلك الغرفة الصغيرة التي ازدحمت بكتاب كبار من مختلف القارات كان من بينهم وربما في مقدمتهم أديبنا العربي الكبير نجيب محفوظ شريكي في تلك الغرفة لعدد من السنين التي اعتبرها من أجمل وأخصب سنوات تكويني الثقافي.لا أذكر على وجه التحديد عنوان أول رواية قرأتها للأديب والروائي العربي الراحل نجيب محفوظ، لكنني أذكر جيداً أنني انهمكت في قراءة مجموعة من رواياته دفعة واحدة. ومن بين تلك الروايات ثلاثيته الرائعة :"قصر الشوق ـ بين القصرين ـ السكرية" وروايات اخرى مثل : "زقاق المدق، اللص والكلاب، الشحاذ، السمان والخريف، السقامات، الطريق، بداية ونهاية"، وغيرها من روايات نجيب محفوظ التي كانت تزخر بها مكتبة أخي محفوظ الذي كان عاشقاً كبيراً لأدبه، وقارئاً نهماً لاتفوته رواية جديدة تنزل السوق من روايات نجيب محفوظ وسواه من الكتاب دون ان يقتنيها.وقد بلغ إعجابه به وبأدبه أنه أطلق اسمه على ابنه الثاني الذي يحمل اليوم اسم الأديب العالمي الذي فقدناه مؤخراً عن 92 عاماً زاخرة بالعطاء والإبداع الذي جعل منه واحداً من حملة "نوبل" للآداب، وأول عربي يحظى بهذه الجائزة العالمية.كانت روايات نجيب محفوظ ـ رحمه الله بإذنه ـ اكتشافاً مذهلاً بالنسبة لي. ولم يكن سني حينها قد تجاوزت الثانية عشرة إلا بقليل .. ولعله من بين آخرين من كتاب الرواية والقصة هو من حبب إلى نفسي هذا العالم المذهل بكل ما يحويه من خيال، وما يزخربه من واقعية، وما يصوره من واقع ويتخيله من تفاصيل، ويستحضره من شخصيات، ويجليه من تداعيات وأفكار ومواقف، ويكشفه من الواقع بسلبياته وإيجابياته.وليس ذلك فقط هو ما جعل هذا العالم قريباً إلى نفسي، بل تلك اللغة السلسة التي يصور بها محفوظ الأحداث والوقائع ويرسم بها الشخصيات ويوجه بها المصائر .. ذلك المعمار الفني المسبوك بعناية،وذلك الرصد الدقيق للحارة المصرية والطبقة الوسطى وتحولات المجتمع المصري خلال فترات تاريخية معاصرة ماكنا لنقدر على فهمها على ذلك النحو لولاه.وبعد ذلك لم أترك رواية من روايات الكاتب الكبير التي صدرت له تباعاً طوال العقود اللاحقة لعقد الستينيات من القرن المنصرم إلا وقرأتها بإمعان والتي جعلت من نجيب محفوظ مهندس الرواية العربية بامتياز، وأحد الذين يقفون على هرم الرواية العالمية.وما من روائي من الأجيال المعاصرة له، أو التالية له إلا واعترف بفضل ريادته، ناهيك عن تأثر أجيال اخرى بأدبه وفنه بطريقة أو بأخرى.ولا أقصد هنا تقليده بل السير في الطريق الذي عبده بعشرات الروايات التي كتبها وصارت جزءاً أصيلاً من الرواية العربية المعاصرة التي بفضل نحته لها مع آخرين من كتاب الرواية العرب في المشرق والمغرب صار من حق البعض أن يقول مفاخراً إن العصر الراهن هو عصر الرواية بامتياز، وإن الرواية يمكن أن تصبح ديوان العرب إن لم تكن قد صارت كذلك بالفعل! وهي وجهة نظر تذهب إلى أن الرواية احتلت أو ستحتل عما قريب مكان الشعر الذي كان يحظى بهذه المكانة ويحتل تلك المرتبة.ورغم أننا لسنا من أنصار الانتصار لجنس أدبي على حساب جنس آخر، حيث تتعايش كل الأجناس خلال فترات زمنية معينة يكون فيها التفوق بنسبة ما لجنس منها على حساب الأجناس الأدبية الأخرى كما هو حال الشعر، فلذلك يجوز أن تتعايش نفس الأجناس خلال فترة زمنية اخرى، لكن التفوق يكون لجنس الرواية على حساب بقية الأجناس نظراً لبروز وصعود عوامل جديدة لم تكن متاحة في السابق للرواية كأن يعجز الشعر على سبيل المثال عن التعبير بما يكفي عن التحولات الاجتماعية والتاريخية الكبرى، أو الخوض في التفاصيل الدقيقة التي كان الشعر قادراً على التعبير عنها في مراحل تاريخية سابقة، تكون الرواية بما تتيحه من مساحة زمنية ومكانية واسعتين أقدر على الاهتمام بها بأدق وأصغر تفاصيلها .. أو كأن ينحو الشعر نحو الغموض والرمزية المغرقة العصية على فهم العامة من القراء فيوجهون وجهتهم نحو القصة والرواية وغيرها من ضروب الأدب والفن كالمسرح والسينما، فيحق لنا القول حينها أن العصر هو عصر السينما، أو عصر التلفزيون، أو عصر "الانترنت" كما هو الحال اليوم.وأياً كانت الآراء، فهذا ليس موضوعنا، بل إن الموضوع وخلاصة ما أود قوله هو أننا فقدنا علماً روائياً كبيراً، وقامة أدبية سامقة كان له فضل عظيم على الأدب العربي، وعلى الرواية العربية على وجه التحديد، أثرى المكتبة العربية والعالمية بما ترجم له من أعمال بروائع خالدة ستقرأها أجيال وأجيال بمتعة لاحدود لها.أما أولئك الذين يهتمون بدراسة المجتمعات وتطورها، وصعود الطبقات الاجتماعية وأفولها، ومصائر الطبقة الوسطى والنمط الاجتماعي السائد في المجتمع المصري، فسيجدون في روايات نجيب محفوظ ـ في اغلبها ـ مادة غنية لتحولات المجتمع القاهري خلال أكثر من نصف قرن خاصة نمط حياة الطبقة الوسطى وتحولاتها كما صورها بأدق تفاصيلها في رواياته العظيمة.عاش نجيب محفوظ بما يكفي لكي يرصد حياة القاهرة وناسها وأحوالهم طموحاتهم، وانكساراتهم، فرحهم وترحهم، في معظم، إن لم يكن في كل أعماله الروائية والتي تحول بعضها إلى أفلام هي اليوم من كلاسيكيات روائع السينما المصرية.وما من روائي أخلص للرواية وللكتابة الروائية كما أخلص نجيب محفوظ حتى جعل منها ايقونة حياته، وتوأم روحه. ولا أظن أن أحداً سيخالفني القول إذا قلت إن الرواية العربية حتى وإن كانت "سابقة" لنجيب محفوظ لكنها لم تكتسب مكانتها الأثيرة إلا بفضل أدبه ورواياته التي جعلت العالم يعترف به كأحد أساطينها العالميين.
|
ثقافة
عندما سكنت في غرفة واحدة مع نجيب محفوظ
أخبار متعلقة