قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكرياانتشرت الصوفية في الوطن العربي والعالم الإسلامي في أواخر عصر الدولة الأموية ، ويعزو المؤرخون الأسباب التي أدت إلى ظهور الصوفية في تلك الفترة التاريخية إلى الجور والظلم ، والقسوة التي نهجت الدولة الأموية في إخماد نار الاضطرابات والثورات التي كانت تقوم في وجهها بين الحين والآخر مما دفع البعض إلى النجاة بأرواحهم من قبضتها والفرار إلى الأقاليم النائية والبعيدة عن مركز سلطانها في دمشق ، والبعض الآخر يعزوها إلى الحياة المادية الصاخبة ، التي طغت وبغت على البلاد والعباد في العصر العباسي الثاني حيث فسدت الأخلاق فسادًا كبيرًا من ناحية وساد الاضطراب السياسي الدولة العباسية في عهد الخلفاء العباسيين الضعفاء وتحكم العنصر الأجنبي من الفرس ثم الأتراك في مصائرهم ومصائر الخلافة . مما دفع بالكثير من الورعين والزهاد إلى النزوح من بغداد إلى أقاليم يسودها الأمن ، والهدوء ، والسلام . كل تلك العوامل المختلفة أبرزت الحركة الصوفية ـــ إذا صح هذا التعبير ـــ في الوطن والعالم الإسلامي ومع تعاقب الليل والنهار انتشرت الصوفية انتشار النار في الحطب ، وبات لها كيان خطير ومحسوس وهام على مسرح العالم الإسلامي السياسي وخصوصًا في الحروب الصليبية على الشرق العربي التي أشعل نارها أربان الثاني بابا روما في جنوب فرنسا سنة 1095م لتطهير بيت المقدس في فلسطين من يد المسلمين . وكانت سندًا قويًا للسلطان الناصر صلاح الدين المتوفى ( 589هـ / 1193م ) في حروبه ضد الفرنج الصليبيين وكذلك ضد خصومه المناوئين . [c1]اليمن والحركة الصوفية[/c]ومن البديهي أنّ ما ينعكس على الوطن العربي والعالم الإسلامي سلبا أو إيجابا ينعكس أيضًا على اليمن . فقد تأثرت اليمن بالحركة الصوفية تأثرًا عميقاً حيث وجدت الصوفية على وجه التحديد تربة خصبة لها في المناطق السهلية بتهامة اليمن وتحديدًا في زبيد والأقاليم المحيطة بها ، وكذلك ، تعز و ثغر عدن . بخلاف الأقاليم الشمالية التي كانت موئل أو كرسي الزيدية فكانت الأخيرة في خلاف شديد مع الأولى من حيث أساليبها ومنهجها في الأفكار والآراء بخلاف المذهب الزيدي الذي يقوم على الاجتهاد الفكري في الفروع الدينية من خلال الدرس ، والتنقيب ، والتمحيص وإعلاء كلمة العقل ولذلك رفضت الصوفية رفضا قاطعا شكلاً ومضمونا . ويرجح بعض المؤرخين المحدثين أنّ من الأسباب الأخرى وراء انتشار الصوفية الواسع في تهامة اليمن الطبيعة البشرية في تلك المناطق التي تميل للهدوء ، والدعة ، والسلام ، وإنّ لم يكن إلى الاستسلام ، وعدم الخوض في شرور السياسة. وهذا ما أكده الدكتور سيد سالم مصطفى في وصف سلوكيات أهل السهل بتهامة الذين يختلفون عن سلوكيات أهل الأقاليم الشمالية ، فيقول : « وذلك على عكس السهلي الذي يميل إلى البدانة والاسترخاء ، والركون إلى الراحة والسلام ، كما يشتهر بلين العريكة ». [c1]تهامة منبع الصوفية[/c]ويوضح الأستاذ عبد الله محمد الحبشي الأسباب الحقيقية في مؤلفه ( الصوفية والفقهاء في اليمن ) وراء كثرة تقاطر شيوخ الصوفية على المناطق السهلية بتهامة اليمن ، والعيش فيها ، قائلاً : « أغلب الذين عرفتهم اليمن من الصوفية عاشوا في تهامة ، كانت هذه المنطقة من البلاد المحببة لهم ، فقد وجدوا فيها الأمن والهدوء مؤثرين العزلة والعبادة في سواحلها بعيدًا عن ضجيج الحياة، وقلاقل الحكام . وقد كان أحد صوفيتهم ـــ وهو الشيخ أحمد الصياد ـــ يثني كثيرًا على السواحل ويرى أنها مورد عباد الله الصالحين » . والجدير بالذكر ، أنّ الشيخ أحمد الصياد لديه مسجد نسب إلى أسمه في التواهي وهو يطل على بحر التواهي وتحديدًا مقابل بوابة ميناء جمرك التواهي . ومازال قبره معروفاً حتى اليوم. ويذكر ألأستاذ عبد الله محيرز في مؤلفه (( العقبة )) أنّ مدينة التواهي قديما وتحديدا قبل الاحتلال الإنجليزي لعدن سنة 1839م ، كانت تسمى قرية الصياد على أسم الشيخ الصوفي أحمد بن علي العراقي اشتهر باسم الصياد نظرا لنّ أتباعه ومريديه كانوا جلهما وكلهم من الصيادين. ونستدل بذلك على أنّ أحمد الصياد يعود أصوله من المناطق الساحلية السهلية من تهامة اليمن ، ولقد ألقى أحمد الصياد عصا الترحال في ثغر عدن بعد أنّ طاب عيشه فيها . والملاحظ ، أنّ مشائخ صوفية عدن من خارج المدينة وغالبيتهم من حضرموت أو من تعز أو زبيد والمناطق المحيطة بها كقرية ( أبيات حسين ) التي قدم منها الصوفي حسين الأهدل واستقر وعاش ، ومات فيها ومازال قبره معروفًا حتى يومنا هذا في مسجده الذي سمي باسمه المتربعفي مدينة عدن القديمة ( كريتر ) . وهذا السيد أبوبكر العيدروس المتوفى ( 914هـ / 1508م ) الذي قدم إلى عدن من تريم في حضرموت « الذي خرج علماء ومشائخ وأهالي مدينة عدن لاستقباله في 13 ربيع الثاني من عام 889هـ / الموافق 1484م». وبعد أنّ أستقر في عدن بنى مسجده المعروف بمسجد العيدروس . وكيفما كان الأمر، فإنّ تهامة منبع صوفية اليمن .[c1]أضرحة الصوفية[/c]ولا نبالغ إذا قلنا أنّ المناطق السهلية في تهامة اليمن تزخر وتزهو بالأضرحة الصوفية ، فإذا دققنا النظر في بداية طريق لحج وتعز وعلى وجه التحديد بعد منطقة العند بلحج سنراها تطفو على الهضاب ، والوديان ، والتلال ولونها الأبيض الناصع المتألق يضيئ الأماكن الموحشة القفرة بالضياء والنور والأمن والأمان . [c1]في الراهدة[/c]تروي المصادر أنه منذ خمسمائة سنة حط أحد الزهاد الصالحين رحاله في منطقة خالية من الناس ، كانت تحيط بها الأشجار الكثيفة ، وتجري فيها المياه العذبة الزلال ، وتعرف تلك المنطقة بالراهدة. وفي هذا المكان بنى هذا الشيخ الزاهد الورع عبد الملك بن مروان زاويته أو مصلاه الصغير ، ومع مرور الأيام والشهور ، والسنين تناقل الناس أخباره ، فكانوا يأتون إليه يلتمسون منه الخير والبركة ، والنصح والرشاد في شؤون دينهم ودنياهم . وتذكر بعض الروايات بما معناه : « أنّ الشيخ الجليل عبد الملك ، كان شديدا في الحق ، فإنه لم يقتصر على تعليم الناس شؤون دينهم فحسب بل كان مدافعًا قويًا في مواجهة جور وظلم الأمراء في المنطقة الذين كانوا يذيقون الناس العذاب الغليظ . وبسبب زهده وورعه ولا يخشى في الله لومة لائم ، كان الأمراء يتسابقون إلى رضاه حتى لا تنقلب الرعية ضدهم أو بمعنى آخر كانوا يخشون أتباعه ومريديه الذين كانوا يزدادون يوما بعد يوم . ويعرف مسجده الصغير أو مصلاه بـ ( أبوقبة). والحقيقة أنّ المصادر لا تعطينا معلومات عن تاريخ وفاته ، ومن أين قدم إلى الراهدة ؟ . ومن المحتمل أنه قدم من المناطق السهلية الساحلية الزاخرة بمشايخ الصوفية ـــ كما قلنا سابقاً ـــ. وعلى أية حال ، تعطينا المعطيات التاريخية أنّ الصوفية انتشرت انتشارًا عريضًا في عدن ، تعز ، وزبيد وغيرها من المناطق السهلية في تهامة اليمن ، وخصوصًا في عصر الدولة الرسولية ، والدولة الطاهرية ، وكان لشيوخ الصوفية حظوة كبيرة لدى حكام وأمراء هاتين الدولتين ، وتذكر كثير من المصادر أنّ بعض سلاطين وملوك الدولة الرسولية كالملك المنصور مؤسس الدولة الرسولية المتوفى ( 647هـ / 1250م ) ، كانوا يتقربون إلى شيوخ الصوفية لغرض كسب العامة من الناس إلى صفوفهم من جهة والوقوف ضد خصومهم السياسيين من جهة أخرى . وتذكر الروايات أنّ صوفية تعز ساندوا الملك المنصور في ليتبوأ سدة الحكم ، فكانت لهم أياد بيضاء على هذا الملك وإزاء هذا فتح لهم الأبواب الواسعة في ممارسة شعائرهم الصوفية .[c1]الدولة الرسولية وبناء المساجد[/c]إذا كان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول أسس الدولة الرسولية ( 626هـ/ 858هـ / 1228 ـــ 1454م ) ، فإن ابنه السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول ، قد رسخ وثبت دعائمها وأركانها ، وقد امتد حكمه زهاء أكثر من 40 عاما . وفي عهده انطلقت الدولة الرسولية إلى آفاق واسعة في البناء والنماء ، والازدهار ، والقوة ، وكانت عاصمتها تعز ـــ بحق ـــ إشعاعاً حضارياً في اليمن جمعاء ، وكان الكتاب الكبار ، والأدباء الجهابذة ، والعلماء الفطاحل يأتون إليها من كل مكان. ولقد بسطت الدولة الرسولية حكمها على اليمن أكثر من مائتي عام . وتصف المصادر الملك المظفر : « كان الخليفة ملكًا كريما جوادا حليما بذالاً للأموال خاصة في الحروب ، وأعطى من السياسة وتدبير الملك ما لم يعط غيره من الملوك». وعندما توفي ، نعاه الإمام مطهر بن يحيى بعبارة موجزة ولكنها كانت غاية في البلاغة فيقول : « مات التبع الأكبر . مات معاوية الزمان. مات من كانت أقلامه تكسر سيوفنا ورماحنا». ولقد أجمعت كتب التاريخ على أنّ الملك المنصور عمر بن علي بن رسول وابنه السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول يعدان أعظم ملوك وسلاطين الدولة الرسولية. ولقد شبه أحد المؤرخين القدامى هذه الدولة بالخلافة العباسية المزدهرة بالمدارس الإسلامية ، والمساجد، ونستدل من هذا أنّ الدولة الرسولية كانت تعتني أيما اعتناء ببناء المدارس المسجدية. وهذا ما أكد عليه المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع في كتابه ( الدولة الرسولية )[c1]مآثر السلطان المظفر [/c]ويذكر علي بن الحسن الخزرجي مؤرخ الدولة الرسولية المتوفى ( 802هـ / 1400 ) مآثر السلطان الملك المظفر ، قائلاً : « ومن مآثره الجامع المظفري الذي في مدينة المهجم ( قريباً من مدينة تعز القديمة ) رتب فيه مدرسًا ... وإماما وخطيبا ومؤذناً ، وقيما , ومعلما ، وأيتاما ووقف عليهم وقفًا جيدا يقوم بكفايتهم « . وتذكر أيضا المصادر أنّ المظفر شيد بعض المدارس الدينية ، والمساجد ، «فمن ذلك المدرسة التي أنشأها في مغربة تعز المعروفة بالمظفرية ، وابتنى مسجداً في مغربة تعز ، وابتنى الخانقة ( وهي من المنشآت الصوفية ) في مدينة حيس» . وتذكر بعض المصادر أنّ الملك المظفر ، كان مولعا بدراسة العلوم الدينية ، وكان له مؤلف في الطب ، « وكان يجالس العلماء الصالحين ، وكان مشتغلاً بالعلم أخذ من كل فن نصيباً ».[c1]الأيوبيون والرسوليون[/c]قلنا : سابقاً أنّ السلطان الملك المظفر بنى جامعاً نسب إليه وهو جامع المظفر ، في المهجم وهي قريبة من مدينة تعز القديمة ولكن المؤرخ الخزرجي لم يحدد بداية تاريخ تشييد هذا الجامع والانتهاء منه . والحقيقة أنّ سلاطين وملوك ، وأمراء بني رسول اهتموا اهتماما بالغاً في ببناء وتشييد المدارس الإسلامية ، والمساجد لأنها كان بحق تمثل جزءاً لا يتجزأ من نسيج ثقافتهم العلمية والفكرية كونهم كانوا امتدادا لثقافة الدولة الأيوبية في مصر أو بمعنى آخر تولوا حكم اليمن على أنقاض بني أيوب . والجدير بالذكر أنّ صلاح الدين الأيوبي أولى عناية فائقة لإنشاء الكثير من المدارس الإسلامية وخاصة السنية منها للقضاء على آثار الدولة الفاطمية الشيعية . وفي هذا الصدد ، يقول المؤرخ الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع : « ذلك لأن عصرها (أي الدولة الرسولية ) ، كان أخصب عصور اليمن ازدهارًا بالمعارف المتنوعة ، وأكثرها إشراقاً بالفنون المتعددة ، وأغزرها إنتاجًا بثمرات الأفكار اليانعة في شتى ميادين المعرفة ، وما ذلك إلا لأن سلاطين وملوك الدولة الرسولية ، كانوا علماء فاهتموا بنشر العلم في ربوع اليمن على نطاق واسع ... » . والحقيقة أنّ من يشاهد ويتفحص جامع المظفر يشعر بعظمة السلطان الملك المظفر بن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول المتوفى ( 694هـ / 1295م) « إنّ القلم واللسان يعجزان عن وصف جامع الملك المظفر بتعز القديمة . إنّ محرابه و منبره وعمده وقبابه ومئذنته الشاخصة المنسرحة إلى السماء تمثل ـــ بحق ـــ تحفة فنية معمارية فريدة في بابها ، ويدل بوضوح تصميم بناء الجامع على عبقرية المعماري اليمني القديم الذي جمع بين الفخامة والرشاقة في آن واحد، فشيد بسواعده القوية بنيان الجامع من الحجارة الضخمة ، و نقش بأنامله الدقيقة الماهرة على بيت الصلاة في هذا المسجد آيات من الفن ، والرواء، والجمال » . وتقول المصادر أنّ الملك المظفر ، جمع أساطين العلماء ، والفقهاء من جميع مدن اليمن إلى مسجده وليبث في طلاب العلم روح التنافس ليجتهدوا في طلب العلم والمعرفة ، وعدهم أنّ من يبز أقرانه في الدروس سوف يملأ فمه ذهبًا « . ومازال مسجده الجامع يطل بشموخ على مدينة تعز القديمة ليروي عظمة السلطان الملك المظفر الذي كانت له أياد بيضاء على الدولة الرسولية بصفة خاصة واليمن بصفة عامة . ونستدل من ذلك أنّ المساجد تعد من المراجع التاريخية الهامة التي يتكئ عليها الباحثون والمؤرخون في معرفة التاريخ بصورة عامة ، والتاريخ الاجتماعي بصورة خاصة لكونها تروي الحياة الاجتماعية كالطرق الصوفية التي تدخل في صميم الحياة الاجتماعية في تلك الفترة التاريخية من اليمن .[c1]جامع الجند[/c]لم تحظ مساجد اليمن القديمة من الشهرة والاهتمام مثلما حظيت مساجد القاهرة ، دمشق ، بغداد ، والمشرق الإسلامي ونقصد به خراسان وما وراء النهر ( نهر جيحون ) وغيرها من بلدان المغرب العربي ، علمًا أنّ بعض مساجد اليمن يعود تاريخها إلى فجر الإسلام كالمسجد الجامع الكبير في صنعاء القديمة الذي بناه الصحابي الجليل فروة بن مُسيك المرادي بأمر من النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وقيل تاريخ بنائه في السنة السادسة من الهجرة النبوية ، ومسجد أبان في ثغر عدن بني في عهد الخليفة عثمان بن عفان ، وجامع الأشاعر في زبيد بني في عهد الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري , والجامع الكبير في مدينة إب القديمة بني في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ ، ومسجد معاذ بن جبل بالجند في تعز الذي بناه بأمر من رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ . وأجمعت كتب التاريخ على أنّ مسجد الجند من أقدم المساجد في اليمن وإن لم يكن في الوطن العربي والعالم الإسلامي . وتذكر بعض المصادر التاريخية أنّ هذا المسجد أنشئ في السنة التاسعة من الهجرة النبوية ، وتحديدًا بعد غزوة تبوك ، وهناك روايات أخرى تشير إلى أنّ المسجد شيد في السنة الثامنة من الهجرة . ويصف رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أهل اليمن ، قائلاً : « أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبًا ، وأرق أفئدة ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية « . ولقد أجمعت كتب التاريخ على أنّ أهل اليمن أسلموا على عهد رسول الله ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ . وتذكر المصادر أنّ الرسول ـــ عليه السلام ــــ بعث الصحابي الجليل معاذ بن جبل ـــ رضي الله عنه ـــ إلى الجند باليمن . ويروي ابن هشام في السيرة النبوية ( نقلا عن ابن إسحاق ) أنّ الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أوصى معاذ بن جبل قبيل رحيله إلى اليمن ، أنّ يتبع النهج الإسلامي الحقيقي الذي جوهره الترغيب لا الترهيب ، فقال له : « يسر ، ولا تعسر ، بشر ، ولا تنفر ، إنك ستقدم على قوم أهل كتاب ـــ وأغلب الظن هم من يهود اليمن ــــ يسألونك ما مفتاح الجنة ، فقل : شهادة أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له .[c1]الشروع في بناء الجامع[/c] وتذكر الروايات التاريخية : ما إنّ وصل الصحابي معاذ بن جبل الجند حتى شرع ببناء مسجد في وسط مدينة الجند بتعز. ومن هذا المسجد أنطلق معاذ يعلم اليمنيين مبادئ الإسلام المضيئة ، وقيمه المثلى . وأصبح المسجد في ليلة وضحاها قِبلة اليمنيين الذين آمنوا بالله ربًا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمدٍ نبيًا . وكان هذا المسجد بمثابة الكيان الإسلامي المحسوس لليمنيين الذين دخلوا في دين الله أفواجًا . وبمعنى أخر ، كان المسجد الذي شيده الصحابي معاذ مركزًا للقيادة الإسلامية في اليمن يلتف حولها اليمنيون من ناحية ورسم لهم أيضًا حياتهم الاجتماعية ، والعقلية ، والسياسية الجديدة في إطار القيم الإسلامية المشرقة التي ترفع قدر الإنسان. [c1]في رحاب المسجد [/c]عندما توجهنا واقتربنا من مسجد معاذ بن جبل أو مسجد الجند بتعز مخلفين وراء ظهرانينا الجند الحديثة الصاخبة بسوقها العامرة الزاهرة ، تراءت أمام أعيننا من وراء الأفق البعيد مئذنة رشيقة سامقة الارتفاع ناصعة البياض ، وسحابة ناصعة تلمع تحلق تفرد بجناحيها على قمة المئذنة ، فتغمر المكان بالضياء ، والسكينة ، والوقار والأمان . حقيقة تغيرت ملامح المسجد الأولى الأصلية ، وطمست معالمه الأصيلة بسبب تعاقب الليل والنهار ، ولكنه ظل محتفظا بروحه منذ ألف ونيف عام أو بمعنى آخر منذ أنّ وضع معاذ بن جبل أساس هذا المسجد الرائع المشرق بالإيمان ، والجمال . ويؤكد الدكتور أحمد فخري الذي زار اليمن سنة 1947م أنّ موضع المسجد الحالي هو نفس مكان المسجد القديم الذي بناؤه ابن جبل ، فيقول : « في مدينة الجند جامعها المشهور ، وهو أثر من أهم الآثار الإسلامية في اليمن ، يقوم بناءه الحالي بين خرائب مدينة الجند المتسعة وهو مشيد في المكان نفسه الذي يقال إنه بنى فيه أول جامع في اليمن بناه معاذ بن جبل في أيام النبي ـــ صلى الله عليه وسلم » .[c1]المحراب المبارك[/c]وفي الجهة الغربية من قِبلة بيت الصلاة يطل محراب مبارك يروي قصة أنوار فجر الإسلام في اليمن ، إنه اقدم محراب في مساجد اليمن قاطبة ، إنه محراب الصحابي الجليل معاذ بن جبل ، والمحراب ذو تجويف يسير عمقه 30سم ، وارتفاعه متران ، ومواد بناء المحراب من الحجارة السوداء الملساء في حجم كف الإنسان ، وهذا كل ما تبقى من مآثر وآثار مسجد معاذ بن جيل أو مسجد الجند الضارب أطنابه في فجر تاريخ الإسلام .[c1]جامع الأشاعر [/c]في حي من أحياء مدينة زبيد القديمة الرائعة بطرزها الإسلامية التي ترجع إلى القرن الرابع الهجري ، القرن ( 10م ) والتي وصلت فيها العمارة الإسلامية إلى قمتها في تلك الفترة التاريخية يتربع أقدم المساجد في اليمن وهو مسجد أبو موسى الأشعري والذي نسب إليه حتى يوم الناس هذا . وهناك رواية أخرى تقول إنّ سبب تسميته مسجد الأشاعر أنه سمي باسم قبيلة الأشاعرة وهي أحدى القبائل المشهورة في زبيد بالبأس ، والقوة ، ورباطة الجأش. وتذكر المصادر التاريخية أنّ مسجد الأشاعر يعود تاريخ بناءه إلى العام الثامن للهجرة، وإذا صحت تلك الرواية أو الروايات ، فإنه يكون أقدم من مسجد معاذ بن جبل أو مسجد الجند. وتحدد المصادر موقع مسجد الأشاعربأنه كان « بجوار بئر قديمة ، كان العرب الأشاعرة ينزحون منها الماء ، ويسقون دوابهم وهي الآن تقع غرب مسجد الأشاعر . وتذكر الروايات أنّ هذا المسجد امتدت إليه يد التوسع ، والترميم ، والتجميل أكثر من مرة ، فقامت قبيلة الأشاعرة ببنائه « عندما عاد أبو موسى الأشعري إلى المدينة المنورة ، وترك قومه ينشرون التعاليم الإسلامية، ثم أرسله الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ إلى مأرب . وفي عصر الدولة الزيدية ، وتحديد في عهد محمد عبد الله بن زياد مؤسس الدولة الزيادية في زبيد سنة ( 204هـ / 820م ) ، قام ببناء المسجد أو بمعنى آخر أعاد بنائه في الربع الأول من القرن الثالث الهجري القرن التاسع الميلادي . وفي سنة 407هـ/1017م) بنى الحسين بن سلامة مسجد الأشاعر .. « وفي سنة 834هـ / 1431م ، جدد بناءه الخازندار برقوق الظاهري وهو من عمال الدولة الرسولية بزبيد وتحديدًا في أواخر عصرها» . ويزيد عبد الرحمن الحضرمي في كتابه ( زبيد ) في توضيح صورة أعمال التوسع للمسجد الذي قام بها برقوق الظاهري ، فيقول « وقام بتوسيعه في الجناح الشرق والغربي ، والجناح الجنوبي ، وخصص مقصورة للنساء ، وزين بالذهب واللازورد ، وأوقف عليه أرضًا ثمينة » . والحقيقة أنّ جامع الأشاعر وغيرها من جوامع زبيد العتيقة كالجامع الكبير تروي قصة تعاقب الدول، والحكام ، والأمراء على زبيد بصفة خاصة واليمن بصفة عامة . وهذا الملك المنصور عبد الوهاب بن عامر بن طاهر ووالد السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب أعظم سلاطين وملوك دولة بني طاهر جمعاء . قد جدد بناءه في سنة ( 891هـ / 1486م ) . وذكرنا سابقاً أنّ أمراء , وحكام ، ووجهاء الدولة الرسولية من رجال ، ونساء ، كانوا يتسابقون على أعادة بناء المدارس المسجدية وتوسعتها وإضافة أشياء فيها ومن هؤلاء الحرة ماء السماء جهة الطواشي فرحان أم الملك الظاهر الرسولي المتوفى سنة ( 831هـ / 1428م ) التي بنت بركة سميت الحريبية .[c1]المنبر العتيق[/c] وتذكر الروايات التاريخية في سنة ( 927هـ / 1521م ) أنّ سلمان الرومي أحد القادة العثمانيين الذي شارك في حملة المماليك على الهند ، أمر ببناء منبر لمسجد الأشاعر . ويذكر المؤرخ الحضرمي أنّ الذي قام ببناء هذا المنبر النجار المعلم محمد السندي ، ويفهم من اسمه الأخير أنه من الباكستان أو الهند . ونستدل من ذلك أنّ زبيد في تلك الفترة التاريخية ، كانت توجد بها جالية هندية ومع مرور الأيام والسنون امتزجوا بأهل زبيد وصاروا جزءاً لا يتجزأ من نسيج مجتمعهم . وفي سنة ( 949هـ / 1542م ) « أنشأ مصطفى باشا النشار ــــ وهو أحد الولاة العثمانيين في الفتح العثماني الأول لليمن سنة ( 945هـ / 1538م ) منبر الخطابة للجمعة بالأشاعر ، وأمر أنّ تقام صلاة الجمعة فيه ، وأنّ تكون الخطبة فيه ، وأنّ تكون الخطبة على المذهب الحنفي ، وصلاة العيدين » . والجدير بالذكر أنّ الدولة العثمانية ، كان مذهبها الرسمي المذهب الحنفي ، وكان من البديهي أنّ تنشر المذهب الحنفي وتشجعه في اليمن , خصوصًا في المناطق السهلية بزبيد والأقاليم المحيطة بها والذين غالبيتهم على المذهب الشافعي إن لم يكن كلهم . ويظن بعض الباحثين الناشئين أنّ سبب أوأسباب الحروب القاسية بين الأئمة الزيدية والعثمانيين التي استعرت نارها يرجع في الأساس إلى الاختلاف المذهبي بينهم ، وهو سبب في رأينا يجافي الصواب ، والحقيقة أنّ الأسباب الرئيسة في الصراع تعود إلى الأخطاء الفردية من العثمانيين وخصوصًا في عهدهم الأخير في اليمن حيث كانت الدولة العثمانية المركزية نفسها تعاني من تدهور سياسي ، واضطراب اقتصادي كبيرين ، واشتعال الكثير من الثورات في بلاد البلقان ، فلم تهتم الدولة العثمانية بأمور اليمن ، وتركت أمرها إلى ولاة مصر الذين كانوا مسئولين عن اليمن ، وكانت مصر نفسها ـــ أيضاً ـــ تئن تحت وطأة ظلم الكثير من هؤلاء الولاة العثمانيين الفاسدين الذين اعتلوا كرسي ولاية مصر بالرشوة والمحسوبية ، وكان من البديهي أنّ يعكس هذا سلبا على الولاة العثمانيين الذين تجرد البعض منهم من النزاهة ، والسيرة الحسنة، فكان لا هم لهم إلاّ سلب ونهب اليمنيين والعودة إلى الآستانة بكنوز الذهب والفضة ، والذخائر النفيسة ، وكذلك مما أثار حفيظة اليمنيين هو ما رأوه من تصرفات الكثير من الجند العثمانيين الذين انسلخوا من القيم والمبادئ الإسلامية كل تلك العوامل مجتمعة أشعلت فتيل نار الثورة في ربوع اليمن ضد العثمانيين حتى تم إخراجهم على يد الدولة القاسمية وتحديدا على يد الإمام المؤيد بن الإمام محمد القاسم سنة ( 1045هـ / 1635م ) . [c1]زبيد مدينة النور[/c]وكيفما كان الأمر ، لا نعرف على وجه التحديد الملامح الأولى الأصلية والأصيلة لمسجد الأشاعر ، فقد ذكرنا ـ سابقاً ـــ أنّ المسجد امتدت إليه أكثر من مرة يد إعادة البناء ، والتوسع ، والترميم ، والتجميل عبر تاريخه الطويل وعلى وجه التحديد ـــ كما سبق وذكرنا ـ في عصر الدولة الزيادية . وتذكر الروايات عن هذا المساجد ، قائلة : « يتصف مسجد الأشاعر بالبركة ، والقداسة عن غيره من المساجد لاجتماع الناس فيه في كل فريضة ، ويظل طول النهار مفتوحا للنوافل ، وصلوات الذكر ، والقرآن ، والعلم « . والحقيقة لقد بهرت مدينة زبيد القديمة بطرز عمائرها الإسلامية من ناحية ومآثر تراثها العلمي والفكري المشرق الكثير والكثير جداً من الرحالة الغربيين الذين زاروها ، وشاهدوها أمثال أعضاء البعثة الدينماركية التي زارت اليمن سنة ( 1761م ) . ولقد بلغت شهرة هذه المدينة الآفاق في مجال الحياة العلمية في سماء البلدان العربية والإسلامية . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : « ولقد كانت (( زبيد )) مركزًا علمياً هاما طوال العصور الإسلامية ، وذلك بالإضافة إلى باقي المراكز الإسلامية الأخرى مثل (( دمشق )) ، و (( القاهرة )) ، و (( القيروان ))» . [c1]الهوامش :[/c]عبد الله محمد الحبشي ؛ الصوفية والفقهاء في اليمن ، الطبعة الأولى سنة 1396هـ / 1976م ، توزيع مكتبة الجيل الجديد ـــ صنعاء .عبد الله أحمد محيرز ؛ العقبة ، الطبعة الأولى 1425هـ / 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة . صنعاء .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ المدارس الإسلامية في اليمن ، الطبعة الأولى 1400هـ / 1980م ، الطبعة الثانية : 1406هـ / 1986م . مؤسسة الرسالة ـــ بيروت ـــ . مكتبة الجيل الجديد ـــ صنعاء .علي بن الحسن الخزرجي ، عني بتصحيحه : محمّد بن علي الأكوع الحوالي، العقوُد اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية ـــ الجزء الأول ـــ الطبعة الأولى 1911م ، مطبعة الهلال بالفجالة بمصر ، الطبعة الثانية ربيع الأول 1403هـ / كانون الثاني 1983م . مركز الدرَاسات والبحوث اليمني ـــ صنعاء ـــ دار الآداب ـــ بيروت ــــ لبنان .محمد زكريا ؛ مساجد اليمن نشأتها وتطورها وخصائصها ، الطبعة الأولى 1416هـ الموافق 1996م ، مركز عبادي للدراسات والنشر ، صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية .عبد الرحمن بن عبد الله الحضرمي ؛ زبيد.. مساجدُها وَمدارسها العلميّة في التاريخ ، سنة الطبعة 2000م ، المركز الفرنسي للدراسات اليمنية ـــ صنعاء ـــ اليمن . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن ( 1538 ـــ 1635م) ، الطبعة الخامسة نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع ـــ القاهرة ــــ جمهورية مصر العربية .