عبده محمد الهسوس، من منْ جيل الستينات لا يذكره؟ ومن منْ معارفه لا يتذكر فضله عليه؟ ومن من الناس في عدن لم يذق طعم الرز وتوابعه الذي كان يقدم في مطعميه الشهيرين في عدن والشيخ عثمان المعروفين بمطعم الشيباني؟ ذلك المطعم الشعبي الذي كان محط رحال الفقراء وملتقى المساكين وملاذ اليتامى والبائسين فيه يجدون ألذ الطعام وأرخصه ويحصلون على أفضل المعاملة لقد كان مطعم الهسوس من أشهر المطاعم وأفضلها في عدن عرف بأسعاره الثابتة والرخيصة على الدوام وتميز عن سائر المطاعم بالتخصص في طباخة الرز ذي المذاق الشهي والسعر الرخيص.وكان صاحبه عبده محمد الهسوس من خيرة الرجال وأكثرهم مروءة وأعظمهم مكانة وأحسنهم سمعة كان –رحمه الله- دمث الأخلاق ولا نظير له في سرعة البديهة وابتداع الحكمة الظريفة بالكلام المسجوع، وكان مبادراً في إعمال الخير وسباقاً إلى التعاون كريما معطاءً مع أن دخله من مطعم لم يكن كثيراً ولكن قناعة صاحبه كنز لا يفنى. لقد أتى الرجل إلى عدن في وقت كانت الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية متردية في عموم اليمن وكانت معظم المناطق في شمال اليمن وجنوبه محرومة من المدارس والطرقات والمياه النقية وليس فيها أي نوع من الخدمات الضرورية بما فيها قريته (المدهف) الواقعة في شرق بني شيبة التابعة حالياً لمديرية الشمايتين في محافظة تعز أتى إلى عدن طلباً للعمل، فالتحق بعمل المطاعم لبيع المأكولات، وهو لايزال طفلاً صغيراً لايقوى على مشاق هذا النوع من العمل المضني، ولكنه كان مضطراً لتحمل مشاق العمل وسوء المعاملة التي كان يتعرض لها أمثاله من الأطفال من أرباب العمل لكسب لقمة العيش الشريفة ومع الأيام استطاع أن ينشئ له مطعماً خاصاً به يتولى بنفسه إدارته وتشغيله ولما اتسع نطاق العمل وكثر زبائن المطعم عمد إلى تشغيل بعض الشبان العاطلين من معارفه فساهم بذلك في الحد من البطالة على نحو لم يستطع غيره مجاراته حيث كان العمل الفردي هو السائد وقتها لقلة مردود العمل أو الخوف من عدم الوفاء بحقوق العمال ولكن عبده محمد الهسوس خرق هذه القاعدة وقام بتشغيل عدد من العاطلين في مطعمه ايماناً منه بأن “ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته” وانطلاقاً من هذا المبدأ السامي مبدأ التعاون والتآزر اخذ بزمام المبادرة وقام بتشغيل بعض أهله وذويه وبني بلدته ذلك انه رأى كثيراً من أهالي بلدته وغيرهم من القادمين إلى عدن يجدون صعوبة في الحصول على عمل شريف في ظل المنافسة غير المتكافئة مع أبناء الجليات الأجنبية ويعيشون حياة الفقر والعوز والحاجة ولا يجدون مايسدون به رمقهم أو مايعولون به أسرهم، ورأى أن الواحد منهم كان إذا مرض لا يجد قيمة الدواء وإذا حصل على عمل بصعوبة فانه يعجز عن مواصلة ذلك العمل لضعف جسمه واعتلال صحته وإذا فكر بالعودة إلى قريته لا يستطيع لوعورة الطريق وانعدام المواصلات قلة مافي اليد من نقود.وكان الهسوس وغيره من الخيرين من أبناء بلدته امثال محمد علي صالح (الجريك) والسيد محمد عبدا لله طاهر، والسيد عبدالقادر عبدا لله طاهر وسيف محمد الهسوس، وعلي عبدا لكريم، وعبدالكريم محمد سالم، وعلي عبدالجبار وإخوانه، واحمد محمد صالح، وسيف سالم، واحمد عبدا لله سعيد وغيرهم كانوا يرون حياة الناس من أبناء بلدتهم قاسية وظروفهم صعبة، تواجههم العديد من المخاطر كل يوم، وهم لا يستطيعون مواجهتها منفردين وتصادفهم الكثير من المتاعب باستمرار ولا يقدرون على التغلب عليها متفرقين وتعترضهم دائماً المشكلات المتنوعة التي تقلق حياتهم وتزعجهم باستمرار.وأمام تلك الظروف الصعبة والمتاعب الدائمة ظهرت الحاجة لدى عبده محمد الهسوس وغيره من الخيرين إلى البحث عن وسائل نافعة تخرجهم من واقعهم السيئ وتخلصهم من معاناتهم ومتاعبهم التي لا تحصى وكانت كل محاولات للخروج من واقعهم المؤلم والتخلص من معاناتهم تبؤ بالفشل لأنها كانت محاولات فردية لا تقوى على مواجهة قساوة الحياة لان الفرد مهما كانت قوته ومهما وصلت قدراته وإمكانياته فإنه لا يقدر أن يفعل شيئاً ذا قيمة مادام وحيداً إما إذا تكاتفت جهود الأفراد وأتحدت قدراتهم فإنهم يستطيعون القيام بأي شيء والتغلب على الصعاب.ولقد اخذ هؤلاء الخيرون بمبدأ التعاون وشعارهم (الفرد للمجموع والمجموع للفرد) بحيث يعمل الفرد لمصلحة الجماعة وتعمل الجماعة لمصلحة الفرد، ويفيد الواحد من عمل الجماعة كما تفيد الجماعة من عمل الفرد انطلاقاً من الإيمان بأن التعاون هو التآخي الكامل لإيجاد القوة التي تستطيع أن تحقق للفرد مالا يستطيع الفرد أن يحققه لنفسه بمفرده وهو تألف قلوب الجماعة التي تنظر إلى الفرد باعتباره لبنة في البناء الذي لا يستقيم إلا إذا تماسكت لبناته كلها بعضها إلى بعض.ولقد أدرك الخيرون بفطرتهم أن الاتحاد قوة والفرقة ضعف وأيقنوا أن لاخلاص لمشكلاتهم اليومية إلا بتضافر جهودهم معاً، وتضامنهم جميعاً ولذلك بادروا بتأسيس أول ناد قروي في مدينة عدن وهو (نادي الاتحاد الشيباني) عام 1947م الذي تناوب على رئاسته كل من عبده محمد الهسوس ومحمد علي صالح وكان الغرض من إنشائه تعزيز مبدأ التعاون والتآزر، والإصلاح بين الناس وحل المنازعات والمشاجرات التي قد تنجم بين بعضهم والبعض ومساعدة المنكوبين من الكوارث الطبيعية والمتضررين من البطالة، وتقديم العون للأيتام والأرامل والمرضى والمقعدين والسعي لإقامة مشروعات خيرية ضرورية في القرى والمناطق التي ينتمي إليها أعضاء النادي مثل حفر آبار للشرب أو صيانتها وإصلاح الطرق وبناء المدارس وتشجيع التعليم .. الخ.ولم يقتصر نشاط النادي على دعم الأهالي في عدن، بل تعداه للتواصل مع المغتربين منهم في إثيوبيا والصومال وكينيا وجزيرة زنجبار ومصوع وأسمرة وغيرها حيث كان على تواصل معهم في مهاجرهم لربطهم في الوطن وحل مشكلات عائلاتهم في القرية والحصول على تبرعاتهم لإنجاز المشروعات الضرورية في القرى الريفية، ومن المشروعات التي أنجزها نادي الاتحاد الشيباني في ريف بني شيبة بناء ثلاث مدارس لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والقرآن الكريم، كانت إحداها في قرية القزحي ببني شيبة الغرب، وتولى التدريس فيها عبدالرحيم القاضي، والثانية في قرية المدهف ببني شيبة الشرق، وتولى التدريس فيها الفقيه احمد بن احمد، والثالثة في قرية عرش بجنوب غرب بني شيبه، وتولى التدريس فيها الفقيه محمد فاضل وكان يقدم دعماً لتلك المدارس من خلال تزويدها بالسبورات والطباشير وفرشى أرضيتها بالحصير والهدم وتزويدها بالألواح الخشبية التي يكتب عليها التلاميذ دروس القرآن الكريم ثم يمسحونها بعد كل درس يحفظونه كما كان النادي يساعد في بناء بعض المساجد وتزويدها ببعض المصاحف أو أجزاء منها كان يشتريها بعض الأهالي من عدن، ويتولى النادي إرسالها إلى القرية وتوزيعها على المساجد والمدارس.حصل ذلك في وقت كان ريف بني شيبة معزولاً عن العالم وبعيداً عن اهتمام الدولة- أن كانت هناك دولة- وبفضل تلك المشاريع التعليمية تمكن بعض الأهالي من تعليم أطفالهم مبادئ القراءة والكتابة في القرية قبل نزوحهم إلى المدينة وهي التي مكنت بعضهم من الالتحاق ببعض المدارس الأهلية في عدن لمواصلة الدراسة وكان النادي يشجع الأهالي على إدخال أطفالهم المدارس ويدعم الناجحين من الطلاب بالمساعدات والحوافز حيث كان يقدم لبعض الطلاب النابهين تسهيلات الحصول على الطعام المجاني في بعض المطاعم والمخابز مقابل استمرارهم في الدراسة خاصة الفقراء منهم.ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى تحفيز الطلاب المتفوقين بابتعاثهم للدراسة في الخارج على حساب النادي أو بدعم منه فقد سعى النادي لدى بعض الدول العربية للحصول على منح دراسية لبعض الطلبة المتفوقين ونجحت مساعيه في ابتعاث ثلاثة طلاب إلى مصر، هم علي محمد سعيد، وردفان علي حسين، وعلوان سعيد الحوشبه، وغيرهم، وقد تمكن هؤلاء من الالتحاق بالجامعات المصرية، والتخصص في مجالات مختلفة من العلوم واستطاع بعضهم مواصلة الدراسة في الجامعات الأوربية عادوا بعدها ليشغلوا مواقع رفيعة في المجتمع. كما سعى النادي لإقناع بعض التجار من الأهالي لابتعاث أبنائهم للدراسة في الخارج على حسابهم، وكان لتلك المساعي أثرها في تمكين بعض الطلاب من السفر إلى الخارج لمواصلة الدراسة الجامعية والعالية.ولعل ابرز ماتميز به نادي الاتحاد الشيباني في الفترة التي تولي فيها رئاسته عبده الهسوس، وبالذات في عقدي الخمسينات والستينات هو اهتمامه بالتعليم وتشجيع المتعلمين وتحفيزهم والعمل على تذليل الصعوبات التي يواجهها بعض طلبة العلم لتمكينهم من الاستمرار في الدراسة وكانت مسألة توفير لقمة العيش هي أكثر الصعوبات التي يواجهها الطالب في أثناء دراسته خاص عندما يكون فقيراً وبعيداً عن أمه وأسرته فهو بحاجة ملحة إلى مواصلة الحياة قبل مواصلة الدراسة وهذا يحتاج إلى مساعدة الخيرين من أبناء المجتمع ودعمهم للطالب الفقير.وكان عبده محمد الهسوس مبادراً في ذلك حيث كان يسمح لبعض الطلبة الفقراء بتناول الطعام في مطعمه مجاناً، كحافز منه ليستمروا في الدراسة واحتذى حذوه بعض أصحاب المطاعم والمخابز ولم يقتصر دعمه عند هذا الحد، بل تعداه لتقديم مساعدات مالية للطلبة الفقراء فقد كان يعطي كل طالب مسجل في المدرسة مابين شلن إلى اثنين شلن، في الأسبوع، بموجب توصية من إمام مسجد بانصير بعدن، وقد ساعد ذلك المبلغ كثيراً من الطلاب على شراء بعض مستلزمات الدراسة الضرورية ولولاها لكان كثير منهم قدترك الدراسة مضطراً في سن مبكرة وكان كاتب هذه السطور واحداً من الطلبة الذين حظوا بدعم عبده محمد الهسوس في أثناء دراسته الأولية فقد كان يحصل على شلن اسبوعياً ثم زادت فيما بعد إلى ثلاثة شلنات، ولولا هذا الدعم لكان قد ترك الدراسة لعدم قدرته على الوفاء بالتزاماتها ويقتضي واجب الوفاء الإشادة بهذا العمل الإنساني الرائع، وشكر صاحبه على كل عمل خيري قام به، ليكون ذلك حافزاً للآخرين للتسابق للأعمال الخيرية في وقتنا الراهن الذي شحت فيه النفوس وقست القلوب وتضاءلت أعمال البر والإحسان.ولا يسعنا في الختام إلا أن نبتهل إلى الله تعالى أن يجعل ذلك كله في صحيفة أعماله الطيبة ويجيه خير الجزاء على الأعمال الجليلة التي قام بها، ويثيبه الثواب الحسن على كل عمل صالح قام به، ويتجاوز عن سيئاته يوم الحساب فقد كان محبوباً لدى كل معارفه ولا يذكر إلا بخير في حياته وبعد مماته وليس عجيباً أن يفرد الشاعر الشعبي احمد عقلان الشيباني قصيدة كاملة في ديوانه( حكمة بتول) يثني فيها على عبده الهسوس ويقارن في الوقت نفسه بينه وبين أهل هذا الزمن الذين يتقاعسون عن الإسهام في العمل الخيري، وليس لهم من همٍّ سوى جمع الفلوس والإكثار من المال بصرف النظر عن الوسائل المتبعة لجمعه. ومن ذلك قوله:عبده الهسوسالله ربي يرحمه، عبده الهسوسكان شمسنا بين الشموسوكان طاؤوس «الطؤوس»كان الدواء لأهلهوكان للكل «ملوس»واجوا لنا بعده عويلهجمعوا شغمة فلوسمن الملوح والرشوشوكتلي من شاهي الكبوساجاتهم رزق البلىوهم جلوسيحارشوا ويفتنوايقرحوا كمن رؤوسوخربوا الخير بالنفوسماحد لقى منهم امانيتقارحوا يزابطواوجابوا للناس الجنان
|
آراء حرة
عبده الهسوس.. كان شمسنا بين الشموس
أخبار متعلقة