دراسة أدبية وفنية
عياش صالح الشاطريمن يقرأ في الشعر العربي وينظر في نصوصه ونماذجه الكثيرة يجد صورتين متقابلتين منذ العصر الجاهلي: صورة تقليدية تعتمد على رسوم وتقاليد كثيرة، وصورة اغان خالصة تعتمد على العزف والضرب على الآلات الموسيقية.وتتخالف الصورتان في كثير من الجوانب فالصورة الاولى معقدة، ولعل خير ما يمثلها مطولات الشعر العربي في المديح والهجاء وما يتصل بهما، حيث نجد الشعراء يبالغون في صنع نماذجهم مبالغة افضت بزهير في الجاهلية الى ان يصنع المطولة من مطولاته في حول كامل، كما يقول الرواة، ومن اجل ذلك كانت تسمى مطولاته باسم الحوليات.وكان يقابل هذه الصورة من الشعر العربي صورة اخرى لم تكن مطولات، وانما كانت في اكثرها مقطوعات، ولم تكن تدور حول المديح والهجاء وانما كانت تدور حول الغزل ووقائعه، ولم تكن تقال لتنشد وانما كانت تقال لتغنى وتصحب بالعزف والضرب على الادوات الموسيقية ولعل خير اسم يمكن ان نطلقه على هذه الصورة هو اسم شعر الغناء او الاغاني. وهاتان الصورتان للشعر العربي استمرتا تتقابلان في عصوره المختلفة. وكانت صورة الاغاني اكثر من اختها التقليدية قابلة للتطور والتحول، بحكم اتصالها بالغناء والموسيقى ولغة الناس الشعبية، مما احدث اخيرا في الاندلس الموشحات والازجال على نحو ما هو معروف. وقبل هذه الازجال والموشحات كانت تحدث تطورات واسعة في الاغاني، لامنذ العصر العباسي بل منذ العصر الاموي، اذ نهض الحجاز (الجزيرة) بالغناء نهضة كبيرة اثرت تأثيرا شديدا في الاغاني هناك، وهو تأثير امتد الى كل شئ فيها، امتد الى لغتها، اذ نرى الشعراء يتخذونها غالبا من لغة الناس المألوفة لأنهم يريدون ان يكونوا قريبين منهم، وامتد الى موسيقاها، اذ نرى الشعراء يكثرون فيها من الزحافات والعلل حتى يلائموا بين شعرهم وتقصيرات المغنين والمغنيات وتمديداتهم. وايضا فإنهم اخذوا يجزئون ويعدلون في صورة اوزانهم، حتى تحمل كل ما يريد المغنون من أصوات وغناء . (ص5 - 6 - الشعر والغناء في المدينة ومكة - د.شوقي ضيف) (1).[c1]لمحة تاريخية موجزة عن شعر الغناء اليمني :[/c]الشعر هو اللون الادبي الاوفر حظا لدى اهل اليمن، وعنايتهم به مسألة ليس بوسع أي كان اغفالها او عدم التسليم بها . فلقد ظل الشعر والشعراء وحده هو السمة المميزة للادب اليمني الى وقت غير بعيد. ولابد من الاعتراف بان اهتمام الادباء في اليمن بألوان الادب الاخرى، جاء في مرحلة متأخرة بعض الشئ، ولليمن كما نعلم ويعلم الكثير شعراء رفدوا تاريخ الادب بأعمال شعرية لفتت اليهم انتباه الكثير من النقاد والدارسين، ولقد دللوا عبر مراحل مختلفة من التاريخ ومن خلال ماقاموا بتقديمه من ابداعات في هذا الميدان، على امتلاكهم لقدرات ليست بأقل من القدرات التي كان يمتلكها أندادهم من الشعراء في الوطن العربي.وموروث اليمن الادبي والشعر منه على وجه الدقة يعطي من الادلة والبراهين ما يدعم هذا القول ويؤكد صحته، وما من شك في ان الشعر اليمني ماٍزال كما كان وسيستمر منهلا عذبا متاحا لكل محبي الادب الظامئين الى المعرفة.منذ خمسمائة عام او يزيد ابتكر الشعراء في اليمن نوعا جديدا من الشعر يشبه في بعض مظاهره شعر الموحشات الذي اشتهرت به بلاد الاندلس. وقد اتفق على تسمية هذا النوع المبتكر من الشعر بالشعر (الحميني) وذلك للفصل بينه وبين الشعر الفصيح او (الحكمي) كما كان يسميه اهل اليمن.والحميني كما عرفه الدكتور محمد عبده غانم في كتابه (شعر الغناء الصنعاني) - ص 54 - هو ذلك النوع من الشعر غير الملتزم بقواعد اللغة الفصحى ومفرداتها وعروضها.(2).ولمع الكثير من رواد الشعر الحميني او الشعر الغنائي - وهو الاسم الذي سنعتمده في هذه البحث - مثل ابن شرف الدين والآنسي والعنسي وغيرهم. وبتعاقب المراحل التاريخية توارث الشعراء في اليمن هذا للون الشعري وامتد معهم، وما برحوا يكتبون ويتطرقون من خلاله الى مختلف الاغراض المعروفة في الشعر كالغزل والوصف والمدح والرثاء .. الخ.ولعل الانجذاب لكتابة القصيدة الغنائية بتركيبتها الجديدة امر فرضته عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية فأهل اليمن وبحكم الهيمنة الاستعمارية الرجعية والطبيعية الجائرة لذلك النوع من انظمة الحكم وجدوا انفسهم بمنأى عن كل معالم التحضر رغم اصالة روحهم الحضارية.ولان الشعراء في تلك الفترة كانوا اكثر الناس ادراكا لتلك الحقيقة، رأو في كتابة قصائدهم بلهجة العامة انسب الطرق للتواصل مع الغالبية العظمى من الناس، وهو ما يتيحه البناء الشعري المبتكر من حيث اتساعه لاستيعاب كثير من المفردات العامية.ومما لاشك فيه ان الشعر الغنائي قد مر بمراحل عديدة تطور في اثنائها واكتسب الكثير من الخصائص والمميزات ولعب المبدعون من الشعراء دورهم في احداث الكثير من ملامح التجديد فيه. والموروثات الادبية التي خلفها السلف تطالعنا بكل نواحي التطور التي مر بها هذا للون الشعري.في صنعاء كانت ولادته الاولى، الا انه امتد لينتشر بعد فترة وجيز من الزمن الى كل اليمن واشتهرت به بعد صنعاء حضرموت ولحج وعدن ويافع، وفي كل منطقة كانت له مميزات وخصائص تختلف عن بقية المناطق.الا ان صنعاء ولحج وحضرموت كانت من اكثر المناطق شهرة في شعر الغناء، وقد لمعت اسماء العديد من الشخصيات الادبية فيها. والتي يعود لها كبير الفضل في تطور شعر الغناء اليمني (1).[c1]وقفة قصيرة حول تاريخ شعر الغناء في لحج [/c]حبا الله منطقة لحج بجمال طبيعي، ومنحها ماء زلالا، ورقد الحب على اكتافها سنينا طوالا. وحيثما تلفت تجد مبتغاك، فاكهة وخضرة وماء ووجها حسنا. وهي من ابرز المناطق اليمنية تاريخا. قصدها الشعراء لينعموا بخيراتها لتجود قرائحهم فهي ملهمة موحية يقول عمر بن بي ربيعة:[c1]تقول عيسى وقــد وافيت مبتهلالحجا ولاحت لنا الاعلام من عدنمنتهـــى الارض يا هذا تريد بــنافقــلت كـلا ولكـن منتهــى اليمــــن[/c]هكذا خلقت لحج في مبدأ الخلق والابداع، لتكون محرابا للفن وترتيل آياته وكان لابد من ان تلد فوق ما ولدت، وجدانها الانساني وحاستها المرهفة ومشاعرها الخلاقة المبدعة في شخص مجموعة من ابنائها، يصلون كل ذلك بأنامل الفن الخالدة وحناجره الصداحة بل في شخص رجل، اذا ما سمعوا المياه في خريرها جعلوا من ذلك الخرير لحنا يرهف المشاعر، وكان احساسهم بجمال الطبيعة يجعلهم يصوغون اعذب الكلام وارقه. واذا حنت السماء وضجت رعدا وبرقا وتنحنحت الجبال نافضة زوائد الجلاميد، او تدافقت القطعان في الاودية والشعاب من خلف الرعاة، انتعشت قلوبهم وارتعشت اجنحة الخيال فيهم، تمخضوا ايقاعات ترقص الحجر والشجر(4).لحج كما تمت الاشارة، تعد واحدة من المناطق التي اشتهرت بشعرها الغنائي وليس لدينا من المصادر ما يمكن الاعتماد عليه في تحديد تاريخ نشأة شعرها الغنائي، ولكن الارجح انه انتقل اليها من صنعاء بعد فترة زمنية قصيرة،. وبما ان الغموض يحيط بالمراحل الاولية لتاريخ الشعر الغنائي في هذه المنطقة سنكتفي بالتعرض الى اقرب فترة زمنية، وهي الفترة الواقعة بين القرن التاسع عشر والممتدة الى الستينات من القرن العشرين، ولعله من المفيد ان نتناول هذه المرحلة من خلال شخصية ادبية بارزة كان لها الفضل في ازدهار الشعر الغنائي في منطقة لحج لاننا من خلاله سنقف امام اهم الملامح الشعرية لهذه المرحلة(5).اما في عصر ما قبل القمندان، كانت الاغنية اللحجية تغنى على نمط الرقصات الشعبية (الفلكلور الشعبي) الرزحة - الدحفة - الدمندم - الشرح - الزفة - رقصة الحناء. اما الدان اللحجي فقد تميز في فترة ما قبل القمندان بهذين اللحنين: وامرحبا بالهاشمي - واطير كف النواح(6).[c1]أحمد فضل القمندان (تـ 1947م)[/c]يرتبط تاريخ شعر الغناء في لحج باسم هذا الشاعر، لما له من اسهامات ادبية رائعة، ومن الانصاف القول بأن القصيدة الغنائية على يديه وفي زمنه وصلت من النضج حدا بعيدا، وله يرجع الفضل في تطورها وانتشارها، فهو قد استطاع بما لديه من موهبة وبما يمتلكه من مقومات ادبية الارتقاء بمستوى القصيدة الغنائية شكلا ومضمونا، واكسابها من الخصائص الغنية ما جعلها تقف بموازاة القصيدة الغنائية الصنعانية ذات الشهرة الواسعة، وفي زمنه اشتهر فن الغناء في لحج واتسعت رقعة جمهوره اتساعا لم يسبق له مثيل.وما ينبغي ألا نغفله هو ان مؤثرات الاغنية الصنعانية برزت في بعض قصائده، وذلك في مستهل حياته الشعرية، لكنه، وهذا في مرحلة لاحقة خرج عن تلك المؤثرات واختط طريقا خاصا به، في كتابة القصيدة الغنائية واضافاته المتعددة في هذا الميدان، يمكن الوقوف عليها من خلال ابتداعه لعدد من الاوزن الجديدة وتمرده على شكل الموروث في بناء القصيدة الغنائية، الامر الذي يجيز لنا ان نقول عنه بانه كان رائدا من رواد الشعر الغنائي في لحج(7).وقد ظهر في فترة القمندان الشاعر والمغني فضل ماطر، وهو من الشعراء الذين عاصروا القمندان، وسبقوه الى قول الشعر على الحان فلكلورية شعبية مختلفة من الحان الرقصات الشعبية اضافة الى وجود (ابن درينة). فقد كان هذا يجيد الغناء، وكثيرا ما كان يصل صوتهما قويا نفاذا الى مسامع القمندان خصوصا في اوقات السحر، فقد كان ابن درينة مغنيا فقط عكس زميله فضل ماطر الذي جمع بين قول سعدان):الى جانب القمندان ظهور شعراء عديدون، ساهموا بنصيب وافر في تطوير شعر الغناء، فهم على سبيل الذكر لاالحصر (حسن افندي - صالح فقيه) وغيرهم ممن تركوا لنا اعمالا شعرية هي بحق من العلامات المميزة للشعر الغنائي في منطقة لحج. كما اتجه الشعر في هذه المرحلة الى تناول الاغراض التقليدية المعروفة في الشعر، لكنهم اعطوا مساحة كبيرة للغزل كادت تطغى على كل ما ابدعه الشعراء آنذاك.وقد كان الوجود الاستعماري من الاسباب الرئيسية التي واجهت اهتمام الشعراء الى العناية بشعر الغزل دون غيره، لإبعاد الناس عن الاهتمام بالقضايا الوطنية الهامة، ولكن ذلك لم يمنع القصيدة الوطنية الغنائية من الظهور.وبسبب كثرة الاغنية الغزلية، تمخض تطور في بعض جوانب الاغنية، من حيث مستوى اللغة الشعرية المستخدمة فيها.كما امتلك الشعراء قدرة عجيبة في تطويع الالفاظ الدارجة لرسم اجمل الصورة الشعرية وتعد هذه المرحلة بحق من اخصب المراحل الشعرية التي عرفتها لحج.وفي الفترة الاخيرة من حياة القمندان برزت تجليات جديدة في محتوى القصيدة الغنائية حيث نجد ان بعض القصائد تلتفت بقدر من التحفظ الى ملامسة الظروف الاجتماعية الصعبة، وبدأت تنتقد بعض الظواهر السيئة لواقع تلك الفترة. كذلك نجد من بين القصائد ما اتسم بالجرأة والخروج عن ما كان سائداً، واتجاهها للاستنكار الساخر لكل مظاهر البؤس والشقاء التي كان يعاني منها الانسان اليمني:كما عبر أصحابها عن رفضهم لحالة الجهل والتخلف ودعوا إلى العلم:[c1]إذا رأيت على شمسان في عدن تاجاً من المــزن يروي المحــل فــي تـــبنقل للشبيبة بنفي هكذا لكمـــو تاجاً من العلم يمحي الجهل في اليمن[/c][c1]القمندان: الشاعر،،. العاشق.. الفلاح[/c]هكذا وصف المرحوم مفتي الأدباء وشيخهم عمر الجاوي القمندان. قال عنه: القمندان هو المطور الفحل للأغنية في لحج بل وخالق ألحانها وإيقاعاتها وان أردنا ان نتحدث عن طابع الأغاني في المناطق اليمنية ونضع التسميات والمصطلحات الصحيحة لها: فيمكن ببساطة ان نلغي كلمة لحج ونتحدث عن اتجاه القمندان في الأغاني اليمنية لأنه لم يكن شاعراً فحسب وإنما أيضاً ملحنا وعازفاً ومغنياً.قد يقول قائل انه كغيره ممن مارس فن الطرب في اليمن منذ زمن بعيد نعم كغيره وليس كغيره، لأنه يمثل الفارق الشاسع بين الخلق ومحاولة الإطراب بين المبدع والمجدد بين من يأتي بشيء وبين من يحاول تحسين ما هو موجود.فلقد كان القمندان يكتب الكلمات ويلحنها ويغنيها وينسق إيقاعاتها ويخلق رقصات جديدة مواكبة لإلحانه والغريب في الأمر انه لم يكن مسفاً ولا ضحلاً بالرغم من اضطلاعه بدور أربعة مبدعين الشاعر والملحن والمغني والمخترع للرقصة قد لا نستطيع الآن ان نحط على نطاق التجربة إلا شعره ولكن أولئك الذين يرون التلفزيون يستطيعون ان يستمتعوا بالكلمة واللحن والإيقاع في ( واعلى امحنا) وغيرها من الرقصات الشعبية.وشعر القمندان متدفق الأحاسيس قوي الصور، معطاء لايترك فرصة للمستمع في وقفة ولو بسيطة لكنه يرغمه على الاستمرار حتى النهاية بنوع من النشوة المكثفة التي تتفق وثراء الكلمات ورقتها قلما يوجد شاعر مثله لايسف مطلقاً منذ اول بيت حتى آخر بيت انه كالنهر الذي يحمل رسالة الى المصب فلا يوقفه ما يؤخذ منه في الطريق ويكتسح كل الحواجز المصطنعة لا ينطبق إلا على شعره الغنائي فقط الذي هو الهدف من هذه الكلمات:[c1]هل اعجبك يوم في شعري غزير المعانيوذقــت تـــــرتيل آياتـــي وشـــاقك بيـانيوهـــــــل تأمــلت يالحـجي كتـاب الاغانيولا انــا قـط صـــنعاني ولا اصفهانــــــيهل اسمعك فضل يوماً في الغناء ما أعاني وكيـــف صــاد المـــها قلبـي وماذا داهنيوانـــت بالعـــود تتهنــا وطعــم المثانـــي فهــــل دعــاك الهوى يوماً كما قد دعاني[/c]هذه الدفعة الشعورية القوية تطمح بالفعل الى المصب ترغم القارئ على التوتر والجري وراء الأبيات للوصول الى النهائية بتوتر جم ولكنه هنا رغم كل هذه يصل مع القمندان الى نهاية الديباجة فقط ( أو المدخل) أما.. ما هي القضية فيشرحها في ( الدور) ثم ( التوشيح) ثم ( التقفيل) بنفس القوة والإحساس المستمر وفي كل هذه الأدوار لم يحس الشاعر بالتعب في إحساسه او ينتابه الهزال المعتاد وهو يخلق من مشاعره صوراً جميلة وعلى العكس فقد مضت القصة إلى النهاية في أغنية كتبها وبنفس القوة.[c1]يـــــا ورد يا فل يا كــاذي ويا ورد نرجـــسبس الجفا يا كحيل الطرف بس الجفا بسحس الهــوى لوع الخاطر وحرق ومسمسســاعة من الزين لوجــــادت مزونه شفاني[/c]ويستمر عمر الجاوي في تعريف القمندان أو (القمندار) حسبما نادوه العامة قائلاً:والقمندان هو أحمد فضل بن علي العبدلي احد الأمراء في لحج الذين اختاروا الفن ومضوا في طريقة دون التفاته الى قوة السلطة وجبروتها ولو ان الامير استغل امكانياته من اجل تطوير فن الطرب والرقص والشعر و( البستنة) بفضله أصبح بستان الحسيني ملجئاً للجمال والطرب والشوق الى الحبيب والارض ويمكن ان نقارن حبه لهذا النوع من النشاط الإنساني بالوريث الشرعي للإمبراطورية البريطانية شقيق جورج السادس فلقد كانت لهذه القصة القمندان طلب منه ان يختار ان يكون ملكاً لبريطانيا وفي هذه الحالة عليه الإ يتزوج من حبيبته التي لم تكن من فصيلة الامراء وكان صاحبنا ( قمنداني) المزاج ففضل الزواج من حبيبته وترك الملك لإليزابيث اما القمندان فلم يطلب منه ان يكون ملكا فقد كان أميرا لا يمارس ( الأميرة) من الناحية الاجتماعية والأخلاقية وفضل الإمارة من نوع آخر بقيت وستظل حتى بعد وفاته. مملكة الفن والطرب وكتابة الكلمات الرقيقة لا زالت تصنع البهجة والسرور في قلوب البشر الذين يفهمونها ثمة صعوبة كبيرة قد تواجه الذين يريدون ان يقرأوا شعر القمندان بحكم اللهجة اللحجية المحلية ولكن ما يمكن ان نمسكه في شعر القمندان بعد ان نعرف المفردات التي يستعملها هي ان اغلب الصور قد جاءت من الفصحى بل وينسجم احياناً فيترجم من ( أبي فراس الحمداني):-[c1]نعم انا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر[/c]فيصفها باللهجة اللحجية:-يا بوي أنا يا ضنا حالي من السجرة حاشا علي ألف حاشا ما اخرج المكنون[/c]ما يسهر الليل إلا من ارق ، إلى:-[c1]ما يسهر الليل إلا من به القمرهوذي صبح جسمه الضاني كما العرجون[/c]على ان هذا النقل الحرفي نادر في أغاني القمندان وان كانت اغلب صوره بالفصحى فذلك لان ثقافته العربية كبيرة جداً وقد زار كثيراً من البلدان العربية والآسيوية وكما يبدو من بعض أشعاره انه لم يتعرف على أوروبا إلا من خلال الكتب والصحف.فقد سأل أخاه العائد من سويسرا:-[c1]كيف أوروبا وما شاهدتموه اسويسرلند وحش كاليمن أجيـــاع أعراة أهلهـــــا في شقا جهل وبؤس ومحن[/c]ومن سيرة القمندان الذاتية التي يتناولها الناس انه يقضي جل لياليه في بستان الحسيني بين الأصحاب والصويحبات وكان يلحن ويكتب الشعر في نفس الوقت الذي تزداد فيه ضجة الأمسيات بالرقص والغناء لقد كان متطرفاً للراحة والأنس خاصة في الحسيني وقد تجاوز حتى في عدم التحديد لأنواع التسلية والأنس فالخيام يرى ان بقاء الصحاب أجمل من كل شيء.[c1]لا طيب في الدنيا بغير الشرابولا شجـــي فيهــا بغيـر الربابفتشـــت فــي أحوالهـــا لم أجـــدأجمـــل فيــها مــــن لقاء الصحاب[/c]أما القمندان فإن الأصحاب بالنسبة له تأكيد للأنس الذي يرغب فيه عن طريق الشم والطعم واللمس[c1]في الحسيني مست خبرة جماعة واصحاب والسمر طاب طاب يسحبو الأنس بين الفل والورد سحبابفي جناين عجابثم صوت الرباب والعود والماء ينسابوالمطر والسحاباسكبوا لي شراب قهوة قرنفل وعناببعد ماء الكزابقد دنى الأنس كان أي قاب قوسين او قابفا سقني والصحاب[/c]ان من يتتبع ديوان القمندان ( المصدر المفيد) او كتابه ( هدية الزمن) يخرج بنتيجة واحدة وهي أن هذا الأمير لم يشعر بتقاليد الإمارة مطلقاً فقد كان ينطلق في صورة وأوصافه الشعرية من مواقع فلاحيه وكانت قطعة الأرض الصغيرة هي أغلى ما تفتق عنه ذهنه:-[c1]فين الذي بايسحــــــــــــــــره بـــاعطيــــــــــه في فالـــج فلـجأخــــــاف يصبــح ساحــــره أسيــــــــــــر عينـــه والدعــــج[/c]وفلج قطعة ارض في منطقة فالج وينسى انه أمير أمام الحبيب ويتنازل لمحبوبه حتى يتمنى:[c1]ليتنـي ليتني قمري سجع في يراعه ليتنـــي عندهــم با يطـرحوني وداعهليتني في السمر بوري برأس المداعه ليتنـــي بنجري في معصمه او ذراعه[/c]ويكثر في التواضع :[c1]عرف الند والفل فاح با سمره هنا لا الصباح با شلك على عاتقى[/c]قد يكون هذا التواضع أيضا نتيجة لصغر سلطنة أخيه ولكنه رغم كل شيء يفرح فرحة المزارع الكادح بحصاد الأرض وينقي لهذه الفرحة مفردات مفرطة في المحلية والشعبية.[c1]ياغــــــــربة الإحسان زال الجرادوسال ماء السقوفي في كل مرادفمـــــا علـــى الزراع أن قيضـــوالحــــصدك الحصاد آن الحصاد[/c]هذه الفرحة بزوال الجراد ومجيء السيول واوان الحصاد لا تأتي من أمير قال احد جلسائه انه كان ينظر كل يوم من شرفته إلى مطعم شعبي تحت بيته وكان يردد..كم أود ان أعيش مع هؤلاء وبالفعل فقد كان يجالسهم بين الفينة والفينة ولأنه يحب الفن وخاصة الطرب كان يتألم عندما يخل العازف اللحن ويقال ان احد المغنيين أخطا أكثر من مرة في حفل زواج في عزف رقصة ( واعلى محنا) فنزل من بيته عند الفجر وانتزع العود من المغني وذهب يعزف بنفسه.ان كانت هذه الحقيقة فذلك هو القمندان وان كانت أسطورة قد تخيله الناس هكذا ويكفي ان نقول انه من بين من عرفتهم اليمن عموماً إنساناً حساساً عاشقاً وذا قدرة استثنائية على الالتقاط والتخيل والارتعاش والدهشة، ذلكم هو الفنان الشاعر القمندان الذي معه ومن خلاله تحولت الدلتا بكل سحرها إلى الحان وإيقاعات هي حبات المطر وانداء الفجر وسحر الغروب وانتفاضة الربيع وجلال المخادع معها أصبحت لحج قبلة الآذان الصاغية والقلوب الهافية ليصبح لليمن خلالها وبجانب لوناً جديداً مفرداً ومتميزاً هو اللون اللحجي.هكذا أسس القمندان باني النهضة الفنية مدرسة جديدة للفن الغنائي تخرجت منها أجيال واصلوا الطريق وأضافوا فاشتهروا نذكر منهم حصراً : فضل محمد اللحجي- مسعد بن أحمد حسين - تكرير- فضل طفش- حسن طفاش- هادي سعد سالم- احمد صال علي.كما ان الشاعر والملحن الأستاذ عبدالله هادي سبيت الذي عاصر الفترة الأخيرة من حياة القمندان يعد من ابرز الشعراء الذين ساهموا في حمل القصيدة الغنائية إلى اتجاهات بعدت بها عن الأغراض التقليدية الموروثة في شعر الغناء وبدأ سبيت يضمن قصائده معان أفضحت عن هموم المجتمع إلا ان عوامل الكبت ومصادرة الحرية والرأي التي كان يمارسها الاستعمار ضربت حصاراً محكماً حول مثل هذه الأعمال الشعرية ومنعتها من التنفس، الأمر الذي لم يساعد على اكتمال نموها مثل:-[c1]يا شاكي السلاح شوف الفجر لاححط يدك على المدفع زمان الذل راح[/c]واستمرت الأغنية اللحجية في ازدهارها بعد القمندان، يقود لواءها عبدالله هادي سبيت الذي يعتبر أول الدعاة لتأسيس ندوات موسيقية في لحج بغية التنافس الشريف كما لا ننسى محمود علي سلامي- سالم زين عدس- مهدي علي حمدون - مسرور مبروك / علي عوض مغلس / حمود نعمان، والملحن الفذ صلاح ناصر كرد.ــــــــــــــــــــــــــــــــ[c1]المصادر والمراجع:-[/c]1- الشعر والغناء في المدنية ومكة - د. شوقي ضيف- (ص 5-6)2- شعر الغناء الصنعاني/ د. محمد عبده غانم ( ص 54)3- اتجاهات الشعر الغنائي الوطني بعد الاستقلال - عياش الشاطري / عبدالله الشريف ( ص 11-12)4- فضل محمد اللحجي - تأليف الشاعرين صالح نصيب وأحمد صالح عيسى - (ص 13)5- اتجاهات الشعر- ( ص14)6- فضل محمد اللحجي - ( ص11)7- اتجاهات الشعر / ( ص15)8- فضل محمد اللحجي - ( ص12)9- اتجاهات الشعر - ( ص18) 10- مجلة الفنون / السنة الأولى مايو 1972م / ( ص11)11- اتجاهات الشعر- (ص27)