خلال حضوري لجلسة ثقافية ضخمة، كان أهم ما سمعته عبارة عن سباب للفترة الراهنة باعتبارها الزمن الرديء، الزمن الأمريكي، زمن العولمة والانحطاط، زمن التآمر والزيف، واختفاء قيم الشرف والنضال.. إلخ. لاحظت مبالغة مفرطة في استخدام (الغائية) للمصطلح، بمعنى أن له غاية محددة مسبقاً، وغالباً دلالة تآمرية مسبقة.. كالعولمة التي هي في رأيهم تضليل تآمري لنهب خيرات الشعوب وعدوان ثقافي مقصود.. حتى كأنها في كثير من الأوساط العربية عبارة عن شر مطلق! فلا تشارك في أي نقاش خاص أو عام إلا ويكاد يجمع الحضور على شتم العولمة بالإطلاق.. هنا، يتحول المصطلح في كثير من الحالات إلى رمز للخير أو الشر ومفرغاً من محتواه الدلالي الخاص به.. من المهم استخدام معايير نقدية محايدة عبر إتباع طريقة منهجية موضوعية للتعرّف على المصطلح أيَّاً كان.. ثم الحكم عليه. فمن الخلل تبني مفهوم مسبق لمصطلح معيّن عبر لغة مشحونة بالعاطفة أو النقل من خصوم التيار الذي ينتمي له المصطلح.. بطبيعة الحال أن الحيادية والموضوعية تجاه المصطلحات هي مسألة نسبية، فنحن محملون مسبقاً بأفكار ومعارف وقناعات وطرق تفكير ومصالح تؤثِّر في حياديتنا.. ومن هذه المصطلحات ما يتم تداوله هذه الأيام بكثرة مثل: الصحوة، السلفية، الأصولية، الإسلام السياسي، اللبرالية، العلمانية، المجتمع المدني..إلخ. ومن أكثر المصطلحات تعرضاً للهجوم في ثقافتنا العربية هو مصطلح العولمة. وفي تقديري أن أفضل أسلوب للتعامل مع أي مصطلح هو بإتباع الخطوات المنهجية، مثلاً نبدأ بتعريفه لغوياً واصطلاحياً؛ بعد ذلك دراسة نشأته والظروف المحيطة به، والاطلاع على آراء مؤسسيه، ثم التطور الدلالي له مع الأخذ بالاعتبار آراء المؤيِّدين والمعارضين والمحايدين.. بالنسبة للعولمة، هناك العديد من التعريفات، سأختار أبسطها.. يقصد بالعولمة التبادل أو المشاركة الدولية لقوة العمل والإنتاج ومنتجات الأفكار والمعرفة والخدمات عبر الحدود الدولية. والعولمة كلمة حديثة نسبياً تصف التطور للعمليات المتعدّدة الأبعاد للتغيّرات العالمية، حيث العالم أصبح سوقاً عالمية واحدة. وهي توضح فكرة أن الزمان والمكان قد تقلّصا نتيجة تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات التي سمحت نسبياً بالاتصال الفوري بين البشر في كل مكان في العالم تقريباً. وبالانتقال إلى النشأة التاريخية وتطور المفهوم إلى حالته الراهنة، يمكن القول إن العالمية برزت كمفهوم محدود الأبعاد المكانية منذ الاكتشافات الجغرافية العظمى (القرن 15 و16)، حين أصبحت فكرة تناهي العالم أو محدوديته ككرة أرضية واحدة حقيقة منجزة، مقابل ما كان يُظن بعدم تناهي العالم كأرض مسطحة لا محدودة وحضارات متباعدة ومنعزلة. فلم تعد ثمة ثقافات أو جزر معزولة وتقاربت (مواجهة أو مصالحة) الحضارات ببعضها مع اختلافاتها العرقية والثقافية واللغوية. ومع الثورة الصناعية في أوربا خاصة فيما يتصل بتسهيل المواصلات والاتصالات بين الشعوب، وما حدث أثناءها من استعمار غربي واستغلال لخيرات أغلب الشعوب الأخرى وما نتج منها من تأثر هذه الشعوب بالنمط الحضاري الغربي سلباً وإيجاباً. ثم ما تلا ذلك من حربين عالميتين أفنتا عشرات الملايين من البشر، وأيقظتا مشاعر إنسانية عالمية وأممية اشتراكية ولبرالية ومحافظة تمثَّل ذروته في إنشاء هيئة الأمم المتحدة.. ثم ما تخلّلهما من هجرات ضخمة جداً لم تحدث من قبل.. أضف لذلك حركة مئات الملايين من السيَّاح سنوياً حول العالم.. كل ذلك يمكن اعتباره مقدمات طبيعية لدمج ثقافات الشعوب وتفاعلها تحت مفهوم العولمة أي نزوع العالم للتوحد. إلا أن أهم دلالات العولمة هو البعد الاقتصادي، ويمكن تلمُّس ذلك خلال العقدين المنصرمين عبر الشركات المتعددة الجنسية، التي زاد نفوذها واحتكارها لحركة الاقتصاد العالمي، وترسخ أنماط العولمة مما قلَّص دور الدولة القومية ودور النقابات والمؤسسات المحلية.. كذلك أصبحت المؤسسات الدولية الاقتصادية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي تؤثر كثيراً في الاقتصاديات المحلية وفي القرارات السياسية داخل الدول.. أثناء ذلك ظهرت حركات مناهضة العولمة أو حركات أنسنة العولمة.. وهي تمثّل الموقف السياسي لمجموعات اجتماعية تتنامى ضد اتفاقيات التجارة العالمية وعواقبها الوخيمة على الاقتصاد المحلي والبيئة والسلام الدولي. وأغلب المشاركين في تلك الحركات يرفضون مسمى (مناهضو العولمة) ويستبدلونها بمسمى حركة العدالة العولمية أو حركات العولمة البديلة، باعتبار أن العولمة أصبحت أمراً واقعاً وحتمية تاريخية. وأهم الحجج ضد العولمة هي أنها تفتقد للعدالة في توزيع الثروة ومداولتها.. وترفع الحركات المناهضة قضايا مشروعة في الغرب (خاصة النقابات العمالية)، تجد في توسع الشركات المتعددة الجنسية إجحافاً بحقوقها، لأنها تخفض رواتبها عبر نقل المصانع إلى دول العالم الثالث، بينما يجدها عمال الدول الفقيرة فرصاً لرفع الدخل وتوفير الوظائف.. هذا لا يعني عدم وجود مناهضة للعولمة في الغرب لأسباب إنسانية عالمية، مثل الانفتاح على أزمات الدول الفقيرة، ومعارضة ظلم أنظمة التجارة العالمية.. ومن ذلك ما أشرت إليه من حركات العولمة البديلة ذات البعد الإنساني المنفتح على العالم. وهناك من يعارض العولمة من فوق، التي تتزعمها الشركات متعددة الجنسية، طارحاً فكرة عولمة من تحت عن طريق التضامن الشعبي، ويشابههم من يطالب بإنشاء بنوك معرفية للجماهير ..إلخ. وثمة حجة أخرى قوية ضد العولمة مفادها أنها مجرد أمركة أو ارتهان كامل للنمط الغربي، وتيسير النماذج الغربية والأمريكية الاستهلاكية والسلبية أكثر من غيرها. بينما المدافعون عن العولمة يرون أن ثمة إسهامات للأمم الأخرى في العولمة، خاصة اليابان والصين والهند. كذلك لا ينكر أحد خيرات العولمة فيما تقوم به عبر الإنترنت بتوفير آخر ما توصل إليه العلم للباحثين في شتى البلدان، فيتمكن الباحث في بلد نام أو متخلف من التواصل والإبداع لبلده، حيث تكافأت - نسبياً - مصادر المعلومات والمعارف بين الدول المتقدّمة وغيرها.. وذلك ينطبق على توفر أخبار الأحداث العالمية اليومية عبر الفضائيات.. وكذلك على تناقل المعلومات بين الأفراد المتعارفين مهما تباعدوا في أصقاع العالم عبر الهواتف المحمولة..إلخ. الخلاصة، هناك ثلاثة مظاهر أساسية للعولمة: اقتصادية، عبر الشركات المتعدّدة الجنسية والمؤسسات التجارة الدولية.. وحضارية، عبر أمركة كثير من الأنماط الثقافية مع تداخل نسبي للثقافات الأخرى.. وتكنولوجية عبر ثورة الاتصالات والمعلومات وتوفرها النسبي للجميع. لا يوجد ما يبرر العداء المطلق للعولمة، كما لا يوجد ما يبرر عشقها، ثمة جوانب سلبية وأخرى إيجابية في كل مظهر من تلك المظاهر الثلاث.. فبقدر نزوع العولمة إلى التوحد العالمي الذي أفرز حالات مؤسفة بصهر كثير من الثقافات الرائعة وربما فناؤها، بقدر ما أتاحت بيئة رحبة للتنوع الثقافي عبر التعرُّف على حضارات الشعوب واحترام خصوصياتها.. وبقدر ما أجحفت اقتصادياً فثمة فرص وظيفية تتنامى في العالم الثالث بسببها.. فلنميز بين الجوانب السلبية للعولمة وجوانبها الإيجابية كي نتمكّن من نقدها موضوعياً للمشاركة في الحصول على عولمة أكثر إنسانية. [c1]* نقلا عن/ صحيفة (الجزيرة) السعودية [/c]
اختلاط مفاهيم المصطلحات.. العولمة نموذجاً!
أخبار متعلقة