عدن في شعر د.محمد عبده غانم
معظم قصائد ديوان" في موكب الحياة" كتبت في الفترة بين نكسة حزيران عام 1967م وبين العبور في حرب رمضان 1973م ولذلك تغلب على الديوان نبرة الأسى والحزن علماً بان الشاعر د. محمد عبده غانم كان في الأساس من الشعراء الذين يحبون الحياة والجمال ويتمتعون في أشعارهم بوصف الجوانب المبهجة من الحياة فقد كان قوي الإيمان ولأنه فقد والدته وهو في الرابعة فقد نشأ قوياً يعتمد على نفسه ثم انه نجح نجاحاً كبيراً في دراساته حيث دخل الجامعة قبل كل بني وطنه وتخرج الأول على دفعته بامتياز ونجح في حياته العملية إذ كان يحتل أعلى منصب إداري في التربية والتعليم بل في كل الجهاز الإداري بين المواطنين في مستعمرة عدن كما حصل على ست جوائز شعرية وهو مقتبل الشباب وكل هذه النجاحات تؤدي في العادة إلى شخصية قوية بعيدة عن التذمر والتشاؤم خصوصاً لدى إنسان عميق الإيمان ملتزم بالصلاة بانتظام.في أوائل عام 1973م جاء والدي من بريطانيا-حيث أجريت له عملية في المثانة لورم حميد (تحول عام 1994 إلى ورم خبيث قضى عليه)- والتقينا في بيروت- إذ كنت اعمل في لبنان كبيراً للمهندس في إحدى الشركات السويسرية اللبنانية بعد أن غادرت عدن. وكان يحمل مسودة لديوان جديد كنت اعرف كثيراً من قصائده قبل ذلك واخبرني انه يصدد نشرة في بيروت لدى دار الآفاق الجديدة ويفكر في تسميته في موكب الشمس أخبرته أن العنوان لم يعجبني واستعرضنا بعض العناوين ثم قرر هو تسميته في "موكب الحياة" قلت له أن بعض قصائده الجميلة ليست في الديوان ولم تكن قد نشرت في دواوينه السابقة وذكرته ببعضها ولكن ذاكرتنا لم تسعفنا سوى في تذكر قصيدة واحدة كاملة وهي "الشيب الفتى" فأضافها إلى المخطوطة وبالفعل نشر الديوان الرابع عام 1973 في بيروت.افتتح الديوان بقصده تعود إلى عام 1954 بينما كل القصائد الأخرى تعود إلى الستينيات وأوائل السبعينيات وكانت تلك قصيدة مهداة إلى زميلة شقيق زوجته الشاعر علي لقمان الذي كان قد أهداه قصيدة في ديوانه الثاني وقصيدة في ديوانه الثالث. القصيدة بعنوان" الغريب والليل" وهي بمناسبة صدور ديوان" ليالي غريب" لعلى لقمان وينهيها بنقد للوطن:ياغريب من الديار أهل طلقت بعد الإياب هم الغريب أم وجدت الأوطان فيها من الغربة للأقربين أوفي نصيب أي دار تلك التي تشتري الذمة فيها بالدرهم المجلوب في الشعارات يختفي خلفها الزائف من واقع مشين مريب إلى أن يقول: وقديماً قد قيل أن أولي الفضل غريبون في ديار القريب ونجد في الديوان عدداً من القصائد الغزلية والعاطفية معظمها تتحدث عن الشباب الذي أولي مثل على الشط وعهد الشباب وهيفاء والهزار وسمر الربيع في هايدبارك والليل في بيكاديللي.ومن أفضلهما الشيب الفتي:[c1]لعبت بنودي يامشيب وشاربيإذا قلت للحسناء جودي بقبلةتقول أما في الشيب للمرء زاجر وماعلمت إني فتى شاب راسة فان تكن الأيام أزرت بلمتيولولا أزدرا رائي مذهب الغش في الهوىولكن أبت لي همة ليس همهافال تحفلي بالشيب فالقلب عنده[/c]وكان والدي قد غزا الشيب راسة في سن مبكرة وكانت والدتي تناشده أن يصبغ شعره ولكنه يعتذر عن ذلك وتمنع.وفي الديوان قصيدتان حسيتا الوصف لجمال الأنثى الأولى " في الواحة" والثانية لوحة" ومنها:[c1]يتطلعان إلى السماء لايعرفان الارتخــاءإخوان لأبل توأمانفي الوهج في نسج الاهابفي الارتفاع في الانحدارفي هامة الكرز البهيجيتوثبان إلى الأمام[/c]ولا أظنني كنت قد قرأت لوالدي شعرا كئيبا ومتشائما -على روعته- مثل هذا قبل ذلك صحيح انه يتحدث عن المشيب وصحيح انه كان يعاني من مرض وكان يعد للسفر للعلاج ولكن في نظري ان الحزن الحقيقي كان التدهور المستمر للوطن تحت الحكم الشمولي الخانق ولو تجلى للشاعر المحجوب لما فرح بأن يعيش إلى ذلك العمر.وكان المناضل محمد علي لقمان قد قال قبيل وفاته المفاجئة بأسابيع أرجو إلا أعيش حتى أرى عدن تدخل مرحلة سوداء أراها مقبلة وكانت الصراعات قد بدأت ورجل لقمان في مارس1966 قبل المرحلة السوداء ثم يقول غانم:[c1]قالت هلم إلى الصهباء قلت لهالم يبق في ليلنا كاس ترف بهالم تبق إلا البواطي وهي خاويةلم تبق إلا سويعات نعد لها[/c]والبيت الأخير يذكرنا بخيل المتبني الذي ضاع في الترب خاتمةوالبيان الاخيران اختارهما الشاعرد. غازي القصيبي في مختاراته المسماة" في خيمة شاعر" الجزء الثاني ومن غرائب الصدف ان تقع فيه مختارات والدي بين مختارات شاعرية كبيرين هما المتنبي واحمد شوقي وتجري القصيدة في تأملاتها الفلسفية وهو يشبه الحياة بكاس .[c1]فهل درى المحتسى وبكأس مترعةماذا تريدين ياستون عاصفةلن تسمعي غير آهات مروعةوالليل قد ناح بالأوزار فادحةلم يبق من كل ماكنا نؤمله[/c]حقاً لقد أحال الحكم الشمولي الوطن إلى أطلال بالمعنى المعنوي ان لم يكن بالمعنى المادي.[c1]كنا نغالب في الخمسين حيرتنا واليوم لم يبق في الستين محتارفأنما هي أوهـام فهيم بهـا وإنما هي أشجان وأشعار [/c] ولا يخفى على القارئ العارف بالشعر إننا أمام قصيدة من النسق الرفيع اذكر إنني اطلعت والدي على مخطوطة تحوي أشعاري عام 1970م فقال لي –بعد ان لاحظ كثرة مافيها من قصائد شكوى واكتئاب- وماذا تنوي أن تسمي هذا الديوان" فقلت هذا أمر لم أفكر فيه بعد فقال لي اقترح أن تسمية " كيف تشيخ في الثلاثينوصحيح ان قصيدته كانتفي الستين ولكن ما كان فيها من أسى كان جارفاً بشكل لايقل عن كل ما كان في مخطوطتي.كان غانم قد قسم ديوانه الأول إلى ثلاثة أقسام سماها الحافقات والمحلقات والسابقات " وعاد في ديوانه الرابع إلى تقسيم ديوانه إلى ثلاثة أقسام ايضاً سماها ألحان الأصيل وأهازيج بركان "ودمعة وفاء" وجعل في القسم الأول الوجدانيات وفي القسم الثاني الوطنيات وقصائد الهم العام والقسم الأخير للمراثي. ونحن مازلنا في عرضنا لم نبرح القسم الأول الذي حوى بعض أفضل وأشهر قصائده..[c1]وهناك قصيدة بعنوان في الخمسين مطلعها :نـصـف قــرن من الزمــان تـولــى بأريج الصبا وخــلف كـهـلاوحبيبــاً عليـة قـد رسم الدهـر سطوراًمـن قصة العمر تتـلى قد رواها البياض في اللمة الشمطاء وللسامعـين فصـلاً ففـصـلا[/c] ولكن في 15 يناير 1972 دعوته إلى منزلي في خورمكسر للاحتفال بعيد ميلاده الستين وبعد قطع الكعكة اخرج من جيبه قصيدة في الستين وكان التهاب المثانة قد بدأ لديه يومها وكانت مآسي الحكم الشمولي كانت تزداد يوماً بعد يوم منذ أواخر 1967 وقرأت القصيدة وشعرت بالدموع والاختناق ويمكنني أن أقول إننا إمام إحدى قصائد غانم التأملية الهامة وقد طبعها الأستاذ عبدالله فاضل فارع ووزعها على بعض الشعراء الآخرين في نفس تلك الأيام وتحدث في مجلسهم الأسبوعي باكبار شديد ورد عليها بكتابة قصيدة لوالدي بعنوان" صقر قريش يهزم الستين" وقصيدة في الستين قطعة فنية من المهم أن تقرأ كاملة ولكن سأسرد بعض أبياتها وكانت مجلة العربي قد نشرت القصيدة عام 1972م:[c1]ستون، ما أنت ياستون ؟إنذاروان تشرين عن كانون حدثناقرأت عنك ولا ادري متى قرأتقد اعذر الله من مد السنين لهولو تجلى لي المحجوب مافرحتأنى يكون الذي يأتي الزمان بهلولا الأحبة في الدنيا لما بقيت ليل المشيب بلا كأس ولا وتر[/c]