اشتد الجدل في دوائر الإفتاء في مصر حول فتوى أحد علماء الأزهر، باللجوء إلى حيلة رضاع الكبير لحل مشكل الخلوة بين الزملاء في المكاتب. وقد ضجت الساحة المصرية بالحوار حول هذه المسألة التي أخرجت من نطاقها الفقهي لتحتل صدارة الاهتمامات في أكبر بلد عربي، ولتبلغ أصداؤها بقية البلدان العربية. صحيح أن في الفتوى مسحة غرابة، بل انها تجاوزت بالفعل حد اللياقة، لكن الفقيه الأزهري لم يخرج عن سياق الجدل الفقهي المألوف، في مسألة خلافية معروفة. وقد سبقت هذه الفتوى المثيرة، حالات عديدة أثارت الجدل نفسه. فشيخ الأزهر الحالي الذي وقف بشدة ضد فتوى رضاع الكبير، هو نفسه الذي اشتهر بفتاويه التي شذ بها حول جواز الفائدة المصرفية، وسندات التوفير، وقد ولدت نقمة عارمة في أوساط المجامع الفقهية.وإذا كان الزعيم الإسلامي السوداني حسن الترابي، قد خرج علينا في السنة الماضية بآرائه المثيرة حول إباحة زواج المسلمة من الكتابي، وإنكاره للمهدي ورجوع النبي عيسى عليه السلام، فإن الشيخ القرضاوي نفسه لم يسلم من النقمة نفسها في فتاويه بعدم التفريق بين المسلمة وزوجها الكتابي وبجواز استعمال القروض الربوية لاقتناء المساكن في بلاد الغرب. وفي الساحة العراقية الدامية، تزامنت الحرب الطائفية القائمة مع حرب تكفيرية شرسة بين الأصوليتين السنية والشيعة، لم يسلم منها المرجع السيستاني نفسه، الذي وظفت فتوى قديمة له بإقصاء أهل السنة من الملة، في الوقت الذي استندت المجموعات السلفية المتشددة لفتاوى منسوبة لابن تيمية وابن القيم في تكفير الشيعة وقتلهم.لقد بدا من الواضح من خلال حرب الفتاوى المشتعلة هذه الأيام في العالم الإسلامي، أن مؤسسة الإفتاء في بلادنا تعيش أزمة قاسية، في مستويين مترابطين يتصل أولهما بمرجعيتها العلمية والعقدية، ويتعلق ثانيهما بنمط اشتغالها وتأثيرها الفعلي في الأوضاع العامة. أما المستوى الأول فنلمسه بوضوح في صراع المرجعيات الفقهية، على الرغم من أن أكثر الآراء جراءة وتجديدا تحرص على الالتزام بالمدونة الأصولية والفقهية الارتدوكسية، ولا تخرج عن ضوابطها التأويلية وإمكاناتها الدلالية. فإذا كانت الساحة الفقهية قد شهدت في السنوات الأخيرة دعوات عديدة لإعادة بناء المنظومة الأصولية وتجديد أصول صناعة الفتوى (والعبارة للعلامة الشيخ عبد الله بن بيه) إلا أن هذه الدعوات لم تخرج في سياقها التطبيقي عن آليات الترجيح والتكيف والتركيب المعهودة في العقل الفقهي الوسيط. ومع ذلك، فإن الوعي قد تزايد في حقل الدراسات الإسلامية بأن الموروث الفقهي لم يعد قادرا لا من حيث بنيته التصورية (الأصول) ولا من حيث آلياته المنهجية (قواعد وأدوات الفقه) على توفير العدة الضرورية، لاستثمار دلالات النص في السياق الراهن.وقد نجم هذا الوعي عن الإشكالات العملية المترتبة على الفتاوى المطلوبة لحل إشكالات حيوية مطروحة، كما نجم عن الانفتاح الواسع على الحقول التأويلية المعاصرة، التي وفرت للفقيه إمكانات ثرية غير مسبوقة.بيد أن علماءنا وان كانوا لا يفترون عن التذكير بأن الأقضية تتجدد بحسب أحوال الناس، ولا ينكرون أن الفقه صناعة وضعية ظنية لا تتماهى مع النص المرجعي المقدس، الذي هو المحكم المتواتر القطعي الثبوت والدلالة، إلا أنهم يفضلون سلامة الركون لسلطة الموروث على مسؤولية الاجتهاد والتأويل، فيفضون إلى فتاوى مرقعة لا ترضي المتشبث الحرفي بالفقه الوسيط ولا المسلم المعاصر الذي يصطدم برهانات الحداثة. أما المستوى الثاني فيتعلق بتركيبة مؤسسة الإفتاء ومنزلتها الفعلية في الشأن الجماعي والحقل العام. فمن نافل القول إن هذه المؤسسة، وإن كانت لا تزال قائمة في أغلب بلدان الإسلام، وإن بأشكال متمايزة، إلا أنها لم تعد قادرة على أداء دورها التاريخي لأسباب عديدة يتصل بعضها بطبيعة علاقتها بالدولة المركزية الحديثة. ويتعلق البعض الآخر بمنزلتها في الحقل الديني نفسه. فمؤسسة الإفتاء التي كانت في السابق احدى ركائز المجتمع الأهلي، غدت اليوم جهازا من أجهزة الدولة الوطنية المعاصرة، مما أفقدها استقلاليتها ومصداقيتها ونجاعتها العملية. وقد تحولت هذه المؤسسة في الغالب اما إلى شكل فارغ لا يؤدي أي دور فعلي، أو إلى إطار مستتبع يوظف في استراتيجيات الاستقطاب، وإضفاء الشرعية على السياسات الحكومة الرسمية. أما الحقل الديني فقد وحدته وبنيته النسقية، ببروز اتجاهات متباينة متصادمة، تتنافس على احتكار الرأسمال الجماعي للأمة، من بينها السياسي الملتزم والتقليدي التراثي مع أشكال جديدة من الممارسة الروحية، التي تندرج في إطار خصخصة الانتماء الديني، التى هي إحدى الظواهر الاجتماعية الجديدة التي أثارت اهتمام علماء الانتربولوجيا.إن حل هذه العقدة المضاعفة لا يكون بمجرد التنسيق بين المجامع ودور الافتاء، ولا حتى باستراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وإنما هو مرهون بعملية إصلاح فكري وتربوي جذري، يطال البنية المؤسسية للافتاء، واستراتيجيات التأويل والقراءة. وبدون هذه العملية الإصلاحية الجذرية، تبقى فتاوى فقهائنا أدوات صراع سياسي واجتماعي ملتبس، ان هي خرجت عن طرف الجرائد ومزح العامة.[c1]* كاتب موريتاني[/c]
|
فكر
أزمة الفتوى ومأزق مؤسسة الإفتاء
أخبار متعلقة