أفكار
منذ أن اتخذت الحركة الاجتماعية للشعوب أشكالها التنظيمية المختلفة جرت محاولات كثيرة لنقل خبرات السابقين في هذه الحركة إلي اللاحقين بها, توفيرا لجهدهم ولوقتهم ولتسليحهم بالخبرات, سواء الحلوة أو المرة, التي مر بها هؤلاء السابقون, فالتنظيمات النقابية العمالية التي صاغها الأجراء الانجليز مع بداية قيام المصنع الحديث بخطوط إنتاجه وعلاقاته الحديثة والمختلفة عن تلك العلاقات التي كانت تربط الأقنان بالأرض, لم تنشأ بين يوم وليلة, وإنما سارت في طريق وعر دفع المتحمسون لها والناشطون فيها والمنظمون لعضويتها ثمنا غاليا, ووقتا طويلا, كما مروا عن طريق التجربة والخطأ, بمشوار يمتد لعقود زمنية عديدة تمت كتابة تاريخها لاحقا علي يد خبراء وباحثين نبشوا وحفروا في أحداث تاريخ قديم لم يهتم به احد في زمانه, فالحركة كانت في النهاية صياغة لحركة مجموعة من الأجراء المغمورين في مواجهة حفنة من ملاك المصانع أصحاب الفضل علي هؤلاء الأجراء لأنهم استثمروا أموالهم لإيجاد فرص عمل لهؤلاء المتمردين الذين يحصلون منها علي أجور توفر لهم ولأسرهم الطعام! فلماذا الاهتمام بتفاصيل حركتهم اليومية؟وبسبب عدم تدوين وتسجيل خبرات الأولين, كانت الحركة تبدأ في كل بلد علي حدة, من حيث بدأ الأولون وليس من حيث انتهوا, ولايمكن أن ننكر أن درجة تطور البلد المعني كانت تساعد في تسارع الحركة أو تباطئها, ولكن هذه الحركة استمرت لاتستفيد من التجارب السابقة لها بالدرجة الكافية لأنها لم تكن تملك ما تستفيد منه من مادة مطبوعة أو من صاحب تجربة ينقل لها تجربته بشكل مباشر.ربما تختلف الأوضاع الآن ليس فقط في العالم وإنما في المنطقة العربية وكذلك في مصر, فالكثير من هذه الحركات الاجتماعية بدأت تدون وتسجل جانبا من حركتها في مادة مطبوعة تنشرها علي الآخرين, من هذه الحركات تأتي منظمات المجتمع المدني التي تتخذ حركتها الآن في أقطارنا العربية خطا تصاعديا من حيث تزايد عددها وتنوع نشاطها ثم تطورها من مجرد منظمات خيرية وفئوية إلى منظمات تنموية ثم إلى منظمات حقوقية توعوية.فمنظمات المجتمع المدني تأخذ مكانها الآن في المجتمعات العربية كمنظمات يكونها الناس ليديرها الناس وليستفيد منها الناس, وهي تسد حاجة اجتماعية قد لاتصل إليها الدولة بأجهزتها. وتقوم بدور مهم توفر الكثير من الأموال التي قد يتحملها جهاز الدولة هذا إذا ما أقدم علي تقديمها. كما أنها تقدم للمجتمع قيمة مضافة تم حصرها في بلد كالمملكة المتحدة على سبيل المثال, لان نشاطها في الأساس يقوم على مبدأ التطوع للخدمة العامة. قد تضم في جهازها الإداري محترفين, ولكنها في النهاية تعتمد في حركتها علي شبكة كبيرة من المتطوعين.في مصر بدأت منظمات المجتمع المدني في التكون مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر, وكان لها نشاطها في مجال الصحة والتعليم والمساعدات المادية, وكنا نسميها بالجمعيات الخيرية, وتطورت الأمور والأوضاع منذ ذلك التاريخ القديم وتكاثرت أعداد الجمعيات واتخذت الجديد من المسميات والتنوع والانتشار ليس فقط في العواصم والمراكز الحضرية, وإنما في الأطراف الريفية التي هي في اشد الحاجة إلي خدمات وأنشطة هذه المنظمات التي باتت تشكل احد أهم أعمدة المجتمع المدني, وحدث ذات الأمر في غالبية الدول العربية, فبات لدينا كشعوب عربية مئات الآلاف من منظمات المجتمع المدني التي تعمل في تنوع جغرافي وتخصصي كبيرين وتلبي احتياجات حياتية حقيقية لملايين البشر العرب.ولكن ولأن الإنسان يتعلم من تجاربه السابقة, فلم يعد من الممكن الحجر علي الخبرات المتنوعة أو حبسها في الإدراج والأدمغة, فقامت حركة تسجيل وتدوين لابد من الاعتراف بجديتها لأنها تسعي إلى تأسيس منظمات المجتمع المدني هذه على أسس تساعدها علي القيام بواجبها وسط جماهيرها. فالخدمة العامة يجب ألا تخضع للعشوائية ولإعادة التجربة والخطأ أو لاستمرار القصة القديمة, أي أن يبدأ الآخرون من حيث بدأ الأولون, الآن يجب أن نبدأ من حيث انتهى السابقون لنا في الفكرة التنظيم والحركة.خلال السنوات الماضية أصدرت الشبكة العربية للمنظمات الأهلية مجموعة من الإصدارات المهمة التي إذا امتلكها أي ناشط في منظمات المجتمع المدني أو إذا امتلكتها أي مجموعة من المواطنين الساعين لخدمة المجتمع بجهدهم التطوعي, وإذا اعتبروها مرجعهم المعرفي فسوف يوفرون علي أنفسهم الكثير من الوقت والجهد للوصول إلي هدفهم الاسمى وهو تقديم خدمات حياتية لمواطنيهم قد لايستطيع جهاز الدولة القيام بها. وهي مجموعة إصدارات تلائم الواقع العربي من حيث مناخه العام وتوجهاته التي تتمايز بحالة من التقارب, أو التفاعل مع الواقع القانوني.كما أنها مجموعة إصدارات تحمل الجديد العالمي الذي بات مهما في عصر تتقارب فيه الشعوب الصغيرة والكبيرة بكل تجاربها المتراكمة من أنشطتها المختلفة,.في النهاية هذه تجارب شعوب ولا علاقة لها بسياسات حكومية غربية أو شرقية, شمالية أو جنوبية, حكومات قد تكون حذرة من بعض المنظمات ومتسامحة مع أخرى. وبالقطع يتوقف الحذر أو التسامح على طبيعة النشاط الذي تقوم به كل منظمة, وكذلك علي مساحة المناخ الديمقراطي في كل مجتمع.ثلاثون إصدارا مهما, كان آخرها إصدار حمل عنوان الموسوعة العربية للمجتمع المدني; علي طول فترة إعداد وإخراج هذه الإصدارات تكونت جماعة من الباحثين العرب والمصريين القادرين علي تقديم فكرهم لكل ناشط في المجتمع المدني لمساندته في عمله التطوعي, يدرس الباحثون نشاط هذه الحركة الجماهيرية الكبيرة ليعيدوا صياغتها المتطورة في فكر يعاد تدويره علي كل النشطاء الآخرين في المجتمع المدني.لم تتوقف الإصدارات عند مجرد رصد إعداد منظمات المجتمع المدني وتصنيفها كخدمية أو كتنموية أو كدعوية أو تلك الساعية إلي دفع الحراك الاجتماعي, وإنما دخلت في صلب عملية التأسيس والإدارة والتطوير والاستمرارية علي أساس أن هذه المنظمات لابد أن تسير وفق قواعد تساعدها علي التواصل وتأكيد العطاء الجماهيري, تناولت الإصدارات موضوع بناء القدرات والعمل الجماعي والجهد التطوعي والاطر القانونية والأخرى التنظيمية والمالية والتنموية, وكيفية قياس كفاءة المنظمات, وكيفية تدريب النشطاء.ربما كان مثل هذا النشاط الفكري هو الذي افتقدته بعض الحركات الاجتماعية الأخرى مثل الحركة النقابية, وكذلك الحركة التعاونية, فنحن إلي هذه اللحظة لانزال نكتشف الكثير من أحداث تطور الحركتين ونتعلم الكثير من أسس وقواعد العمل فيهما, وإذا كانت الشبكة العربية للمنظمات الأهلية هي الساحة التي صيغت فيها وفي إطارها هذه الحركة الفكرية المهمة, فإن الصديقة الدكتورة أماني قنديل هي المايسترو الذي خطط لهذا العمل الكبير الذي قدم خدماته لهذه الحركة الاجتماعية الحديثة.[c1]*عن/ صحيفة (الأهرام) المصرية[/c]