لست متفائلا بمستقبل العالم العربي، بيد أني لا أحب لغة إطفاء الشموع، وأنا مؤمن بأبيات الشاعر الذي قال: نحن عشاق النهار، سنظل نحفر في الجدار، إما فتحنا ثغرة للنور، أو متنا على وجه الجدار. ولكن هذا لا يعني أن ألقي معطف الواقعية، لأسبح في بحيرة من “اليتوبيا” بمجاديف طوباوية.العالم العربي الإسلامي ينتقل من تخلف إلى واقع أكثر تخلفا.أنا مؤمن بمقولة الكاتب الأميركي فرنسيس فوكويوما حينما قال: (العالم العربي يعيش في مرحلة ما قبل التاريخ). دعونا نعترف بهذه المقولة، ولماذا لا نعترف بهذه الحقيقة؟ فنحن نعيش في مرحلة ماقبل التاريخ. هل لكم أن تتصوروا، ونحن في القرن الحادي والعشرين، أن هناك من يحاكم الناس في المساجد ويطالب بإهدار دمائهم في الشوارع كما أن هناك من يحرم الموسيقى بما فيها الكلاسيكية! إنهم مازالوا يجلدون ظهر المرأة بفتاوى السجن في المنازل بحجة الاحتشام، ويمنعون الإنسان من مزاولة حياته الطبيعية، فهو يحتاج إلى قرار حتى في أدق التفاصيل في حياته، حيث دخوله إلى الحمام يحتاج إلى قرار!!لا أخفي أن لغياب الديمقراطية دورا، ولكني مؤمن أن أكبر الكوارث هي في الثقافة الهوسية للحركات الإسلاموية التي خطفت العالم الإسلامي إلى كراهية الحياة، وإلى إقحامه في زنزانات الأفكار الضيقة، وتخويفه من الحياة، حيث حولوا الدين إلى جلاد منتقم متوحش، ينتظر من العبد الخطأ لينتقم منه.منذ كنت شابا، كنت ملازما لصلاة الجمعة. أذهب مرتاح البال، ولكن بعد خروجي من الصلاة أسائل نفسي: لماذا أخرج متوتر الأعصاب، مسودة الدنيا في عيني، كارها للحياة (الوضيعة) و(الخاسرة) و(الفانية) بدعوى أن الدنيا سجن المؤمن وجنة المنافق!! أخرج من الصلاة، وأنا أحمل شحنات غير طبيعية من الكراهية لكل شيء جميل. فنحن -المسلمين-كما نسمع من الخطيب، ضحايا، ومتآمر علينا، ونحن أفضل أمة على الأرض، ثم يحدثنا عن أهوال يوم القيامة، وضغطة القبر، وعن أهمية التدخل في شؤون الآخرين تحت شعار الأمر بالمعروف حسب فهمه هو، والذي أسميه ثقافة التلصص على الناس من ثقب الباب، في هوس تبشيري حاد، خارج عن التسامح الذي يطرحه الإسلام، أو من سياق (أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ثم يذكر عن الأوجاع والآلام من الغرب الكافر، والصليبيين الكفار، طبعا كل ذلك يستقوي عليه بالصراخ، وكلما بالغ بالصراخ غطى، سيكولوجيا، العجز الداخلي، ونحن نزداد توترا وتأسفا.. مرة نريد أن نبكي ومرة نريد أن نمزق هذا العالم الوحشي بأنيابنا. ويبقى الخطيب يبالغ في ملائكيتنا، وفي شيطانية كل من هو غير مسلم، حتى يكاد يقنعنا أن طلاق الحاج محمد من زوجته الحاجة جملات هو بسبب الغرب والإمبريالية، وأن هناك أيد خبيثة وراء هذا الطلاق. عند ذهابكم لصلاة الجمعة انتهبوا وتذكروا واسألوا لماذا الخطيب يصرخ وكثير السوداوية للحياة حتى يخرج المصلون من الصلاة قنابل موقوتة، تنتظر الانفجار.يقول جون بويز: (العنف هو صوت اختناق العقل في الحنجرة). الحقيقة انه ليس هناك عقل في العالم العربي. هناك عقلية عربية، وليس عقلا، وأجد نفسي أختلف مع المفكر المغربي القدير، محمد عابد الجابري في مشروعه التنويري عن العقل العربي.منذ محنة المعتزلة، وشيوع ثقافة تكفير الفلسفة تحت قاعدة: من تمنطق فقد تزندق (السيوطي) ونحن من تخلف إلى آخر، على رغم أن الفلسفة تقود إلى الوعي. فالفلسفة توصف بأنها (التفكير في التفكير). كان من المفروض على كل حكومة عربية إلزام الدعاة بدراسة علوم الحداثة من سوسيولوجيا الأديان، وتاريخ الأديان المقارن، والألسنية وسيكولوجيا الأعماق حتى يتصالحوا مع الذات والواقع. ولوكنت مسؤولا عربيا لفرضت على الدعاة دراسة الموسيقى في معاهد الموسيقى فرضا إلزاميا مدنيا. فالداعية الذي لا يحمل ثقافة الموسيقى لا يمكن أن يعطي دروسا للناس في ثقافة الحياة.لذلك ما أجمل خطيب الجمعة عندما يحدث المصلين عن الحب والسلام والحوار والتعايش وأهمية الحياة ودور الموسيقى في الحياة بدلا من أن يقدم لهؤلاء الجماهير أقداح القهوة السوداء القاتلة. من منا سأل نفسه لماذا يخرج المصلي من صلاة الجمعة متوتر الأعصاب؟إن مثل هذا الخطاب يزيد من تكريس الوعي المعكوس، ويجعل شبابنا أكثر كراهية للحياة، وحتى للوطن الذي ينتمون إليه. إذ أوهمك أن المسلم الأفريقي أقرب إليك من أخيك الكويتي أو البحريني أو العربي إلخ.. ليس هذا تعصبا، لكن الالتقاء في المواطنة لا يقل أهمية عن أي معايير أخرى، فيجب إعادة تقييم مفهوم المواطنة في خطابات الإسلام السياسي، لأنه تآكل وأصبح يعاني أنيميا حادة وفقر دم لامثيل له. هناك شيزوفرينيا مواطنة بحاجة إلى إعادة تقييم ومراجعة، فهل من المعقول أن يكون المسلم الإفريقي أقرب إلى قلبي من البحريني المسيحي؟لذلك كله أشعر أن حجم نفايات الأفكار المتكدسة تملأ كل شوارعنا العربية، وبحاجة إلى مشروعات استراتيجية لإزالتها، وهذا يحتاج إلى أكثر من خمس مئة عام. انظروا ماذا يعلم الغربيون أبناءهم وماذا نعلمهم نحن؟ديكارت يصف العقل بأنه (أعدل الأشياء قسمة بين الناس) ويقول الفيلسوف الألماني نيتشه في الموسيقى (لولا الموسيقى لكانت الحياة ضربا من الخطأ). تصوروا عالما بلا موسيقى؟ كيف سيكون مثل هذا العالم؟كيف ستكون مشاعر الناس وأحاسيسهم؟انظروا ماذا كتب علماؤنا الماضون في الموسيقى كالفارابي وغيره؟ لماذا إذن نحن ضائعون؟دعيت قبل أسبوعين لحفل إسلامي، وكان من ضمن الحفل فرقة إنشادية، أصوات عناصرها جميلة، لكنهم كانوا يستعيضون عن الموسيقى بألحان مقعرة بلا طعم، فقلت: مساكين هؤلاء الشباب، أوهموهم أن الموسيقى حتى المتزنة، وفي الاحتفالات الدينية تعد محرمة وبوقا من أبواق الشيطان!!على رغم كل هذه النفايات لابد من أن نتمسك بالأمل. فالواقع لابد أن يتغير. فجاك دريدا أشار إلى التفكيك، وعن دور قهر التاريخ، ومكره، وضغطته لإزالة نفايات التخلف، وكل الجليد المتراكم على العقول. ففي الستينيات كانت المرأة العربية تضرب إن طلبت الالتحاق بالدراسة بعصا شيخ الدين، وإذ هي اليوم تصبح وزيرة.الانكشاريون إذا ما أرادوا إسقاط المرأة فإنها لن تسقط. فلايمكن أن تكون الحياة بلا براءة الأطفال وطموح الملائكة.علينا أن نواصل المسير للتصالح بين الأديان، والشعوب، وتعميق نهر التسامح من دون الخشية من أحد، وأن نمتهن خطاب الصدمة طريقا لتفتيت كل مادة الكلسترول المتكدسة على مفاصل الوعي العربي والإسلامي، حتى لا نقع في الانفصام كما طرح الكاتب الإيراني، عندما قال: (تسكن في كل صحافي وكاتب شخصيتان، إحداهما تكتب، والأخرى تمحو، وتحول الجمل إلى مجازات وتعابير مزدوجة المعنى). وليكن خيارنا، سنظل نحفر في الجدار، إما فتحنا ثغرة للنور، أو متنا على وجه الجدار. لقد طبقها ابن رشد في قرطبة أمام شيوخ الإقصاء، وقالها جاليليو في وجه القساوسة، ولنقلها نحن في القرن الحادي والعشرين، عل أبناءنا مستقبلا ينعمون بشيء من جمال هذا العالم. لهذا نقول لخطباء الجمعة: رفقا بأبنائنا، شيئا من الحديث الإيجابي كي يحبوا الحياة، وكي يخرجوا من الصلاة بلا توتر وطوبى للخطباء التنويريين.. وهم قلة.[c1]عن / صحيفة (الراية) القطرية[/c]
لماذا يخرج المصلي من صلاة الجمعة متوتر الأعصاب ؟
أخبار متعلقة