مـرافـئ
[c1]مرفأ رقم 1[/c]"الأبن سر أبيه" وكل أب متحمس بطريقة ما لابنه، ويراه امتداداً له، ويعطيه في الواقع من الحب والتدليل أحياناً فوق ما يحتاج، ويرى في نجاحه حتى ولو كان صغيراً فرحة ليس له وحده، بل بهجة للدنيا، ويوليه من الاهتمام والعناية ومن التربية والتعليم، حتى يأتي اليوم الذي يراه فيه شاباً ناجحاً بكل المقاييس فيفيض قلبه بفرح الكون.وربما يكون توريث الأبناء على مستوى الملوك والحكام، هو خير نموذج معروف يمكن عن طريقه دراسة ما نسميه إعداد الأبناء لخلافة الآباء! لكن في الحقيقة، لم يعد الأمر يقتصر على ذلك، بل إن هذا الطموح امتد إلى المهن الأخرى على مدى التاريخ، إلى الفلاحة، والتجارة والحدادة، والنجارة. وتعداه فيما بعد إلى الطب والهندسة وبقية العلوم والمهن، بحيث تركزت بعض المهن المهمة في بعض البلدان في أيدي أسر محددة بعينها بما في ذلك المناصب السياسية والثقافية الحساسة في المجتمع!الظاهرة امتدت اخيراً ـ وربما قبلاً ـ إلى مجال الموسيقى والفن والغناء والسينما والمسرح، شأنها في ذلك شأن المهن الاخرى. ولكي لايكون هناك لبس، فإن بعض الفنانين الكبار المبدعين الذين فرضوا أسمهم ووجودهم عبر موهبة حقيقية، واجتهاد أكيد، ومثابرة طويلة، لايقل عمر بعضها عن نصف قرن، وانتزعوا مكانتهم التي وصلوا إليها عن جدارة في قلوب الناس ووجدانهم، هؤلاء البعض أرادوا ان يختصروا المسافة على أبنائهم الذين رأوا فيهم، أو افترضوا فيهم الموهبة، لاكمال المشوار الطويل الذي بدأوه بنحت الصخر، وشق الأنفس، مختصرين بذلك على الأبناء الطريق الشاق والصعب، مراقبين المدى الذي يمكن ان تصل اليها تجربتهم.من بين هؤلاء يبرز اسم أصيل أبوبكر سالم بلفقيه. ومن منا لايعرف أبوبكر سالم؟ صوت وضع فيه الخالق جل ابداعه، وواحد من الفنانين القلائل الذين حافظوا على مكانتهم في القمة. واستطاع مع الاحتفاظ الشديد ببيئته الغنائية الحضرمية، إخراج الغناء اليمني، واللون الحضرمي منه بالذات، إلى فضاء التذوق العربي في كل مكان وصل إليه هذا الصوت. وهو لم ينجح بضربة حظ. فهو فنان بكل ما تحمله كلمة فنان من معنى، وفنان مثقف، وذكي يعرف مايريد وكيف يصل إليه. وفنان يستحق أن يكون مجال بحث ليس هذا مكانه، ولا المقصود بهذه الزاوية.ومن هؤلاء ايضاً، علوي فيصل، وهو ابن للفنان اليمني المعروف فيصل علوي الذي يتمتع بصوت قوي ومعبر، وهو تلميذ للفنان فضل محمد اللحجي، وابن مخلص للمدرسة اللحجية في فن الغناء. وقد اتكأ في بداية مشواره وفي أكثره على تراث الأمير الشاعر أحمد فضل القمندان، لكنه اضفى عليه من روحه الكثير، ثم اختط طريقه الخاص به، وان لم يستطع الخروج من أسر هذه المدرسة الغنائية الشهيرة والآسرة والمهيمنة.وثالث هؤلاء هو أبوبكر عوض، وهو نجل الفنان المعروف عوض أحمد، صاحب الصوت القوي والرخيم. وقد مرن صوته على الغناء منذ الصغر، واحتفظ بحلاوة صوته منذ أول ظهور له في اوائل الستينيات من القرن الماضي .. لكن نجاحه الأبرز كان في الفترة، التي عانقت فيها حنجرته الحان الفنان الكبير محمد محسن عطروش، ومازال عوض أحمد يثري الغناء بصوته العذب الجميل.ولعلكم لاحظتم كيف انني تحدثت عن الآباء وليس عن الأبناء. عن أبي بكر وليس عن أصيل رغم انه يكاد يكون استثناء من بين زملائه، ولديه مشروعه الفني والامكانات المادية التي تساعده على تحقيقه على عكس بقية زملائه مما هيأ له فرص النجاح والبروز .وعن فيصل علوي وليس عن أبنه علوي .. وعن عوض أحمد وليس عن ابنه أبي بكر . لكن القصة لم تنته بعد. بل هي بالكاد بدأت. وربما كان "الحظ" منحهم الفرصة الأولى للظهور استناداً على تاريخ وارث آبائهم، وعلى موهبة وملكة الصوت. لكن بقدر ماكان انتسابهم إلى فنانين معروفين وناجحين عاملاً مساعداً لهم في الظهور وقبول الناس بهم، لكنهم سرعان ما وقعوا في فخ المقارنة الظالمة بين اصواتهم الشابة التي سرعان ما زحف اليها الوهن وأصوات ابائهم التي عتقها الزمن فصارت مثل العسل المصفى. كما ان بعضهم لم يستطع الخروج من "عباءة" الآباء فاصبحوا مجرد مقلدين لامبدعين، وحده، ربما اصيل استطاع ان يتجاوز هذه المعوقات، وأن يختط طريقه الفني الخاص حتى وان كان لايحظى بالقبول الكامل من أبيه الفنان أبو بكرسالم الذي لايخفي في مجالسه الخاصة انه كان يتمنى لو انه أبنه اصيل سار على نهجه بحيث يكون استمرار له .. لكن مع احترامنا لفناننا الكبير ورأيه ورغبته الأبوية الصادقة لاصبح اصيل حينها مجرد نجم صغير يدور في فلك كوكب كبير مشع، ومجرد مقلد لصوت أبيه لافناناً مبدعاً، خاصة كملحن. وهناك فرق شاسع بين الابداع والتقليد ..[c1]نجوان ناجي .. الحل في المستقبل مرفأ رقم 2[/c]يقول المثل المعروف : ابن الوز عوام!"، بينما يقول مثل آخر "من خلف ما مات!" وما دمنا نتحدث عن الآباء والأبناء بالحديث عن حالات محددة حاول فيها الأبناء السير على طريق آبائهم من المطربين، فلا بأس من الإشارة إلى حالة اخرى تتمثل هذه المرة في الفنان الصاعد نجوان ناجي. وهو بالمناسبة ابن الفنان الراحل شريف ناجي الذي كتبت عنه في هذه الزواية قبل عدة اسابيع. وقد قيض الله له من يواصل مشواره الفني الذي ترجل عنه بسبب الرحيل المبكر، ومن يكمل رسالته في الحياة، وأعني به نجله نجوان الذي ورث عنه جينات الغناء الجميل كما ورث عنه جيناته الوراثية.وقياساً إلى الحالات التي أشرت اليها سابقاً وحالات اخرى مماثلة في العديد من المعنى التي لها علاقة بالفن، أو تلك التي ليس لها علاقة به، فان المسألة تظل نسبية، فليس من المحتم أن يرث كل ابن مهنة أبيه خاصة تلك التي لها علاقة بالموهبة والابداع والاشتغال عليها. فالقضية ليس قضية توريث ووراثة، بقدر ما يمكن أن يصدق إطلاق صفة اخرى عليها الاوهي تواصل الاجيال. فقد يأتي من الاجيال المتأثرة بهذا الفنان أو ذاك تلاميذ يتولون حمل عناء إكمال رسالته الفنية بصورة لايقدر عليها أبناؤهم الذين من أصلابهم خاصة إذا كانوا لايتسمون بالوعي الكافي،والمقدرة على التجديد.عرفت نجوان شريف ناجي بطريقة كشفت لي منذ اول لقاء عن شفافية روحه وموهبته الأصيلة في العزف على العود، ونضج معرفته بالغناء وأصوله وعمق وجدانه، وهي أمور في مجملها لازمة لاي فنان.وقد حقق أول نجاح حقيقي له عندما كان لايزال طالباً في جامعة عدن حين حاز المركز الأول كأجمل صوت عام 1989م في الاسبوع الجامعي الذي نظمتها الجامعة.وكانت الجامعة حينها تحاول تعميق الصلة بينها وبين المجتمع من خلال الاهتمام بالمواهب الأدبية والغنائية من طلبتها ضمن رسالتها التنويرية والتعليمية التي تسعى لتحقيقها. واعتقد ان هذا كان التزاماً واعياً من رئاسة الجامعة يتماهى مع دورها ورسالتها في الحياة بحيث لايختصر نشاطها على "تخريج" جيل من الجامعيين حملة الشهادات العليا في مختلف المجالات الذين يتحولون مع الوقت إلى موظفين أو عاطلين عن العمل؟ بل ان تتحول الجامعة إلى اداة للتنوير والتغيير التي تطرأ على المجتمع.وقد رأت الجامعة أو ادارتها ان الثقافة والفن بمختلف اشكاله يلعبان هذا الدور.وكان من شأن استمرار هذا النشاط الثقافي ان يؤدي مع الوقت إلى تراكم معرفي، وإلى بروز عدد من الملكات والمواهب في مختلف المجالات الأدبية والفنية، لكن وبكل اسف عاب ذلك التوجه انه لم يتحول إلى رؤى واستراتيجية للجامعة تترجم إلى منهج وبرامج عملية قابلة للاستمرار والتطوير حتى وان تغيرت رئاسة الجامعة وهو أمر تفرضه طبيعة وسنة الحياة.لذلك توقف ذلك النشاط بمجرد ان تغيرت رئاسة الجامعة.كان الفنان عصام خليدي الذي أشرف على ذلك النشاط في جانبه الموسيقي والغنائي أول من آمن بنجوان ناجي وبموهبته وبصوته فتولاه بالرعاية والاهتمام. وعلاقتهما اليوم ليست فقط علاقة تلميذ باستاذه، بل تحولت إلى علاقة صداقة وشراكة فنية انتجت العديد من الأعمال الغنائية، والمستقبل مفتوح أمامهما لتحقيق المزيد الذي يجترئ على الغناء التقليدي، واطلاق الاغنية اليمنية من عقالها والانطلاق بها نحو الحداقة التي بدأها غيرهم من جيل الرواد المجددين.ولانزعم ان مسيرة الفنان نجوان ومن قبله عصام خليدي تخلو من الصعاب، بل دونها صعوبات وعراقيل حقيقية، وليسا وحدهما في ذلك بل كوكبة كاملة من فناني اليمن الذين يعاني معظمهم من الاجحاف، لكن عملاً فنياً يعتمد على مشروع فني قادر على استكمال ادواته الفنية بالعمل والاصرار والدأب، سوف يصل إلى المستمع الذي هو أجدر به ومهما كانت الصعاب التي تكتنفه في الحاضر، لكن المستقبل كفيل بتغيير الكثير منها والمجيء بواقع جديد مختلف تكون فيها البلابل قادرة على التغريد وتسكت فيها الغربان التي تفسد سماءنا وذوقنا بنعيقها أو نعيبها القبيح "!"[c1]قطع العادة .. عداوةمرفأ رقم 3[/c]لم تتغير العادة اليمنية كثيراً ومازال اليمني يتدثر برداء النسيان لقاماته السياسية والثقافية والفنية والمبدعين من أبنائه. ومازالت هذه الحالة تلازم المبدع في حياته، وترافقه بعد موته!مرت الذكرى الأربعون لفقيد الفن الأمير أحمد عبدالكريم قبل عدة أيام دون أن يتذكره أحد وهو الذي طوال اكثر من نصف قرن كان حاضراً في ذاكرتنا الغنائية، كواحد من اساطنة التلحين للاغنية اليمنية ـ اللحجية.هو إبن لحج، وابن الفن، وابن الحب، وقد حملت الحانه التي لاتزال نرددها جيلاً بعد جيل ذلك الألق الذي يميز الغناء في لحج الخضيرة. وكأن هذه الأرض لاتكف عن الشعر، ولاعن الحب،ولاعن الغناء، ولا عن الرقص. فليس الأمير عبدالكريم وحده الذي أهدته إلينا دوحة الغناء في لحج الذي لايزال يعطر ليالينا بعذب الألحان الذي تمتلئ بها حواسنا طرباً ورقصاً وغناء. انما معه وقبله وبعده القمندان، وعبدالله هادي سبيت وفضل محمد اللحجي ومحمد سعد الصنعاني وحسن عطا، وعبدالكريم توفيق، ومحمد صالح حمدون، وفيصل علوي، ومهدي درويش وسواهم من أهل الطرب والغناء.يعد الأمير الراحل أحد رموز التجديد للأغنية اللحجية، وقد وضع العديد من الألحان التي أصبحت من محطاتها وجوانبها الفاصلة. وتجربته تحتاج إلى دراسة متأنية وعلمية للكشف عن مختلف جوانبها وإلى أي مدى أسهمت في اثراء فن الغناء في لحج، وفي الأغنية اليمنية على وجه العموم. وهو أمر لم يحدث في حياته، ونراه ملحاً بعد موته.اذا كان المرحوم عبدالكريم ضمن ذلك الفيض الغنائي الذي تدفق من لحج خلال الاربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، وهي فترة متفجرة بالابداع الأدبي والفني وفي العديد من مجالات الحياة على مستوى اليمن كلها تمثلت الحداثة الشعرية كما الحداثة الموسيقية والغنائية كما ارتفعت خلالها دعوات الاصلاح والتجديد، ويمكن تقويم تجربته وتجربة سواه من معاصريه ضمن هذا المفهوم، وفي اطار تلك المرحلة والظروف مع ملاحظة تلك الجاذبية التي يحظى بها فن الغناء على الدوام لاقترابه من وجدان الناس. وقد كان فقيدنا ضمن هذه المدرسة التجديدية بكل ابعادها التي يموج بها المجتمع اليمني ويدفع بها العصر بكل متغيراته في ذلك الوقت.لكن هاهي الذكرى الاربعون للرجل تمر بصمت كأننا لم نعرفه .. انه اهمال يطاله بعد ان طال من قبله جيلاً كاملاً من الرواد في مختلف المجالات. ونرجو الا تأتي الذكرى الاولى لوفاته في العام القادم ونحن لانزال على عادتنا في نسيان ذكرى الرجل وعطائه.