قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكريا :عندما نستحضر حضارة العرب المسلمين في بلاد الأندلس ( إسبانيا ) ، نشعر برياح صبا قرطبة ، أشبيلية ، غرناطة ، طليطلة ، برشلونة ، بلد الوليد ، وقادس وغيرها تهب على وجداننا فتحرك مشاعرنا ، وتهز أحاسيسنا ، وتدفعنا إلى البكاء الحار على ملكِ ِ عريض أضعناه ، كان في حوزتنا أكثر من أربعمائة سنة . والحقيقة لقد أجمع المؤرخون الإسبان بأنّ العرب المسلمين لم يكونوا غزاة تدمير وتخريب وإنما كانوا أصحاب بناء ونماء ، وعلم ، ومعرفة ، وحضارة ، وضعوا بصماتهم المضيئة والمشرقة على كل مكان من المدن الإسبانية ومازالت آثارهم ماثلة للعيان تأخذ العين أخذًا على الرغم من تعاقب الأزمان الطويلة ، هاهو قصر الحمراء ، و جامع قرطبة وغيرهما من معالم الحضارة الإسلامية يرويان عظمة وروعة الحضارة العربية الإسلامية في التي وصلت أضواء معارفها ، وعلومها إلى جنوب فرنسا ، وإيطاليا ، وأدركتها أيضًا شمال أوربا . وذكر الكثير من المؤرخين الأوربيين أنّ قرطبة عاصمة الأندلس , وقبلها أشبيلية ، كانت قبلة لكثير من أبناء أمراء وملوك أوربا ، فتشرب الكثير منهم من ينابيع تعاليم وآداب الإسلام ونقلوها إلى بلادهم فأرسوا فيها دعائم حضارة أوربية بزغت في سماء إيطاليا والتي عرفت بعصر النهضة وبعدها انتشرت أضواؤها في الكثير من أوربا .[c1]كواكب يمنية في سماء إسبانيا[/c] ولقد أشاد الكثير من المؤرخين الأوربيين وعلى وجه الخصوص منهم المؤرخ المتأسبن الفرنسي ليفي بروفنسال ـــ أحد أعمدة مؤرخي الغرب في تدوين وتسجيل تاريخ العرب في إسبانيا ـــ بدور اليمنيين في فتوحات الأقطار الإسبانية في عهد طارق بن زياد ، وقائده موسى بن نصير المتوفى ( 97هـ / 715م ) ، وابنه عبد العزيز بن موسى وغيرهم من الولاة الذين تعاقبوا على حكم الأندلس في عصر الخلافة الأموية . ويذكر ليفي بروفنسال أنّ اليمنيين عندما رسخوا أقدام الدولة العربية الفتية في الأندلس ، واستقروا بها ، ساحوا في شرقها وغربها ناشرين فيها أنوار العلوم ، والمعارف ، والفنون المتنوعة ، فكان منهم كبار اللغويين والنحاة ، والشعراء ، والأدباء ، والكتاب ، والفقهاء ، والعلماء وفضلاً عن ذلك كان فيهم رجال الرئاسة وأرباب السيف الذين ذاعت شهرتهم في آفاق إسبانيا . وتذكر المصادر البرتغالية أنّ اليمنيين توجهوا صوب غرب إسبانيا ( البرتغال حاليًا ) وأنه كان لهم الدور الكبير في نشر الثقافة العربية فيها ، ومازالت اللغة البرتغالية حتى يومنا هذا تحتوي على الكثير والكثير جدًا من مفردات اللغة العربية . لقد كان اليمنيون ـــ بحق ـــ كواكب مضيئة في سماء إسبانيا .[c1]الطريق إلى برقة[/c]وتذكر المصادر العربية إنّ القبائل اليمنية منذ أنّ بدأ الخليفة عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ الذي تولى الخلافة في سنة ( 13هـ / 635م ) استكمال الفتوحات العربية الكبرى الذي بدأها أبو بكر الصديق ـــ رضي الله عنه ـــ الذي تولى خلافة المسلمين بعد وفاة الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ سنة (12هـ / 634م ) ، بأنهم كانوا السباقون في تلك الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى وكان حضورهم متميزاً في الجيوش الإسلامية سواء في بلاد فارس أو بلاد الرافدين (العراق ) أو بلاد الشام أو مصر أو بلاد المغرب . وذكرت الروايات التاريخية أنّ قوام الجيش الذي كان بقيادة عمرو بن العاص لفتح مصر، كان غالبيته من اليمنيين الذي بلغ عددهم أربعة آلاف مقاتل وأستشهد الكثير من رؤسائهم في ثرى مصر . وكيفما كان الأمر ، فقد فتح الصحابي الجليل والقائد المحنك عمرو بن العاص مصر سنة ( 20هـ / 641م ) وقيل سنة ( 21هـ / 642م ) والذي كان يرى بعقله الثاقب ، ورأيه الصائب أنّ حدود مصر الغربية معرضة للخطر من قِبل البيزنطيين ، ولذلك عمل على فتح برقة لتكون سدًا واقيًا ومنيعًا ضد هجمات البيزنطيين وحلفائهم من قبائل البربر من جهة وتكون قاعدة انطلاق للجيوش الإسلامية إلى داخل إفريقية ( بلاد المغرب ) من جهة أخرى . ومنذ أنّ وجه عمرو بن العاص شطر وجهه إلى برقة بدأت مرحلة جديدة من الفتوحات الإسلامية نحو إفريقيا ، ونستطيع القول أنّ بلاد المغرب ، كانت بوابة الأندلس ( إسبانيا ). فعندما تمكن العرب من السيطرة على مقادير الأمور في بلاد المغرب والتي استمرت قرابة 70 سنة والتي تدل على مدى مقاومة أهل تلك البلاد من البربر قبل دخولهم الإسلام من جهة والبيزنطيين المترسخة أقدامهم فيها منذ زمن بعيد ثانية وتضحيات العرب المسلمين من ثالثة وعندما تم القضاء على البيزنطيين في بلاد المغرب تمكن العرب أنّ ينشروا الإسلام بين قبائل البربر الذين أبلوا بلاءًا حسنًا في فتح بلاد الأندلس ، وكان لهم اليد العليا في ذلك الفتح . فقد ذكرت المصادر العربية أنّ غالبية الجيش الذي كان تحت إمرة القائد طارق بن زياد من البربر سبعة آلاف مقاتل ومعهم قرابة ثلاثمائة من وجوه العرب وأشراف قريش . [c1]اليمنيون وتأسيس تونس[/c]وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان المتوفى ( 86 هـ / 75م ) توالت الفتوحات الإسلامية على بلاد المغرب ، وكان يرى أنّ الإسلام لن يستقر ويثبت أقدامه في تلك البلاد إلاّ من خلال الجيوش الكثيفة والحملات المتواصلة والتي تحمل في طياتها نشر الإسلام عبر الموعظة الحسنة ، وشرح الدين الإسلامي للبربر. والحقيقة لقد أتت تلك السياسة أوكلها ، ودخل الكثير من سكان البربر في دين الله أفواجًا . ويذكره المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف نسب شجرة القائد اليمني حسان بن النعمان الغساني . أنه « من أولاد ملوك غسان : قائد من رجال السياسة والحرب . من المشهورين في الفتوحات الإسلامية ولى إفريقية في زمن معاوية ابن أبي سفيان. ثم كان عاملاً في أيام عبد الملك بن مروان « . وتذكر المصادر العربية بأنه أنشأ مدينة م تونس . فقد كانت قرية صغيرة تطل على البحر الأبيض المتوسط ، وسميت في التاريخ القديم ( تنيس ) « فحولها حسان إلى قاعدة بحرية تقلع منها الأساطيل ، وأنشأ بها دارًا لصناعة الأسطول . ومن تونس بنيت أعداد ضخمة من السفن الحربية التي حملت الفاتحين العرب إلى الأندلس وإلى جزر البحر الأبيض المتوسط وإلى جنوب إيطاليا « ، كما شيد فيها مسجدًا جامعًا ، ودارًا للإمارة وثكنات للجند ، وقدر لهذه المدينة الصغيرة أو المحروس البحري أنّ تكون أعظم ثغور إفريقية « . [c1] طارق بن زياد يمنيًا[/c] تضاربت الروايات التاريخية حول نسب طارق بن زياد هل هو من البربر أمّ فارسيًا أمّ أنّ نسبه يرتفع إلى القبائل اليمنية . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور السيد عبد العزيز سالم : « وقد أختلف مؤرخو العرب في أصله ، فذهب بعضهم إلى أنه كان فارسيًا همذانيًا ، وذهب فريق آخر إلى أنه كان بربريًا . . . وذهب فريق ثالث إلى أنه كان عربيًا من صدف ( وهي من القبائل الحضرمية ) « . والحقيقة أنه إذا رجعنا إلى الهجرات اليمنية الكبرى القديمة التي ساحت وانتشرت في كافة أنحاء المعمورة ــ حينذاك ـــ بسبب انهيار سد مأرب في سنة 450م ، وكانت من بين الأقاليم التي هاجر إليها اليمنيون هي إفريقية ( بلاد المغرب ) ، فاستقرت الكثير من القبائل اليمنية المهاجرة في تلك البقاع وانصهرت بقبائل بلاد المغرب وبعد أجيال متلاحقة صارت تلك القبائل اليمنية جزءاً لا يتجزأ من نسيج أعرافها ، وعاداتها ، وتقاليدها . ومن يتأمل أعراف ، وعادات القبائل المغربية سيلاحظ التشابه الكبير بينها وبين القبائل اليمنية. وكيفما كان الأمر ، فإن عدداً غير قليل من القبائل المغربية تعود أصولها إلى اليمن ( الأم ) على سبيل المثال صنهاجة ، كتامة ، مصمودة ، وزناتة . وتذكر المصادر المغربية بأنّ صنهاجة كانت تعتبر من أكبر قبائل البربر وتعود شجرة أنسابها إلى اليمن . وفي ذلك الشأن ، يقول الزبير ابن بكان : « أنّ صنهاج أبو صنهاجة هو صنهاج بن حمير بن سبأ « . ومن المرجح أنّ يكون طارق بن زياد يعود نسبه إلى اليمن وفي نفس الوقت لا يمنع ذلك أنّ يكون من قبائل البربر .[c1]مدينة طريف الإسبانية[/c]من طريف بن مالك المعافري ؟ والذي نحت أسمه في تاريخ فتح الأندلس ( إسبانيا ) ومازال اسمه يطلق على مدينة من مدن الجزيرة الخضراء بأسبانيا حتى هذه اللحظة . يذكر المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف بأنه من اليمن . وتذكر الروايات التاريخية بأنّ الخليفة الأموي الوليد ابن عبد الملك أمر القائد موسى بن نصير ، قائد الحملة على أسبانيا ، أنّ يرسل فرقة استطلاع إلى أرض أسبانيا حتى يسبر أغوارها ، ويتعرف على مواطن قوتها ، ونقاط ضعفها. وفي هذا الصدد، يقول السيد عبد العزيز سالم : « فكتب ( أي الوليد بن عبد الملك ) إلى موسى يأمره بأنّ يخوضها (أرض أسبانيا ) بالسرايا حتى يختبرها ، وأمره بألاّ يغر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال . وعمل موسى بنصيحة الخليفة ، واختار أحد كبار قواده اسمه طريف بن مالك المعافري ، ويكنى أبا زرعة . . . وأنه كان قائدًا بارعًا في فنون القتال ، فجعله موسى على رأس سرية مؤلفة من 500 مقاتل منهم أربعمائة من المشاة ، ومائة من الفرسان « . ويمضي في حديثه ، قائلاً : « ونزل طريف بفرقته في جزيرة باسم لاس بالوماس Isla de Las Palomas . وتقع على مقربة من مدينة طريف الحالية التي سميت باسمه لنزوله فيها ، وذلك في رمضان سنة 91هـ ( يوليو سنة 710م ) . ومن هذا الموضع شن طريف ورجاله سلسلة من الغارات على الساحل الجنوبي للأندلس ، المقابل لساحل سبتة . . . وعاد طريف بفرقته سالمًا يجر وراءه الغنائم الكثيرة « . [c1]اليمنيون وملك إسبانيا[/c] ويضيف محمد عبد القادر بامطرف ، قائلاً : « وعلى أثر تلك المعلومات الهامة التي عاد بها طريف المعافري التي توضح بشكل عملي إمكانية فتح بلاد الأندلس « وضع موسى ابن نصير الخطط لنزول طارق بن زياد بالمنطقة الصخرية التي لا تزال تحمل اسمه حتى يومنا هذا ونعني بها ( جبل طارق ) بالأندلس ، وكان ذلك في شهر رجب سنة 92هـ / أبريل 711م . ولقد استعان طارق بن زياد بالقبائل اليمنية عندما باغته زريق ملك أسبانيا بجنود لا قبل له بها ، فاستنجد بقائده موسى بن نصير يطلب منه المدد « فأرسل ابن نصير مددًا عسكريًا مؤلفاً من خمسة آلاف من المقاتلين اليمنيين من جنود الشام المتمرسين بالقتال وأغلبهم من الفرسان تحت قيادة طريف بن مالك « . وعلى أية حال ، تمكن طارق بن زياد هزيمة لذريق في موقعة وادي لكة . وتذكر المصادر العربية بأنّ اليمنيين ابلوا بلاءًا حسناً في القتال ، واستشهد الكثير من وجوه وزعماء شيوخ القبائل اليمنية في تلك المعركة الحاسمة التي كانت لها نتائج عسكرية خطيرة وهامة وهي توغل الجيش الإسلامي في داخل أسبانيا ، وسقوطها مدنها الواحدة تلو الأخرى بيد جنود المسلمين . ونستخلص من ذلك أنّ اليمنيين مهدوا لجيش طارق بن زياد لوضع أقدامهم على الجزيرة الخضراء المقابلة لسبتة ومن ثم الانطلاق واختراق قلب الأراضي الإسبانية . ولم يأتِ اختيار القائد اليمني طريف بن مالك المعافري من فراغ بل أتى على أسس أنه قائد يتحلى بالشجاعة النادرة ، والدراية الواسعة والعميقة في القتال والنزال ــ كما قلنا سابقاً ــ ، ويلفت نظرنا أنّ طريف عندما عاد إلى بلاد المغرب لم يحدث في صفوف جنوده أية خسائر بل أنه حمل معه الكثير من الغنائم الكثيرة . ويتوفى طريف الذي أدى دوره العسكري على أجمل وأكمل وجه عن عمر ناهز أكثر من سبعين عامًا في سنة 133هـ / 750م أي بعد أفول الدولة الأموية وبزوغ الدولة العباسية بعام واحد ، ولم تذكر المصادر أين توفى ؟. [c1]موسى بن نصير[/c]ومن القادة اليمنيين الذين كان لهم الدور الرائد والرائع في فتح الأندلس هو موسى بن نصير المتوفى ( 97هـ / 715م ) والذي يعد ــ بحق ـــ المخطط والمنفذ لذلك الفتح العظيم في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك التي شهدت الدولة الأموية في أيامه فتوحات باهرة منها الأندلس ، وكاشغر ( مقاطعة في الصين ) ، والهند . وتذكر المصادر التاريخية بأنّ الوليد كان من أفضل خلفاء بني أمية سيرة عند أهل الشام . ونعود مرة أخرى إلى القائد موسى بن نصير التي تعود أصوله إلى اليمن . ويذكر مؤرخنا محمد عبد القادر بامطرف بأنّ موسى بن نصير تعود أصوله إلى قبيلة لخم باليمن. ويعرف لنا العلامة المؤرخ القاضي محمد بن أحمد الحجري قبيلة لخم ، قائلا : « لخم : من قبائل اليمن ، وهم ولد بن الحارث ا بن مُرة بن أدد بن زيد ابن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ « . ويضيف ، قائلا : « ومنهم ملوك الحيرة في العراق ومن بقاياهم ملوك اشبيلية بالأندلس وهي دولة بني عباد. وتذكر بعض المصادر العربية بأنّ نسل عبد العزيز بن موسى والي الأندلس مازال باقيًا حتى يوم الناس هذا . [c1]وأسدل الستار[/c] وتباينت أراء المؤرخين حول الأسباب الحقيقية التي أغضبت الخليفة سليمان بن عبد الملك المتوفى ( 99هـ / 718م ) بعد أنّ تولى الخلافة بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك من موسى ابن نصير الذي كان له اليد الطولي في فتح الأندلس ـــ كما قلنا سابقاً ـــ فيعزله من الأندلس والمغرب وقد سحب من قدميه بساط الصولجان والنفوذ وعصفت به ريح الأحزان والكوارث عندما قتل ابنه عبد العزيز في الأندلس على يد رؤساء بعض القادة العسكريين في سنة ( 97هـ / 716م ) . وقد عللت بعض الروايات التاريخية أسباب نكبة موسى على يد الخليفة سليمان وهو خشيته من ازدياد نفوذه في الأندلس والمغرب فينسلخ عن جسد الدولة الأموية نظرًا لكونه ولى أولاده الثلاثة عليهما ، وضرب عمله باسمه وروايات أخرى تذهب بأنّ سليمان طلب من موسى أنّ يتمهل في الحضور إلى دمشق وهو محمل بالغنائم والذخائر ، والكنوز النفيسة ، بعد أنّ صار الخليفة الوليد قاب قوسين أو أدنى من الموت ولكن موسى أسرع في المثول أمام الوليد مما أسخط عليه سليمان سخطًا شديدًا . والحقيقة أنه مهما اختلفت الأسباب وراء غضب الخليفة من موسى ، فإن السياسة شعارها في كل مكان وزمان لكل دولة شمس ورجال ، فكان على الخليفة الجديد أنّ يختار قادة آخرين جدد إلى جانبه يثق بهم ولا يعصون له أمرًا فكان من الطبيعي في عهد حكم الخليفة الجديد سليمان . أنّ يفقد موسى مكانته الكبيرة التي كان يتمتع بها أثناء حكم الخليفة السابق الوليد وتلك سُنة السياسة وتقلباتها ــ كما قلنا سابقاً ـــ . وعلى أية حال تذكر المصادر العربية بأنّ موسى بن نصير الفاتح العظيم لبلاد الأندلس ، قد أهمل في عهد الخليفة سليمان ولم يعد شيئاً مذكورًا . ولقد أجمع المؤرخون بأنّ الخليفة فرض عليه العزلة الشديدة . وفي ذلك الشأن يقول الدكتور السيد عبد العزيز سالم : « فلقد ظلمه الخليفة بإهماله له ، وعدم وفائه له بقدر مما يستحقه من مكافأة ، فقد أثبت موسى بفتوحاته في المغرب والأندلس أنه من أعظم قواد المسلمين ، وإليه يرجع الفضل في نثر بذور الإسلام في العالم الأوربي الوسيط « . وتذكر المصادر العربية بأنّ موسى توفى في مكة المكرمة سنة 97هـ / 715م عن عمر ناهز الثمانين عامًا وبذلك أسد الستار عن أعظم شخصية عرفها التاريخ الإسلامي ومازال اسمه منحوتاً في الكثير من معالم إسبانيا ومنها طريق يسمى فج موسى يربط جنوبها بشمالها . ويكفي فخرًا لتاريخه الباهر أنه إذا ذكر فتح الأندلس ( أسبانيا ) ذكر اسم موسى بن نصير حتى يوم الناس هذا .[c1]عبد الرحمن الغافقي[/c]ويطل علينا من صفحات المصادر العربية والإسبانية القائد اليمني عبد الرحمن الغافقي المعروف والمشهور عنه بالعدل وبقوة الشكيمة ، والشجاعة ، ورباطة الجأش والذي خاض أخطر المعارك في تاريخ الأندلس ( إسبانيا ) إنّ لم يكن أخطرها على الإطلاق وهي موقعة ( بلاط الشهداء ) في ظل أوضاع سياسية وعسكرية غاية في الصعوبة والتعقيد لم تكن في صالحه ، فالعصبيات القبلية أطلت برأسها البشع على بلاد الأندلس بين اليمنية والقيسية من جهة والعرب والبربر من جهة أخرى وعلاوة على ذلك امتلأت قلوبهم بحب الدنيا والانغماس في الترف ، والبذخ ، وكان من نتائج ذلك أنّ فقد العرب المسلمون هيبتهم أمام أعدائهم من الفرنجة سواء داخل إسبانيا أو الإمارات المسيحية المتاخمة لها المتربصين والمحيطين بهم من كل مكان . ويقول محمد الحجري عن قبيلة غافق بأنها « من قبائل اليمن ثم من عك ويبدو أنّ الأخيرة بطن من بطونها وقيل أنّ عك تسكن تهامة اليمن وتحديدًا في زبيد . وتذكر المصادر الإسبانية بأنّ قبيلة غافق خرج من معطفها عددِ ِ من رجالات العلم ، وأرباب الرئاسة ، والسيف. وكيفما كان الأمر . فقد ظهر القائد اليمني عبد الرحمن الغافقي على مسرح أحداث الأندلس ( إسبانيا ) وهي تمور مورًا بالاضطرابات السياسية من جراء الأحقاد التي اندلعت بين اليمنية والمضرية من جهة والعرب والبربر من جهة ثانية والعدو المتربص بالعرب المسلمين من جهة ثالثة ـــ كما سبق وأنّ ذكرنا ـــ وترسم المصادر العربية ملامح شخصية عبد الرحمن الغافقي ، فتقول : « وكان عبد الرحمن الغافقي من أعظم قواد المسلمين في الأندلس ، وكان معروفاً بحسن القيادة ، والشجاعة ، وقوة الشكيمة « . وكان من الطبيعي أنّ تؤهله تلك الخصال الحميدة و الرائعة أنّ يتولى قيادة العرب المسلمين التي اضطربت أحوالهم اضطرابا شديدًا بسبب الفتن التي انتشرت بينهم كانتشار النار في الحطب . « وكان عبد الرحمن إلى جانب صفاته السابقة معروفاً بنزاهته وحياده ، ولا يتحيز لفريق على فريق ، ولا يتعصب لعنصر على عنصر آخر، ولذلك قوبلت ولايته بفرحة عمت قلوب أهل الأندلس ، واستبشر الناس لولايته ، وشرع عهده برفع المظالم عن الناس ، وكان يطوف في المدن ويحقق في شكايات الرعية ، لا يميز بين مسيحي ومسلم ، وعزل كثيرًا من القواد والولاة الذين ثبتت مظالمهم للرعية » .[c1]موقعة بلاط الشهداء[/c]تعد موقعة بلاط الشهداء التي دارت رحاها في أواخر شعبان 114هـ / أكتوبر 732م بين الجيوش الإسلامية من جهة والفرنجة من جهة أخرى بالقرب من جنوب غالة ( فرنسا الحالية) من أكبر المعارك وإنّ يكن أكبرها وأخطرها على الإطلاق التي اندلعت بينهما في بلاد إسبانيا. ولقد كان قائد الجيوش الإسلامية القائد الشجاع ، والجريء ، عبد الرحمن الغافقي في شوقِ ِ شديد على ملاقاة الفرنجة . و ذكرت المصادر العربية والإسبانية بأنّ الغافقي خاض المعركة والأوضاع العسكرية والسياسية كلها تصب في مصلحة الجيوش الإفرنجية . والحقيقة أنّ الغافقي ، كان يدرك أنّ الأوضاع العسكرية والسياسية ليست في مصلحته وأنها خطيرة للغاية ولكنه كان يتشوق إلى قتال الفرنجة الذي باتوا يتجرءون في غزو الحدود الإسلامية المتاخمة لبلاد الأندلس من ناحية ويعيد هيبة المسلمين من ناحية ثانية ويقضي على الفتن والقلاقل التي باتت تسود العرب والبربر من خلال انشغالهم في الجهاد ضد الفرنجة من ناحية ثالثة وأخيرة .[c1]أسباب الهزيمة[/c]كانت موقعة بلاط الشهداء أخطر من موقعة طارق بن زياد بسبب أنه عندما وطئت قدميه الجزيرة الخضراء في الأندلس ، كانت الأهداف واضحة ومحددة من الفتح ، وكانت الانقسامات والنزاعات بين القوى الإسبانية حادة وبعبارة أخرى أنّ الظروف العسكرية والسياسية ، كانت كلها ترجح كافة ميزان طارق بن زياد وجيشه فضلا عن ذلك أنّ المسلمين من عرب وبربر ، لم يغرقوا في الترف ، والبذخ بعد ، وكانت قلوبهم على قلب رجل واحد . ولكن عندما هرعت الدنيا إليهم ، وغاصوا في الترف ، والبذخ ، والنعيم ، فقدوا أهم ميزة وهي الخشونة ، والقوة في مواجهة أعدائهم. ولقد أنشبت العصبيات القبلية أظافرها الحادة في جسد المسلمين وهو الانقسام العميق بين اليمنية والقيسية من جهة والبربر من جهة أخرى فكانت الكارثة الحقيقية في ضعف قوة المسلمين أمام أعدائهم المتربصين بهم من الفرنجة . ومن الأسباب الأخرى والهامة التي أدت إلى هزيمة جند المسلمين هو توغلهم في بلاد الغال في بيئة مغايرة تمامًا على بيئتها التي اعتادوا عليها في بلاد الأندلس . ولم تكن لها قاعدة أو قواعد ثابتة لتنطلق منها إلى الجيوش الإفرنجية « ثم إنّ جنود المسلمين ، كانوا قد أوغلوا في البلاد وأثقلوا كاهلهم بالغنائم الكثيرة التي كانوا يحملونها معهم أينما توجهوا ، وكانت هذه الغنائم عبئاً ثقيلا عليهم ، عاقهم عن سرعة الفتح. هذا إلى أنّ إمارات غالة كانت قد تكتلت جميعًا لمواجهة جيوش الإسلام وصدها إلى الجنوب « .[c1]نتائجها [/c]وكيفما كان الأمر ، اندلعت حرب عنيفة بين جنود المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافي من جهة وجيوش الفرنجة من جهة أخرى ، ودارت الدائرة على المسلمين بسبب العوامل التي ذكرناها قبل قليل . وفي تلك المعركة الخطيرة استشهد الغافقي من جراء سهم أرداه قتيلاً . ويعقب السيد عبد العزيز سالم عن نتائج هزيمة المسلمين في الموقعة ، فيقول : « أمّا الموقعة فقد سماها مؤرخو العرب (( ببلاط الشهداء )) لكثرة من استشهد فيها , وهناك رواية أخرى تذكر أنّ سبب تسمية موقعة بلاط الشهداء تعود إلى أنها وقعت بالقرب من الطريق الروماني المرصوف ، وتعتبر هذه الموقعة من المواقع الفاصلة في التاريخ العام ، وذلك لما ترتب عليها من نتائج إذ أنها وضعت حدًا للتوسع الإسلامي فيما وراء جبال ألبرت . وأصبح المسلمين في الأندلس يحسبون لقوة قارلة (أمير بلاد الغال) « . ويمضي في حديثه : « أحدثت كارثة المسلمين في بلاط الشهداء دويًا هائلاً في إفريقية والأندلس « . ولكن لا يفهم من ذلك أنّ الولاة الذين تعاقبوا عل حكم بلاد الأندلس ، قد توقفوا عن الجهاد ، فقد ظلوا بصورة مستمرة يغيرون على إمارات الفرنجة ، ويستولوا على الكثير من مدنهم . [c1]من إشبيلية إلى قرطبة[/c]كانت إشبيلية عاصمة بلاد الأندلس في عهد القائد موسى بن نصير ، وابنه عبد العزيز ، وعندما قتل الأخير سنة 97هـ / 715م « تولى ولاية إسبانيا القائد اليمني أيوب بن حبيب اللخمي ، وكان يرى اللخمي أنّ الأجدى والأجدر أنّ تكون قرطبة عاصمة الأندلس نظرًا لقربها من وسطها من ناحية وموقعها الهام من ناحية أخرى ، كانت همزة وصل بين شرق وغرب إسبانيا ، والميرة تأتيها من كل مكان وبشكل دائم . وعندما آلت الرئاسة إلى أيوب اللخمي ، جعل قرطبة عاصمة الأندلس ومنذ ذلك التاريخ ازدهرت قرطبة ازدهارًا واسعًا وكبيرًا في الأندلس ، وصارت حاضرة المشرق العربي والعالم الإسلامي حينئذ ، وصارت قبلة العلماء ، والأدباء ، وكبار المفكرين . وكانت جامعتها العريقة إشعاع حضاري ومن ينابيع علومها ، ومعارفها نهل ابناء أمراء الفرنجة ونقلوها إلى أوربا . وعلى الصعيد السياسي ، فقد كانت قرطبة صمام أمان الأندلس فعندما كان يسودها الأمن والأمان ، والاستقرار السياسي ، كانت المدن الأندلسية يظلها الازدهار والرخاء في مختلف نواحِ حياتها . وعندما كان يهتز حبلها السياسي كانت أوضاع المدن الأندلسية من شرقها إلى غربها تهتز اهتزازا شديدًا . وعبر القرون الطويلة ، كانت قرطبة تاج في جبين الحضارة العربية الإسلامية حتى سقوطها في سنة 1493م . ومازال عبيرها يفوح منه الجمال والبهاء والرواء حتى يوم الناس هذا . [c1]الهوامش :[/c]الدكتور السيد عبد العزيز سالم ؛ تاريخ الملمين وآثارهم في الأندلس ، الطبعة الثانية 1986م، مكتبة الأنجلو المصرّية .محمد عبد القادر بامطرف ؛ الجامع ، الطبعة الأولى ، 1424هـ / 2003م الهيئة العامة للكتاب ـــ صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية ـــ . العلامة القاضي محمد بن أحمد الحجري اليماني ، تحقيق وتصحيح ومراجعة : إسماعيل بن علي الأكوع ؛ مجموع بلدان اليمن وقبائلها ، المجلد الثاني ( الجزء الثاني ) ، الطبعة الأولى 1404هـ / 1984م ، منشورات وزارة الإعلام والثقافة ــــ صنعاء ـــ .ابن الطقطقي ؛ الفخري في الآداب السُلطانية والدول الإسلامية ، دار صادر ـــ بيروت ـــ .