مرافئ
في زمن الجحود والنكران، فان الفنان الراحل محمد سالم بن شامخ ظل وفياً لمن كان يعتبره قدوته وأستاذه الفنان الشيخ محمد جمعة خان أحد شيوخ الطرب المعروفين في اليمن وسيد الأغنية الحضرمية بدون منازع لعقود طويلة..وحتى بعد أن حقق بن شامخ شهرة كبيرة ، وصار من كبار الفنانين في بلاده ، ووصل صيته إلى خارج الوطن فانه لم يتنكر لمعلمه وقدوته الفنية، واستمر يقدم للناس أغانيه في كل مناسبة . وفي ذلك وفاء عظيم ونادر في زمن قل فيه الوفاء . وصاحبه ذلك حتى بعد رحيل محمد جمعة خان عام 1964م إلى العالم الآخر.كان بن شامخ يعتبر نفسه خارجاً من (معطف) محمد جمعة خان. وكان هذا الفنان العبقري يلقي بظلهعلى الساحة الغنائية اليمنية، ويحلق بالأغنية الحضرمية إلى آفاق لم تبلغها من قبل فوصل صيتها إلى الجزيرة والخليج وإلى شرق افريقيا، حيث ينتشر المهاجرون اليمنيون والحضارم منهم على وجه الخصوص .لم يكن غريباً أن يعجب بن شامخ بهذه القامة الفنية السامقة ، ويتأثر به، وبفنه ، وبادائه ، وان يعتبره استاذه وقدوته، وأن يبدي نحوه إخلاصاً نادراً حرص عليه حتى اللحظة الأخيرة من عمره بادائه لاغانيه ، ونقلها بصوته الجميل إلى جمهوره الذي لم يعش أكثره العصر الذهبي لذلك الفنان الخالد.لكن بن شامخ ، الواعي لدوره كفنان وملحن له طموحه الفني ، وشخصيته الفنية الخاصة عمل على تأصيل تجربته الخاصة، ولم يظل طويلاً تحت عباءة معلمه الذي تأثر به في بداية حياته الفنية وان ظل وفياً له ، مخلصاً لمدرسته في الغناء .. بل شق لنفسه اسلوبه الخاص في التلحين وفي الغناء.حقق بن شامخ شهرته داخل الوطن وخارجه منذ وقت مبكر من ستينيات القرن الماضي. وغنت من الحانه الفنانة اللبنانية هيام يونس ، وهي يومئذ من أقوى الاصوات النسائية الصاعدة في عالم الغناء. وكان في هذا أكبر دليل على نجاحه ليس كمطرب محلي صاحب صوت مميز، بل أيضاً كملحن مبدع يسعى المطربون للغناء من الحانه حتى خارج اليمن.ولم يكن صاحب التجربة الوحيدة في نقل الاغنية اليمنية خارج الوطن باصوات فنانين عرب، بل سبقه إلى ذلك غيره ، ولحقه آخرون بعد ذلك. فقد كانت الاغنية اليمنية في ذلك الوقت من ستينيات القرن العشرين المنصرم في أوج تطورها وشهرتها ، خاصة بعد نجاح المحاولات التجديدية لهذه الأغنية على يد جيل الرواد والجيل الذي أتى بعدهم.وكان هناك حرص من الفنانين العرب خاصة في بلاد الشام على تلقف هذه الاغنية لما وجدوها فيها من أصالة ، وحداثة، وقبول لدى الجمهور العربي، مثلما يتلقف الفنانون العرب اليوم الاغنية الخليجية بعد أن تراجع دور الأغنية اليمنية خلال السنوات الأخيرة.وممن خاضوا تجربة نشر أغانيهم باصوات فنانين عرب محمد سعد عبدالله، وابوبكر سالم ، ومحمد مرشد ناجي، ومحمد سالم بن شامخ وسواهم . لكنهم أو اغلبهم لم يواصلوا هذه التجربة ، ولا شك أن ظروفا كثيرة حالت دون ذلك، وإلا لكان لها ولهم شأن خطير في عالم نشر الاغنية اليمنية إلى ابعاد اكثر مما وصلت اليها.ولم تكن ظروف الفنانين اليمنيين المادية وحدها ، وهي ظروف قاهرة ، كما نعلم هي التي حالت دون تأصيل تلك التجربة ، بل أن ظروف الوطن العربي نفسها ، الذي كان يمر بتحولات خطيرة منها حرب حزيران1967م، والحرب الاهلية اللبنانية التي استمرت نحو 17عاماً، وتغير المناخ الذي ازدهرت في ظله الاغنية اليمنية ، كانت كلها من العوامل الكابحة لانطلاقة مشاريع اولئك الفنانين بمن فيهم فناننا الراحل محمد سالم بن شامخ إلى أبعد مداها.لكن يكفي هؤلاء انهم حاولوا، وكان لهم شرف المحاولة ، وقد بدأو تجربة ناجحة وجميلة وان لم يكتب لها الاستمرار. وقد مهدوا الطريق لسواهم ممن اتوا بعدهم . ولولا محاولتهم الجريئة تلك لما سمعنا الأغاني اليمنية باصوات فنانين عرب لهم مكانتهم وشهرتهم من أمثال، فهد بلان ، وهيام يونس، ومحمد عبده، ونبيل شعيل ، وعبدالكريم عبدالقادر، وعبادي الجوهر، وعبدالله الرويشد، واحلام وسواهم. ويكفي بن شامخ انه كان واحداً من هؤلاء الذين حرصوا على نشر الاغنية اليمنية خارج محيطها ونطاقها المحلي منذ وقت مبكر. ولولا التجربة الطويلة المستمرة منذ سنوات للفنانين ابوبكر سالم وعبدالرب ادريس في نشر الاغنية اليمنية في الخارج لا نقطعت تلك المحاولات الجريئة التي خاضها فنانون يمنيون أمثال بن شامخ وبن سعد.ويقتضي منا الوفاء أن نشيد بتلك التجربة، وأن نذكر الاجيال الجديدة التي لم تعشها أو تعاصرها سواء من الفنانين أو الجمهور بها وباصحابها ، فواجب الوفاء لهؤلاء ليس وحده ما يقتضي منا ذلك ، بل الحب أيضاً للأغنية اليمنية التي نتمنى أن تعود إلى مجدها السابق ومكانتها العالية التي كانت عليها ذات يوم على يد فنانين غيورين عليها أمثال فناننا الراحل محمد سالم بن شامخ ، يرحمه الله.