أصبح موضوع الإصلاح حديث الساعة في كل مؤسسة سياسية عربية والموضوع الأكثر تداولاً في وسائل الإعلام العربية. وعلى الرغم من أن التغير سمة الحياة وفطرة طبيعية فطرت عليها المجتمعات، ويجب ألا تسبب أي دهشة أو ذهول إلا أن ذلك قد لا ينطبق على الكثير من البلدان العربية التي يبدو أن قطار الزمن فيها توقف عند محطة تاريخية معينة يرفض التحرك منها، وبالتالي تثير قضية الإصلاح فيها شيئاً من الإرباك والذهول. في الحقيقة إن قضية التغّير والإصلاح لا تزال تذهل المجتمعات العربية جميعها لحقيقتين: الأولى أن هذا الموضوع فرض على العرب فرضاً ولم ينبع من الداخل. والحقيقة الثانية أن هناك إجماعاً شعبياً عربياً على مبدأ الإصلاح، وهو الأمر الذي يجعل القيادات السياسية في مأزق. فالقيادات الحكيمة تأخذ قضية إصلاح البيت الداخلي بجدية بالغة حتى تضمن لشعوبها الاستقرار السياسي، أما القيادات غير الحكيمة فهي تراوغ في قضية الإصلاح معتقدة أن قطار الزمن يجب أن يتوقف حتى تكمل خططها وأجندتها السياسية. ومن الدول التي طالتها مشاريع الإصلاح دول الخليج ، فهذه الدول تتعرض منذ سنوات لضغوط غربية لجعلها تقوم بإجراء بعض الإصلاحات الداخلية التي تستهدف إعادة ترتيب بيتها الداخلي، وتشمل هذه الإصلاحات مناهج التعليم، الأنظمة الاقتصادية، الأنظمة الاجتماعية (غير المواكبة لروح للعصر) ، هذا بالطبع إضافة إلى إعادة تشكيل الوعي السياسي وإشاعة روح الديمقراطية والمشاركة السياسية، كما يتضمن هذا الإصلاح إصلاح المؤسسات السياسية لجعلها أكثر قدرة على مواكبة العصر وإدماج المواطن في عملية اتخاذ القرار والانفتاح الحقيقي على العالم. وبينما يعلق الكثير من المحللين في الخارج الآمال الكبيرة على الديمقراطية لأنها، وبحسب ما يعتقدون، سوف توفر ليس الحلول السريعة والناجعة للكثير من الأوبئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية فقط، بل سوف تجعل المنطقة أكثر أمنا للمصالح الغربية. ويبدو أن دول الخليج العربية فوجئت بهذه القائمة من الطلبات، فأقصى ما كانت تتوقعه من قبل الغرب (وعلى رأسه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي) هو التدخل وممارسة بعض الضغوط لتغيير بعض المواقف السياسية الخارجية، ولكن أن يطلب منها إجراء تغييرات على سياساتها ونظمها الداخلية فهذه هي الصدمة التي لم تفق منها بعض دول الخليج حتى الآن. فترتيب البيت الداخلي، كان، ولا يزال، في عرف الدول المستقلة، شأناً داخلياً محضاً نابعاً من إرادة شعبية ووطنية وليس شاناً يملى من الخارج، حيث إن كل دولة هي أدرى بما يتناسب مع حاجة مجتمعاتها ومدى ملاءمة ما ترغب في إدخاله من تغيرات. لذا ظهر في دول الخليج تياران: تيار يدعو إلى التريث قبل تبني أي نوع من الإصلاحات ودراستها لمعرفة مدى ملاءمتها لحاجة المجتمع الفعلية قبل التسرع في تطبيقها وذلك في مواجهة تيار آخر يدعو إلى سرعة تبني هذه الإصلاحات التي هي، في رأي هذه الفئة، ضرورة ملحة لتطور هذه المجتمعات حتى لا تتخلف عن الركب العالمي.ويبدو أن قوة الشد والجذب بين أنصار هذين التيارين خلقت جدلاً شعبياً كبيراً في الخليج ليس حول ماهية الإصلاحات المطلوبة وجدواها فقط ولكن أيضاً حول قضية جوهرية أخرى هي: هل من حق قوى أجنبية أن تتدخل لفرض التغيير على هذه المجتمعات؟ فدول الخليج التي استقلت منذ عقود ترفض العودة مرة أخرى لعصر الوصاية الأجنبية، كما ترفض قضية التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية. فكل ما تتمناه دول الخليج، بعد نيلها استقلالها، هو تركها وشأنها، تعيد ترتيب أوضاعها الداخلية دون وصاية أحد وطبقاً لما تراه مناسباً لطبيعة وحاجة مجتمعاتها. ولكن يبدو أنه حتى هذه الأمنية غدت هماً يؤرق دول الخليج والغرب أيضاً الذي أصبح اليوم يربط كثيراً بين أمنه القومي وبين الأوضاع الداخلية في مجتمعات الخليج.وكانت الصورة النمطية السائدة في الغرب عن مجتمعات الخليج هي تلك التي تظهر هذه المجتمعات على أنها تقليدية محافظة لا ترحب بالجديد إليها سواء أكان ذلك على شكل ثقافات أو أفراد جدد أو قيم مغايرة لقيمها حتى صورت، مثلاً، قضية اكتساب جنسية إحدى دول الخليج بأنها كالمعجزة. فعلى الرغم من انفتاحها الظاهري على العالم إلا أن مجتمعات الخليج ظلت منغلقة اجتماعياً لا ترحب بالوافد إليها من مجتمعات أخرى خاصة تلك التي تختلف عنها في الدين والثقافة والخلفية الاجتماعية. تلك الصورة النمطية لمجتمعات الخليج لم تثر اهتماماً غربياً بضرورة التغيير إلى أن جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001، تلك الأحداث التي جعلت من مجتمعات الخليج هدفاً سهلاً لهجمة غربية هدفها دفع هذه المجتمعات إلى التغيير سواء شاءت أم أبت. فتغيير أو (إصلاح) مجتمعات الخليج لم يعد شأناً داخلياً بل هو ضرورة ملحة للأمن القومي الغربي. فالأفكار التي خرجت من هذه المجتمعات سددت ضربة قاضية للغرب في حضارته المادية. لذا أصبح لزاماً على مجتمعات الخليج أن تعيد ترتيب بيتها بشكل يوائم مصالح الغرب حتى لا تهدد أمنه القومي خاصة في ظل الثورة العالمية التي جعلت من العالم قرية صغيرة، وأصبح ما يحدث في منطقة الخليج وكأنه يحدث في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة وأوروبا. وكما يبدو فإن دول الخليج، خشية الاتهام بأنها دكتاتورية ومتخلفة، صممت أن تخوض غمار (تجربة الإصلاح) لعدة أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر الرغبة في تجنب الغضب الغربي، والرغبة أيضاً في إرضاء التيارات الوطنية التقدمية الراغبة في التغيير إلى جانب بالطبع الرغبة في إدخال بعض التغيير على الأنظمة السياسية التي مارست الحكم لقرون من دون تغيير يذكر. لذا فليس من المستغرب أن تظل الأعراف القبلية تحكم الحياة السياسية لدول الخليج حتى يومنا هذا. فالتغير الوحيد الذي طرأ على السلطة القبلية هو تحولها من سلطة تقليدية إلى سلطة حديثة ذات أطر معينة ومعالم سياسية واضحة تسود الآن كل دول الخليج. لذلك فإن نجحت هذه الإصلاحات في تحقيق مرادها كان ذلك رمية ناجحة عززت دور النخب السياسية في الخليج، وإن فشلت تكون دول الخليج قد جنبت مجتمعاتها أمر الدخول في صراع سياسي وحضاري مع الغرب الذي يبدو أنه متعطش للمواجهة. وهكذا بدأ مشوار الإصلاح في دول المجلس. ولكن ما هو جوهر هذا الإصلاح؟ هل هو تلبية لحاجة داخلية ملحة للتغيير، أم أنه مجرد جراحة تجميلية لإخفاء بعض العيوب في داخل هذه المجتمعات؟ وهل هذه الإصلاحات مجرد رغبة سطحية لإرضاء الغرب دون اقتناع رسمي بأهميتها أم أن هناك اقتناعاً رسمياً بأهمية هذه التغييرات وحاجة المجتمع الفعلي لها؟ ولو نظرنا إلى طبيعة الإصلاحات المطروحة لوجدنا أنها تتراوح ما بين إصلاحات اقتصادية وتعليمية وسياسية بعضها ضرورة ملحة وبعضها ترف لا تستطيع مجتمعات الخليج في الوقت الراهن تحمل تبعاته. فإصلاح النظام التعليمي، مثلاً، يعتبر ضرورة ملحة تتطلبها الأوضاع الاقتصادية وسوق العمل. فمخرجات نظامنا التعليمي لا تزال قاصرة عن استيعاب متطلبات العصر، وأدت إلى ظهور مشكلات عديدة كالبطالة والتطرف ورفض الآخر وغيرها، ويجب ألا نغمض أعيننا عن سلبيات هذه المشكلات وآثارها الخطيرة على أمن مجتمعات الخليج وتماسكها الداخلي. من جهة أخرى، فإن دول الخليج العربية تتعرض لضغوط خارجية لإدخال إصلاحات جذرية على أنظمتها الاجتماعية المنغلقة على نفسها. ففي نظر الغرب، لم تعد مجتمعات الخليج تلك المجتمعات البدوية التي تعيش في الصحراء منعزلة عن العالم الخارجي إنما غدت قوة مؤثرة في محيطها وفي الاقتصاد العالمي. وبينما طورت دول مجلس التعاون أنظمتها الاقتصادية والإدارية ظلت أنظمتها الاجتماعية قاصرة عن مواكبة المتغيرات المحلية والعالمية. وبدأ النظام الاجتماعي الخليجي ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر يرزح تحت عدة أعباء أهمها عدم قدرته على خلق المواطن الخليجي القادر على التكيف مع متطلبات واقعه الاقتصادي أو الواقع العالمي. بالإضافة إلى ذلك فقد أثبت النظام الاجتماعي الخليجي عدم قدرته على مواءمة المتغيرات الديموغرافية الحاصلة في محيطه، لذا فالمطلوب الآن هو قليل من الانفتاح الاجتماعي النسبي لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة. سياسياً، تقف الديمقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية والشفافية والمساءلة على قائمة أولويات مطالب الإصلاح القادمة من الغرب. ففي الذهنية الغربية يقف الإصلاح عاجزاً إن لم يعمل على ترسيخ مبادئ الديمقراطية والمشاركة السياسية واحترام حقوق الإنسان، حيث إنه دون الاهتمام بهذه الأساسيات لا يكون للإصلاح السياسي أي جدوى. إن ما تتعرض له دول الخليج حالياً من ضغوط خارجية لإعادة ترتيب بيتها الداخلي يعبر عن رغبة غربية قوية في إزالة ذلك السياج التاريخي والاجتماعي الذي حمى مجتمعات الخليج لقرون طويلة وشكل هويتها المميزة، ولكن في ظل النظام العالمي الجديد والذي برز من خلاله دور الولايات المتحدة بالتحديد كقوة فاعلة ومؤثرة ليس على الصعيد السياسي فقط بل على كافة الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ودور الاتحاد الأوروبي الذي برز كقوة سياسية تعمل على إيجاد نوع من التوازن في ظل الهيمنة الأمريكية على العالم، لم يعد أمام دول الخليج من خيار ثالث تتبناه للحفاظ على استقلالها وتماسكها وفوق كل ذلك هويتها العربية الإسلامية إلا الإصلاح. إن دول الخليج وهي تواجه اليوم الضغوط الغربية للإصلاح يجب أن تضع نصب أعينها مصلحة شعوبها التي هي المستهدف الأول من هذه الإصلاحات، حيث إن هذه الضغوط الغربية سوف تتهاوى بالتأكيد أمام الرغبة الشعبية في الحفاظ على مكتسباتها. إذاً فعلى دول الخليج الاستماع إلى نبض الشارع الخليجي ومعرفة مدى تقبله لفكرة الإصلاح خاصة الاجتماعي. فعملية الإصلاح الاجتماعي لتأهيل المواطن لتقبل عملية الإصلاح الشامل هي الأساس لبدء عملية الإصلاح الحقيقي، لذلك فإن على دول الخليج إذا ما أرادت البدء في إصلاح شامل أن تتخلص من بعض المفاهيم الاجتماعية التي قد تقف عائقاً أمام عملية الإصلاح، كما أن عليها أن تفتح قنوات الاتصال مع كل الأصوات النابعة من الداخل والداعية للإصلاح لتسمع رأيها. فالأصوات القادمة من الخارج غير مبالية بالإصلاح الداخلي أو بالديمقراطية الحقة لمجتمعاتنا، حيث إن ما يهمها هو مصالحها فقط. لذلك فإن على دول الخليج تلمس مكامن الخلل لتقويم الاعوجاج. إن ذلك هو النهج السليم الذي سوف يفتح أبواب الإصلاح الحقيقي في هذه المجتمعات. كما أن الاعتقاد السائد بأن الإصلاح قد يزعزع الاستقرار السياسي عوضاً عن أن يدعمه هو تخوف لا مبرر له. فعدم التصدي بجدية لمكامن الخلل والتغاضي عن إصلاحه شجّع الغرب على التدخل في الشؤون العربية الداخلية بل وفي العلاقات العربية – العربية .من جانب آخر فلن يكون للإصلاح جدوى ما لم يكن إصلاحاً حقيقياً يلامس جوهر الإنسان الخليجي، ويخلق منه مواطناً مهيأ للتكيف مع متطلبات المرحلة المقبلة. فمجتمعات الخليج لن تبقى إلى الأبد مجتمعات رفاهية قادرة على خدمة المواطن من المهد إلى اللحد بل عليها دور مهم وهو البدء في تهيئة المواطن لدور أكثر إيجابية في خدمة مجتمعه. كما أن دول الخليج لا تحتاج الآن لعمليات تجميلية لإخفاء عيوب وسلبيات مجتمعاتها بل تحتاج لوقفة صريحة مع ذاتها وشعوبها لتدرس ماهية الإصلاحات المطلوبة ومدى ملاءمتها لواقع مجتمعاتها. إن هذه المواجهة مع النفس، وليس مع الغرب، هي التي سوف تقي مجتمعات الخليج من الأخطار وتقودها إلى طريق التنمية المجتمعية السليمة.[c1]*نقلاً عن مجلة آراء الاماراتية[/c]
الولايات المتحدة وأوروبا .. وقضايا الإصلاح في دول مجلس التعاون
أخبار متعلقة