أفكار
ثمة تصاعد مثير لخطاب يدعو إلى الانتقال من الأشتغال بقضايا الهوية الإسلامية إلى التوجه نحو قضايا التدبير المرتبطة بإشكالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضرورة التمييز بينهما داخل التجربة السياسية الإسلامية في المغرب. وهو خطاب نجد له امتدادات في دول أخرى، لكنها لم تصل إلى نفس الدرجة في الحالة المغربية من خلال بروز هذا الخطاب في خضم النقاش حول أطروحة المؤتمر القادم لحزب العدالة والتنمية. وقد انبرت لذلك أقلام مؤثرة في الهرم القيادي لهذا الحزب، قدمت الموضوع بشكل معتدل، مختلف نسبيا عن خطابات أخرى تقدم كل ذلك بمنطق التناقض القائم بين قضايا الهوية وقضايا التدبير.خطاب التناقض هذا وصل حد اعتبار حسم إشكالية التقدم السياسي المستقبلي للحزب رهينا بحسم هذا التناقض. وهو يعيد إشكالية التمايز بين المستويات الدعوية والسياسية في الحركة الاسلامية إلى مربع البداية باقتراح تمييز ثان بين القضايا الإستراتيجية والتكتيكية في قضايا الهوية، كما يجعل من قضاياها ذات البعد السياسي من اختصاص التيار الدعوي، ويحجم إلى أبعد حد ممكن من اشتغال الحزب السياسي على قضايا الهوية التي أصبحت في نظر هذا التحليل من اختصاص حركة التوحيد والإصلاح وليس الحزب.ورغم صوابية عدد من الحيثيات التي يحشدها هذا الخطاب للتدليل على مقولة التمييز وضرورة الانتقال مع الحرص على نفي التقابل، إلا أن الإشكالية المطروحة من أساسها تبقى إشكالية مغلوطة إن لم نقل وهمية بالنسبة لمن يفترضون وجود تناقض داخل هذا الخطاب. وبالتالي، فإن أي حل يقدم مهما كانت قوته النظرية وفعاليته العملية يبقى حلا موسوما بالشرود عن مجابهة الإشكالية الحقيقية، والمرتبطة أساسا بمعالجة الأعطاب التي ضعفت، إن لم نقل حدت وبشكل كبير من تقديم نموذج فعال في تدبير الشأن العام للحزب السياسي ذي المرجعية الإسلامية.يمكن النظر لذلك من زاويتين: الأولى تهم قضية وضع الطبيعة التدبيرية للحزب بما هو حزب موضع مناقشة قد تصل حد التشكيك أو أنها ليست موضع إجماع وعلى أساسها يتم الاجتماع داخل الحزب، في حين نجدها تمثل الأصل الذي يحكم العمل الحزبي، وأي نقد يبخس من وجودها إلى حد نفيها يضرب في الرصيد الذي تراكم في تجربة الحزب في هذا المجال برنامجيا وبرلمانيا وجماعيا وحتى داخليا بعد اعتماد تجربة لجنة السياسات القطاعية وبعدها الموضوعاتية، كما أن الانخراط في العمل الحزبي بمواعيده الانتخابية واستحقاقاته التحالفية والبرلمانية يعني التقدم نحو قضايا تدبير الشأن العام، ومعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، من منظور مختلف يرتكز على ما يصطلح عليه بالمشروع المجتمعي والنموذج التنموي الحضاري، وهي قضايا ترتبط بالهوية، وفي غيابها يفتقد العمل السياسي للروح الدافعة وللقيمة المضافة، ويتحول معها أصحابه إلى مجرد أدوات بيروقراطية وتقنية في سياسات وضع الآخر أساسها الفلسفي والحضاري.أما الزاوية الثانية، فهي أن الحديث عن التضخم الهوياتي ليس سوى تعليقا لشماعة القصور في المكان الخطأ، تصبح معه الهوية هي المشكلة، والحل في العودة إلى التدبير. وهذا ليس سوى هروب من مواجهة مشكلة أخرى ارتبطت بسيادة منظور احتجاجي بمنطق دفاعي حمائي محكوم برد الفعل في الاشتغال بقضايا الهوية الإسلامية. فالبر غم مما لهذا المنظور من أهمية في توسيع القاعدة الناخبة، إلا أنه لم يقدم مقاربة إيجابية في قضايا الهوية، ومبدعة في الاشتغال عليها من زاوية التدبير وليس زاوية الاحتجاج فقط، والذي أدى في نهاية المطاف إلى توليد ردود فعل سلبية عن فئات من النخبة، وأنتج مقاومات انعكست سلبا على تطور الأداء السياسي. ولعل من المفيد التذكير أن انطلاق العمل السياسي للإسلاميين لم يتأسس على تقديم نموذج الحزب الهوياتي الطائفي، بل كان هذا الأمر محسوما منذ البداية، والعودة إلى الممارسة الميدانية والمتمثلة بشكل كبير في المبادرات الرقابية والتشريعية داخل البرلمان أو الأعمال المنجزة في إطار تحالفات تدبير عمل المجالس البلدية المحلية، كلها تفيد بارتكاز متنام من قبل الحزب على موضوع التدبير لكن بأداء ضعيف، يغطي قصوره نماذج النزاهة المقدمة على مستوى الأشخاص، أما السياسات التدبيرية فلم تؤسس لانعطاف جديد في تدبير الشأن العام.لكن ما هي المشكلة؟ الواقع أن القضية ترتبط بحالة الجمود في العلاقة مع عملية صنع القرار السياسي، والتي أدت إلى حصر الفعالية السياسية للأحزاب الإسلامية في مواقع احتجاجية على مستوى الهوية الإسلامية ودفاعية على صعيد قضايا الفساد وفعالية التدبير وانتظارية فيما يتعلق بإشكالية الديمقراطية ، وأنتجت تطورا مشوها للبنيات الحزبية المؤهلة للاشتغال بقضايا تدبير الشأن العام، وجعلت من موضوع التدبير مجالا للخطابة أكثر منه مجالا للفعل.وبالتالي، فعوضا عن تحميل موضوع الهوية المسؤولية عن هذا الجمود، فإن الأولى التوجه نحو معالجة أسباب الجمود من أصوله، والتي ترتبط بشكل مباشر بالخط السياسي في العلاقة مع الحكم، أي تعزيز موقع الحزب في عملية صنع القرار السياسي الوطني والذي ينتج عنه تطوير موضوعي لاشتغال الحزب في قضايا السياسات العامة تقييما واقتراحا وتدبيرا وتطويرا وإبداعا، وفي الوقت نفسه دفع الاشتغال على قضايا الهوية الإسلامية إلى الموازنة بين الاحتجاج والبناء والاجتهاد. [c1]* عن صحيفة التجديد المغربية [/c]