من المعروف أن التشرذم والتفتيت ولازال هدفاً استعمارياً، لسبب بسيط هو أن الشرذمة للسيطرة على الأمة. وقد جاء مشروع (الشرق الأوسط الكبير وحين يقال ذلك فإن الهدف هو تعزيز شرذمتها على أسس جديدة، بعد ما ثبت أن هذا المستوى القائم من الشرذمة لم يكن كافياً لفرض السيطرة الصهيونية عليها.من هنا تبدأ أهمية التسامح بين المسلمين أنفسهم، ففي حين تبدو الأمة في أمس الحاجة إلى دفع عجلة التغيير، فإن ذلك لن يتم بعيداً عن توافق قواها الحية على حد أدنى من التسامح فيما بينها، وكمدخل طبيعي للتعاون إنجاز التغيير المنشود ، أما إذا بقى بعضها ينهش في بعض فإن المركب سيواصل خبطه ، ما قد يكون إيذانا بالغرق وليس بالإقلاع نحو آفاق أرحب.لقد سادت في الأعوام الأخيرة نبرة من التعصب في أوساط المسلمين، وتحديداً تلك القوى المشتغلة بالشأن العام في الأمة وما قصة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة سوى أمثلة على الاستخدام الإشكالي للنصوص في منح صكوك البراءة لهذا الطرف واستهداف الأطراف الأخرى. ما ينبغي أن يقال هنا هو أن مجادلات حشر الأمة في مذهب فقهي أو اعتقادي واحد قد فشلت، ولو كان لها أن تنجح لنجحت في القرون الأولى على مرمى فترة محدودة من الوحي ، بل أن الشرذمة التي كانت سائدة في تلك القرون قد تتعدى ماهو واقع هذه الأيام ، الأمر الذي يؤكد استحالة صب الأمة في قالب واحد من قبل أي عالم أو أي مذهب. إن هذه القناعة لابد منها كمدخل للتسامح من دون أن يلغي ذلك حق كل طرف في الاعتقاد بأن رؤيته هي الأفضل، وأنه الأقرب من الصواب ، لكن إلغاء حق الآخر في التفكير والاستنباط والنظر وتبني الرأي الذي يرتاح إليه لا يمكن إلا أن يكون مدخلا للفرقة والتشتت وإضاعة الجهد. يروى عن الإمام الشافعي قوله (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) لكن أناساً في هذه الأيام قد اخذوا يحتكرون النجاة في الآخرة لأنفسهم، ويقولون إنهم الحق وما سواهم الضلال، وهو خلاف ما سارت عليه الأمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ( وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله ، فهذا موضع يجب على المؤمن أن يثبت فيه، ويعتصم بحبل الله، فإن السنة مبتغاها على العلم والعدل، والإتباع لكتاب الله وسنة رسوله). ولاتسأل بعد ذلك عن حجم التشويه الذي يصيب الأمة ودينها حين تعجز عن نشر ثقافة التسامح فيما بين أبنائها ، وفي كل الأحوال فإن القناعة بديمومة الاختلاف ( ولايزالون محتلفين) بما لابد منها، لأن قناعة بعض القوم بقدرتهم على صب الأمة في قالبهم بالقوة والعنف الفكري وغير الفكري هي المحطة الأولى للشرذمة وربما لما هو أسوأ منها. أخيراً نقول إن التسامح بين أبناء الأمة وتياراتها قد غداً أكثر من ضرورة، ليس لمواجهة الغزوة الرهيبة التي تتعرض لها، والتي لاتفرق بين زيد وعمرو، ولا بين مذهب وآخر ، بل تستهدف مجموع الأمة ووحدتها وهويتها وثرواتها ، وإنما أيضاً من اجل إيجاد الآليات الفاعلة لوضعها على سكة الوحدة والتقدم. ويبقى أن المجتمعات لا يمكن أن تتعايش وتبني نفسها من دون حد معقول من التسامح ، وهو الأمر الذي اكتشفه الغرب بعد حروب طويلة طاحنه ، أكانت حروباً أهلية أم حروباً بين الدول والقوميات ، ومن العبث أن تستعيد الأمة في هذه المرحلة الحرجة كل أشكال المعارك الفقهية والخلافات المذهبية، وتنسى العدو الواقف بالباب يتربص بها الدوائر.
|
اتجاهات
التسامح مع الذات
أخبار متعلقة