(اللون في شعر عبدالله بن المعتز)247هـ/296هـ
توطئة:يعد (ابن المعتز) الحلقة الأخيرة في سلسلة تجديد الشعر، في العصر العباسي الثاني، فعلى يده تحول الوصف الى صورة فنية لتجعل منه أستاذ (مدرسة الصورة) حيث شغل النقاد بصوره الارستقراطية، التي هي صدى لتكوينه ونشأته، ففتح بذلك للشعراء آفاقاً جمالية، ظلت مثار اهتمام باعث اقتداء لما حوته من إبداع التصوير وروعة التلوين في مجال (شعر الطبيعة) الذي أحتل (ابن المعتز) قمته.. وقد شكل اللون قوام تلك الصور، التي مثلت لوحات فنية خلابة في خمائل الشعر العربي. مثل (ابن المعتز) بشعره ظاهرة لونية فريدة في تراثنا الأدبي.. حيث غلب اللون على معظم صوره، فبلغ بها من الجمال والارستقراطية مالم تبلغه من قبل، فاذا بديوانه لوحة ألوان خلابة المنظر.. أنيقة التفاصيل.. عطرة الروائح.. فكان (ابن المعتز) نسيج وحده، فيما قدمه من صور شعرية (في الطبيعة) فخمة التكوين، بديعة التلوين:[c1]والروض مغسول بليل ممطر جلا لنا وجه الثرى عن منظرمن أبيض وأخضر وأحمر [/c] كالعضب أو كالوشي أو كالجوهر (1)لقد أدرك (ابن المعتز) أهمية اللون في الطبيعة، ومايضفيه عليها من حيوية وجمال تتحقق به المتعة:[c1]يسقي رياض جنان يرنو بأحداق زهرهكأنه رقم وشي بصفرة وبحمرة[/c](الديوان ص 189) بهذا الإدراك.. وبتلك الخبرة الجمالية.. وبتفاعله النوعي مع الطبيعة وظف (ابن المعتز) اللون في نهجه الإبداعي.. وبعملية التلوين تكشف وعي (ابن المعتز) وتجلت خبراته، وطرق تمثله للون وإعادة خلقه فنياً فعملية التلوين ليست نقلاً حرفياً وانما هي (.. تتأثر بخبرات .. الفرد وتداعياته وخيالاته ومشاعره التي يسقطها على لون او مجموعة من الألوان..) (2).شكل التنوع اللوني للطبيعة مصدراً جمالياً ثرياً لابن المعتز حيث راح يكثف من طاقات الألوان في صوره الشعرية.. فكان اللون مركز استقطاب لادراكاته الحسية، وكأنه بذلك لايرى من محتويات عالمه المنظور غير اللون:[c1]وبركة تزهو بنيلوفرألوانه بالحسن منعوثه[/c](الديوان ص 107)فالبيت السابق يظهر مدى شغف (ابن المعتز) باللون.. فاللون وحده من استوقف الشاعر واختص باعجابه (.. ألوانه بالحسنى منعوثه) !!أو في وصفه سحابة:[c1]بكرت تعير الأرض لون شبابها رحبية محمودة التسكاب[/c](الديوان ص 84)فالطبيعة بالنسبة لابن المعتز سر الحيوية والجمال (.. لون شبابها)فالطبيعة انما هي باقة ألوان يأخذ منها صور الجمال ودون الألوان لفقدت الطبيعة معناها:[c1]وانظر الى الدنيا ربيع أقبلت مثل النساء تبرجت لزناةوالورد يضحك من نواظر نرجس فديت وأذن حبها بممات[/c](الديوان ص 101)ولان اللون عنصر حاضر في كل مظاهر الطبيعة.. ولان طاقة اللون المرئية تفرض وجودها على كل الادراكات الحسية الأخرى (الشم/ السمع/ التذوق/ اللمس/ الحركة) نجد صور (ابن المعتز) اللونية البصرية غالباً ماتستقطب صوراً حسية أخرى، فتتشكل من ذلك الاستقطاب علاقة جمالية بين اللون كطاقة مرئية وتلك الحواس.. ومن ذلك مثلاً قوله:[c1]عيون كساها الغيث ثوباً من الهوى فأجفانها بيض وأحداقها حمرإذا شمها المشتاق خال نسيمــــــا سحيقاً من الكافور شيب به الخمر[/c](الديوان ص 200)ففي البيت السابق نرى الى جانب اللون (الصورة البصرية) صوراً أخرى : صورة عطرية (شمها) .. وصورة تذوقية (خمر). .وكذلك في وصفه لثمرة التين: [c1]انعم بتين طاب طعماً واكتسى حسناً وزان مخرجاً من منظرفي برد ثلج في نقا تبر وفي ريح العبير وطيب طعم السكريحكي إذا ماصب في أطباقه خيماً ضربن من الحرير الأحمر[/c](الديوان ص 196)فالشاعر يحشد كما من الجماليات الحسية (المناظر/ الأطعمة/ الروائح/ الملامس) تشترك في تلقيها والتمتع بها مختلف الحواس: (البصر: منظر، أحمر) .. (التذوق: طعم السكر) .. (الشم: ريح العبير) .. و (اللمس: حرير).. كذلك يمكن للون كطاقة مرئية ـ أن يستقطب جمالية حسية (صوتية) لتتكون من ذلك صورة (بصرية سمعية):[c1]قد صفر المكاء والقنبر وفرش الأحمر والأصفر(3)[/c]بهذا التوظيف (للون) وطاقته المرئية، وباعتباره بؤرة استقطاب للإدراكات الحسية، تكون اللغة الشعرية عند (ابن المعتز) حشداً من الأصوات والصور والروائح والملامس.. وبذلك تكون الصورة رؤية جمالية لوحدة الطبيعة: وحدة المثير وإن تعدد.. ووحدة الاستجابة الإنسانية كياناً.. وإثباتاً لسمو الفن.. وفاعليته.لقد وجد (ابن المعتز) طاقات غنية في اللون لايمكن اغفالها فهو نقطة التقاء لكل أشكال الطبيعة، وبه تظهر الطبيعة تمايزها كما تظهر تناغمها، إنه ترجمان أحوالها، الذي يبرز مثيراتها ويفسرها تفسيراً جمالياً. لذا اتخذ (ابن المعتز) من اللون أداة تعبيرية فاذا ماأراد الافصاح عن مشاعره، أو تجسيد أفكاره كان اللون أداته البليغة:[c1]ياخالي القلب عن جوى كبدي وطول وجدي يغري بي السقمااغراك مني الهوى فكيف ترى والجمر يعدي بلونه الفحما[/c](الديوان ص 233)لون (الجمر) جسد مايعانيه من شدة اللوعة وسطوة الأشواق .. كذلك تكون الألوان علامة على التأمل والخبرة والحكمة:[c1]لاتأمنوا من بعد حلم شرا كم غصن أخضر صار جمر[/c](الديوان ص 173)بل ان (ابن المعتز) وجد في الألوان دلالات لمعاني وصور الشجاعة والفروسية والبطولة، لذلك استعان باللون لابراز تلك المعاني:[c1]وليل ككحل العين خضت ظلامه بأزرق لماع وأبيض صارم[/c](الديوان ص 343)فالشاعر تناول ثلاثة أ لوان : الأسود (كحل العين) والازرق (بأزرق لماع) لناقته التي اغتسلت بالعرق لشدة سرعتها.. والأبيض لسيفه.. فكانت الصورة في البيت السابق لونية البناء ولونية التأثير.ودون شك أن شغف (ابن المعتز) باللون دفعه الى إحتراف عملية التلوين من خلال التعامل مع اللون بوعي وخبرة تتسم بالدقة والتفصيل في تناول اللون من جوانب عدة، أهمها:(1) التعريف بهوية اللون: (أخضر/ أحمر/ أبيض.. الخ) كقوله في وصف سحابة:[c1]جاءت تهادي كالغراب الهائم ملظوظة مسودة القوادم[/c](الديوان ص 343)فالصورة الشعرية تقوم على أساس تعريف هوية اللون (كالغراب/ مسودة)أو قوله في وصف الورد:[c1]كأن أبيضه من فوق أحمره كواكب أشرقت في حمرة الشفق[/c](الديوان ص 292)فالشاعر عرف اللون من خلال التشبيه (الورد الأبيض/ باشراقة الكواكب) .. و(الوردة الأحمر / بحمرة الشفق)(2) نسبة اللون: أي درجة اللون من حيث نسبة مايحتويه من ضوء.. وهذا الجانب من اللون غالباً مانراه في صورة الليلية التي برع فيها، كقوله:[c1]لما تولى النجم في انحطاط وهم رأس الليل باشمطاط[/c](الديوان ص 249)فاللون الأسود (رأس الليل) قد خالطه ضوء الصباح، وبذلك لم يعد اللون الأسود في تمامه وإنما تخلله شيء من الضوء.وفي صوره ليلة أخرى:[c1]ويوم فاختي اللون مرخ عز اليه بطل وانهمال[/c]فقوله : (فاختي اللون) أي أن لونه كلون (الفخت) وهو ضوء القمر عند ظهوره.. فاللون الأسود (الليل) قد حوى نسبة من الضوء.وقوله في وصف الحسابة:[c1]كأن الرباب الجون والفجر ساطع دخان حريق لايضيء له جمر[/c](الصولي 163)(3) دلالة اللون: مايعبر عنه اللون من دلالات حسية أو شعورية.غالباً ماكان توظيف (ابن المعتز) للون بغرض ابراز الجوانب الحسية. كأن يشبه الورد بوجنة المحبوب:[c1]أتاك الورد محبوباً مضوناً كمعشوق تكنفه الصدودكأن بوجهه لما توافت نجوم في مطالعها سعودبياض في جوانبه أحمرار كما احمرت من الخجل الخدود[/c](الديوان ص 161)وأيضاً وفي نطاق ضيق يجعل من اللون تجسيداً للمعاني والصور الشعورية والنفسية مثلما أشرنا سابقاً أو كقوله: [c1]ومنعم كالغصن ذي الميل مازحته فاحمر من خجل[/c](الصولي ص 239)المصادر والمراجع :[/c]1ـ ديوان عبدالله بن المعتز : تحقيق وضبط وتقديم (د. عمر فاروق الطباع) ـ دار الأرقم ـ بيروت ـ ص (193).2ـ شاكر عبدالحميد : التفضيل الجمالي (دراسة في سيكولوجية التذوق الفني) ـ عالم المعرفة ـ الكويت ـ العدد (267) ـ مارس 2001م ـ ص (277) .3ـ أبوبكر الصولي : كتاب الاوراق (قسم أشعار أولاد الخلفاء) ـ تحقيق (ج . هيورث . دن) تقديم (د. منير سلطان) الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة ـ اغسطس 2004م ص (193).