مدن عربية وعالمية
تقع مدينة صبراته التاريخية على بعد 67 كم غرب العاصمة اللّيبية طرابلس، على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وسط وشاحٍ أخضر، تلتقي عنده نهايات سهل جفارة الفاصل بين حواف الجبل الغربي ومياه المتوسّط. ليس ثمّة اتّفاقٍ بين المؤرّخين على تحديدٍ دقيقٍ لتاريخ تأسيس مدينة صبراته، وإن كان البعضُ يرجّح أن تكون اُسِّسَت في القرن السّادس قبل الميلاد، ويؤيّد هذا الكلام الحفريات التّي أُجريَت حديثًا بمدينة صبراته، في المنطقة ما بين الفورم والبحر، حيث وُجِدَت بها آثار فينيقيّةٌ تتمثّل في مصاطب رمليةٍ، كان الفينيقيّون يقيمون فوقها أكواخًا مؤقّتةً لفترةٍ قصيرةٍ من السّنة. وأثناء الحفريّات، وُجِدَت فوق المصاطب طبقاتٌ سميكةٌ من الرّمال.وعلى جانب المدينة الفينيقيّة، بُنِيَت المدينة الرّومانية بمسرحها الفخم وبيوتها العالية وأعمدتها وأقواسها. وشكّلت هذه المدينة أحد أهمّ المراكز التّجارية على السّاحل الإفريقي لحوض البحر الأبيض المتوسّط، وإحدى المُدن الثّلاث التّي سُمّيَ بها إقليم طرابلس، وهي: لبدة الكبرى وأويا (طرابلس الحاليّة) وصبراته. ومن هذه الحواضر الفينيقيّة الشّقيقات الثلاث، سُمّيَ الإقليم كلّه: طرابلس.أمّا بالنّسبة للتّسمية، فقد وُجِدَ إسم المدينة بصيغة "صبرات" على العملة البونيقيّة الحديثة، وأحيانًا "صبراتن". وتَعني هذه العبارة "سوق الحبوب"، لذا يُرجّح بعض المؤرّخين أنّ المدينة كانت تلعب دورًا كبيرًا في المُبادلات التّجارية بين شرق وشمال المتوسّط من جهةٍ وتُجّار محاصيل المنطقة الطّرابلسية وحتّى الجبل الغربي (جبل نفوسة) وغدامس من جهةٍ أخرى. وإذا رجعنا مع التّاريخ، نجد أنّ بداية تأسيس المدينة مُرتبط بموجة الإكتساح الحضاري الفينيقيّ لسواحل حوض البحر المتوسط.ولم تبلغ مدينة صبراته لم تبلغ أوج ازدهارها إلاّ بعدما بسطت عليها قرطاجة سيطرتها، إثر تدخّلها لطرد اليونانيين الذّين حاولوا، بقيادة دوريوس، بناء مستوطنةٍ باقليم غرب ليبيا عند مصبّ وادي كنبس (وادي كعام) ، وظلّت المدينة قرطاجية مع نوعٍ من الحُكم الذّاتي حتى تمكّن الرّومان من تدمير قرطاج وإحراقها نهائيًا في نهاية الحروب البونيقية عام 146 ق.م، لينتهي بذلك حلم فينيقيّ بدأته مُؤَسِّسة قرطاجة أليسار، حين بَسَط الرّومان سيطرتهم على المدينة، بالغوا في بناء مبانٍ ضخمةٍ، مازال بعضها قائمًا حتّى الآن بصبراته، كالمسرح ومعبد الفورم والأقواس الفخمة التي تُذكّر بقوس ماركس أورليوس بطرابلس. وعرفت المدينة ازدهارًا شديدًا على المستويين الفكري والتّجاري.وبعد عدّة قرونٍ من صراعات دول شمال إفريقيا الإسلامية، أصاب المدينة تهميشًا، بعدما نهضت مدنٌ أخرى في الدّواخل، كانت أكثر أمنًا وأبعد عن طارقي البحر وغزاته ومُغامريه، فتآكل الكثير من أحياء المدينة وحلّ بالبعض الآخر الخراب، وذلك لطبيعة المواد التي استُعملَت في البناء ومعظمها من الحجر الجيري المُغطّى بطبقةٍ من الجبس (السّتوكو). وقد وصف الرحالة الأوربيون اثار صبراتة في القرن التّاسع عشر، مثل "بارت" الذي تحدّث عن المسرح والأعمدة والأقواس ، وقد رأى أيضًا رصيف الميناء وتمثالين من الرّخام، كما وصفها الرّحالة "فون مالتزان" ووصف المسرح الدائري والتّماثيل والميناء وبعض الأبنية البيزنطيّة المتأخّرة ، ومع الإحتلال الإيطالي لليبيا عام 1911م، قرّرت الحكومة الإيطالية تكليف بعثةٍ من كبار المؤرّخين وعلماء الآثار بالبحث عن الآثار الرّومانية بصبراته وغيرها من المُدن اللّيبية.وبدأت الحفائر المُكثّفة بصبراته من سنة 1923 إلى 1936، وأدّت إلى اكتشاف وترميم معظم مباني وشوارع ومسرح ومدافن المدينة القائمة حتّى الآن. وإلى جانب مدينة صبراته الأثرية، تقف الآن ثانيةً المدينة الحديثة بشوارعها وعماراتها ونخيلها وزيتونها؛ فأرضها شديدة الخضرة تمتدّ حتّى دحمان وحرمان شرقًا وجبار والعجيلات وسوق العلالقة جنوبًا.وقد صنفتها منظمة اليونيسكو مدينة تراثية عالمية عام 1982م.