رسالة مفتوحة
عرفت من صديقي محمود صلاح، الكاتب الصحفي ورئيس تحرير جريدة الحوادث المصرية الذي زار الدانمارك مؤخرا، أن نقابة رسامي الكاريكاتير عندكم تتكون من أربعين رساما، مع هؤلاء الأربعين أتكلم، ليس كعربي مسلم بل كزميل مهنة تصادف أن كان واحدا من سكان الشرق الأوسط أكثر أماكن الأرض ثراءً وفقرا، علما وجهلا، تهذيبا ووحشية.ربما أدهشتكم الزاوية التي أنظر بها إلي موضوع الرسومات التي أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد في العالم الإسلامي، وهي المهنة، أو الحرفة، أي الكاريكاتير ذاته كفن وصل إليه المبدعون واستخدموه كوسيلة لمقاومة الشر والقبح، لست رساما للكاريكاتير بالفرشاة وكم كنت أتمني أن أكون، غير أنني أقوم بصنعه بالقلم أحيانا، تلك الأحيان التي يسعفني فيها خيالي وقدراتي وأيضا عاطفة الحب للحياة علي صنع صورة قادرة علي تفجير الضحك عند قرائي وذلك لإغرائهم علي التنبه لمواطن القبح ودفعهم إلي الانضمام لقافلة الخير الأسمي وأنا واثق أيضا أنكم تهدفون إلي ذلك بشكل عام. ولما كان الخير هو هدفكم وهدفي وهدف كل من كانت صناعته البهجة،لذلك تحاربون، وأنا أيضا وزملائي نحارب من أجل حرية التعبير ليس فقط لأن حرية التعبير قيمة عليا بل لأن غيابها يمنعنا من تحريض الناس علي حب الحياة واحترامها والدفاع عنها، وإذا كنتم تعرفون من نشرات الأخبار أننا ــ في الشرق الأوسط ــ نقتل بعضنا البعض في كل لحظة لأسباب أعترف لكم أنني لم أفهمها حتي الآن، بالإضافة بالطبع لنشاط بعضنا في قتل الآخرين. غير أنني علي يقين من أنكم لم تسمعوا عن رسام كاريكاتير عربي اسمه ناجي العلي وهو واحد من أكثر رسامينا إبداعا قتل في لندن بواسطة قتلة محترفين من رجال السياسة أفزعهم ما يرسمه من ضحكات تكشف طغيانهم، أنا فقط أريدكم أن تعرفوا أننا نحن أيضا ندفع ثمنا غاليا لكي نظل أحرارا نعبر بحرية عن أفكارنا التي لا نريد بها سوي العدل والحرية.لابد أنكم توافقونني أيضا علي أن التمكن من أدوات مهنتنا وأذكركم أنها صنع البهجة، أمر سابق بالضرورة علي الاستمتاع والاستفادة أيضا بتلك القيمة العليا وهي حرية التعبير، وبذلك تكون الصنعة الرديئة في الكاريكاتير كما في أي مهنة أخرى، مصدرا لخطأ يهدد حرية التعبير نفسها. ففيما عدا الكوارث الطبيعية، كل مصائب البشر تبدأ بخطأ في فهم قواعد الحرفة أو عدم الالتزام بها أو الاستهانة بها، ستسقط طائرة لعدم كفاءة الطيار، وتغرق سفينة لخطأ من القبطان، وتفقد أمة حريتها لغباء زعيمها، أريد أن أقول إن الأخطاء العظيمة في الحياة لابد أن تبدأ بخطأ في الحرفة.رسامكم أخطأ في الأساس النظري للحرفة فكان لابد أن يقوده ذلك إلي أن يسبب ألما كبيرا لملايين المسلمين وهو ما اعتذر عنه فيما بعد. أنا أزعم أنه هو شخصيا لا يصدق ما رسمه، من المستحيل علي مبدع في أي مجال أن يعتنق فكرة أن رسولا لدين ــ أي دين ــ امتلأ رأسه بأفكار خطرة متفجرة. الصحيح هو أن بعض أتباع الدين الإسلامي لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذا المقال، حولوا عاطفة الإيمان الديني بدافع من الجهل والتعاسة إلي أفكار وعواطف خطرة عليكم وعلينا. والحقيقة أيضا أننا نحن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها نحاصرهم ونطاردهم. بالكاريكاتير نحن نمد أيدينا في بطن الدنيا لنخرج الحقيقة ونضعها في وضح النهار أمام الناس وذلك لكي نضئ طريق الحياة أمامهم. في صنعة الفكاهة نحن لا نطلق النار علي أعدائنا بل نصوب أسلحتنا علي أسلحتهم فنسقطها من أيديهم ، نجردهم منها بقوة الضحك لنغريهم على الانضمام إلي عالم السلام والرقة والتهذيب.بداخل العلماء والمبدعين والأطفال أيضا عاطفة تقترب من الغريزة تدفعهم لقول الحق والحقيقة ومن أجل هذا الحق وتلك الحقيقة اكتسبت حرية التعبير قداستها، فما هي يا ترى تلك الحقيقة التي أراد الرسام إيصالها إلى جمهوره وإلي المسلمين ؟أن تعاليم نبيهم و رسول الله إليهم محمد بن عبد الله ، لا تحمل سوى الأفكار المتفجرة؟وماذا بعد ذلك؟ هل هو يغريهم بترك هذه الأفكار والتعاليم لكي تكون حياتهم أفضل مما هي عليه؟ لم يكن الرسام صادقا مع نفسه ومهنته عندما اختار نبي المسلمين لطرح فكرته، فالأقرب إلى الحقيقة والواقع ــ بل الحقيقة والواقع ــ هو أن يرسم بن لادن أو الزرقاوي أو أي زعيم إرهابي آخر، في هذه الحالة، كانت رسوماته ستؤدي دورها كفن ضاحك في تحذير المسلمين في الدانمارك من الانسحار بهذه الأفكار المتطرفة وتغريهم بالوقوف ضدها.صناع الضحك يعملون بدافع من الغضب والغيرة علي الحياة، وهو نفس الغضب الذي يحولونه بقوة الإبداع إلي سحر يستولي علي القارئ أو المتفرج. أما الرسوم من هذا النوع فهي ليست أكثر من غضب خام عجز الرسام عن تحويله إلي فن، فكانت النتيجة أن تحول إلي غاز خانق لا صلة له بذلك الفن العظيم.. فن الكاريكاتير. وربما لم تكن غضبا، ربما كانت نفاقا شديدا لمعسكر آخر من المتطرفين وهنا يكون الرسام ليس أكثر من باحث عن نجومية في مجال السياسة وليس الإبداع، أي أنه برسومه يقول لمعسكر آخر من المتطرفين: انظروا.. الرسامون الآخرون يشتمون الإرهابيين فقط.. أما أنا فسأشتم نبيهم.. نبي المسلمين جميعا .. أنا الأفضل..هذه الرسومات تنتمي إلي عالم الديماجوجية بأكثر ما تنتمي لعالم الكاريكاتير، هي عدوان متطرف علي فن الكاريكاتير لذلك كانت النتيجة أن نشط المتطرفون عندنا للرد عليه بأكثر مما تحتمل الأحوال. لقد أشعل نارا فانتهزوا هم الفرصة لإشعال المزيد منها وكأننا في منطقتنا نعاني أزمة في الحروب.كلمة أخيرة..حتى في حالة نشوب حرب بيننا، فسأقف على الحياد، لأنني صديق لهاملت ولأنني أيضا أحب كل أنواع الجبن الدانماركي التي آكلها عند أصدقائي الأثرياء، وبالأمس وكانت ليلة شديدة البرودة طبخت طبق شوربة عدس، وكان من المستحيل أن يكتسب طعمه اللذيذ بغير قطعة من الزبد الدانماركي، ووقعت فريسة لصراع نفسي وسياسي حاد، ثم حسمت الأمر وأخرجت قطعة من الثلاجة ووضعتها في الطبق ثم أخذت أحتسيها في تلذذ ... أنا ضد الفن الرديء فقط.. أما الزبد الدانمركي فقد صنعه أناس يجيدون صنعتهم.* كاتب مصري