يصدر كثير من المسلمين في تعاملاتهم عن فتوى بعض الشيوخ الذين يتمتعون بقصر نظر فريد, في حين أن المفتي يجب أن ينظر في مآل الفتوى متبنياً ما يسمى فقه المصلحة العامة قبل أن يطلق العنان للسانه فيحكم بما يظنه الخير فإذا هو محض شر.لا تخبو نار فتاوى الجهاد التي تحفّز الشباب المسلمين كي يتحولوا إلى قنابل موقوتة في العراق ولبنان وغيرها من البلاد ذات الأوضاع المتفجرة, ويزيد عدد الشباب السعوديين على ما سواهم في هذا الجانب, فترد التقارير بأنهم يشكلون 45% من الانتحاريين غير العراقيين في العراق, بينما يباعون في مخيم نهر البارد بسعر 3 آلاف دولار للرأس الواحد, فمن الذي زين لهؤلاء ذلك الهوان النفسي والألم الأسري والخسران المجتمعي؟ أليست هي فتاوى الجهاد في العراق وغيره؟!بعيداً عن الشيوخ الذين يهلّلون علانية أو سراً للإرهاب تحت مسمى الجهاد, فإن الشيوخ ذوي النوايا الحسنة موجودون أيضاً, ويصّرون على أن الجهاد في العراق أمر مقصور على العراقيين, ولكنهم ينسون المثل الفرنسي القائل: (النية الحسنة هي أقصر طريق إلى جهنم), فاكتفاؤهم بتحليل الجهاد على العراقيين وتحريمه على غيرهم لا يفكّ معضلة التناقض في ذهن الشاب الذي يعتقد أن هذه الفتوى سياسية بحتة لم يرد بها وجه الله بقدر ما أريد بها رضا الحاكم, أما ما يملأ نفس الشاب فهو رغبته في نيل الشهادة بأسرع وقت وبذا يرتاح من هذه الدنيا العبثية التي أصبح بطن الأرض خير من ظهرها, دون أن ننسى حكايا الشيوخ عن كرامات المجاهدين, ودون أن نتجاهل الإغراء القابع وراء تهويماته بالمحظيات من الحور العين.استنكر بعض الكتاب أن يكون رقم 45% صحيحاً في حال السعوديين الانتحاريين في العراق, مؤكدين أنه لا يتفق مع انطلاق قسم كبير من الشباب إلى الأخذ بالحياة العصرية وتقليد الغربيين في اللباس وسماع الموسيقى ناهيك عن الانحلال الأخلاقي أحياناً, لكن غاب عن هؤلاء الكتاب ما ذكره كتاب آخرون من انقسام غالبية الشباب السعودي إلى سوبر ستار أو سوبر انتحار, اللهم إلا فئة قليلة حالفها الحظ بالنجاة من الإفراط والتفريط.هاتان الظاهرتان المتناقضتان موجودتان في البلاد العربية الأخرى, لكنهما أكثر بروزاً في المجتمع السعودي, وإذا كنا واقعيين فلن نفاجأ بما نقرأه في موقع اليونيسيف عن البلاد الخليجية عموماً والسعودية خصوصاً: (والواقع أن عملية التحديث، التي دامت قرونا عديدة في الغرب، قد اختزلت في عقود، الأمر الذي شكل درجة كبيرة من الإجهاد على المجتمعات التقليدية).كلمة (الإجهاد) الواردة في العبارة السابقة بحاجة إلى وضع خطوط كثيرة تحتها لأنها تفسر لنا هذا الانقسام الحاد في الشباب إلى الفئتين المشار إليهما, علما بأن الـ”سوبر انتحار” يعتمد بأيديولوجياته على فتاوى صادرة من تيار إسلامي متشدد, بينما يأتي الـ”سوبر ستار” كرد فعل على تلك الفتاوى مع شعور باللامبالاة تجاه أي شيء, فإذا كان كل شيء محرما على الشباب دون بديل حلال, وإذا كانت التربية لا تقوم على أساس تعديلي لمسار الغرائز, فما هو المتوقع لوجهة الشاب الأخيرة؟غريب حقاً أن فتاوى تحريم الموسيقى ما تزال مسيطرة, حتى قرأنا مؤخراً رأي أحد الذين يتبؤون منصباً دينياً رفيعاً بتحريم الأناشيد الدينية المصاحبة بالإيقاعات, وهذا لا يعني أن أغاني سامي يوسف مثلاً حرام فقط, بل هي على مستوى الحرام الذي تقع فيه أغاني نانسي وروبي وأليسا, فإذا كانت كل الأغاني حراماً فلم لا ينحدر الشاب من سماع أناشيد سامي يوسف الراقية إلى مراقبة البورنو كليب في أغاني الهيفاء والتافهة وزميلاتها؟!هذا مثال واقعي حصل معي منذ عامين: عندما كان ابني الكبير في الصف الأول الثانوي وأراد أن يشتري قيثارة, فذهبت معه بسيارة صديق له - وهو ابن صديقتي أيضاً - وعندما دخلنا محل الآلات الموسيقية أخذ مرافقنا الشاب يلمس أصابع البيانو مدندناً عليه ثم أمسك بالقيثارة وبدأ يلعب بها كأنه يعزف لولا أنه لا يعرف شيئاً عن الموسيقى سوى غرامه بصوت محمد عبده الذي كان يشنّف أسماعنا في الذهاب والإياب, وفي اليوم التالي وعبر اتصال هاتفي مع صديقتي أخبرتني أنها دخلت في معركة مع ابنها لأنه يعترض على صداقتها مع امرأة لا تمانع في شراء “جيتار” لابنها, فقلت لها: ابنك هذا منافق لأنه لم يبدُ عليه أي نوع من الاعتراض علينا بل مارس هواياته الموسيقية المختبئة في داخله, عدا أن صوت محمد عبده كان يصدح طوال الطريق, فقالت لي: لقد واجهته بذلك لكن دون فائدة!في الحقيقة أثمرت تلك المعارك التي طالما نشأت بين ذلك الشاب وأخيه من جهة ووالدتهما من جهة أخرى بسبب اختلاطها مع الرجال أثناء عملها, وكذلك بسبب كشفها لوجهها رغم خلوه من أي أثر للمكياج ورغم أنها تجاوزت الأربعين, وكنت معاضدة لها دائماً, وقد شاركت كثيراً في عمليات غسيل دماغ معاكسة للعمليات التي تعرّضا لها من المعلمين والزملاء في المدرسة, وقد آتت جهودنا أكلها, فأحدهما الآن يدافع عن حق المرأة في قيادة السيارة, والآخر يدرس في ماليزيا حيث تعمل المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل, ولقد أخبر والدته مؤخراً أن التصرفات السيئة لبعض زملائه مع المحاضِرات أدت إلى فصلهم من الجامعة, وإذا سألنا عن السبب فهو عدم قيام أحد بتهيئتهم نفسياً للتعامل مع المرأة والثقافات المختلفة, فالسائد في تفكيرهم أن الاختلاط حرام, وأن المرأة الملتزمة يجب ألا تخرج من بيتها إلا متلفعة بالسواد, فكيف سيكون موقفهم من امرأة تقف أمامهم وتلقي محاضرة؟!إذا كان هذا وضع بعض الشباب السعودي في بلد تؤمن فيه الفتنة كماليزيا, فماذا سيكون وضعه في أمريكا وأوروبا؟ كيف يمكن أن يتقبّل الشاب ذو الخلفية الثقافية التي تحرِّم الموسيقى ذلك الإقبال الكبير على الموسيقى في تلك البلاد؟ معلوم أن الغرب يمنح الفنون بأنواعها مكانة عالية سواء كانت رسماً أو موسيقى أو غيرهما, فكيف يمكن أن يتعامل الشاب بموضوعية وفي ذهنه تتراكم تحريمات الفنون بأنواعها؟ هذا إذا تجاهلنا السؤال: كيف ينظر إلى دولته وحكومته عندما يقرأ فتاوى تحريم ما يباع علناً في كل المدن الكبيرة؟ لو أن الموسيقى حرام يا شيوخنا فهل نحرّم النشيد الوطني؟هل نكسر الآلات الموسيقية في محلاتها ونعتبرها إثماً كالخمر؟ هذه الفتاوى المحرّمة للموسيقى والفن لا تقلّ أذى عن فتاوى الجهاد لأنها توحي بشكل أو بآخر أن الحكومة لا تمنع المنكرات, بينما الحقيقة أن كل من يتتبع الآثار المروية والأحاديث الصحيحة يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه كبار العلماء في البلاد الأخرى من أن الفنون وسائل لغايات, فإذا كانت الغاية منها حراماً كانت الوسيلة حراماً, وإذا كانت الغاية حلالا كانت الوسيلة حلالا.الفتاوى ذات النظرة القاصرة كثيرة, ليس آخرها فتاوى الزواج بدون إشهار مهما كان نوعه وشكله, وفي الصيف يكثر الزواج السياحي سواء كان أساسه زواج الاستمتاع أو الزواج بنية الطلاق, وخبر المائة مليون دولار التي كانت تكلفة عشرة آلاف زواج خارج المملكة, يعطينا مدلولات عن مدى الاحتقان الجنسي والذي تحاول الفتاوى التعيسة تخفيفه, في الوقت الذي لا ندري شيئاً عن الفتاوى المخصصة للنساء سوى منعهن من السفر بدون محرم أو تحريم جلوسهن إلى جانب رجل في الطائرة, وفي ثنايا خبر آخر أن كابتن إحدى الرحلات المتجهة من ميلانو إلى لندن أرغم 3 خليجيات على النزول من الطائرة لعدم قبولهن بالجلوس إلى جانب رجال, والسؤال المطروح: لماذا نسافر دون أن نعترف أن لكل بلد خصوصيته وثقافته أيضاً؟ والسؤال الخاتم: متى تهبنا ثقافتنا القائمة على الفتاوى قدرة على قبول تنوع ثقافات الآخرين؟![c1]* نقلاً عن/ صحيفة “الوطن” السعودية[/c]
الفتاوى الجهولة بين التدمير والتنفير
أخبار متعلقة