الغناء والموسيقى 3 - 4
توطئة :يعد(ابن المعتز)الحلقة الأخيرة في سلسلة تجديد الشعر في العصر العباسي الثاني ، فعلى يده تحول الوصف إلى صوره فنية ، لتجعل منه أستاذ (مدرسة الصورة) حيث شغل النقاد بصوره الأرستقراطية ، التي هي صدى لتكوينه ونشأته.ففتح بذلك للشعراء آفاقاً جمالية ، ظلت مثار اهتمام ، وباعث اقتداء ، لما حولته من إبداع التصوير ، وروعة التلوين في مجال شعر الطبيعة الذي احتل ( ابن المعتز) قمته..وقد شكل اللون قوام تلك الصور ، التي مثلت لوحات فنية خلابة في خمائل الشعر العربي...؟كون(ابن المعتز)هاشمياً عباسياً من بيت ملك ، فذلك لا يعد سبباً كافياً لأن يكون من أهل السياسة وثعالبها ليجيد أسلوب المراوغة والانقضاض..ولا ليكون صاحب ملكٍ ، كلما أشتد في حرصه على عرشه وسلطانه ، اشتد في بطشه وعدوانه...أجل ، لم يكن أهلاً لهذا الأمر ، ولا الوفاء باستحقاقاته الباهظة...فلما حاول ذلك ، سقط سقوطاً مأسوياً:يا طالباً للملك كن مثله[c1] *** [/c]تستوجب الملك وإلا فلا (1)وحده الشعر ، كان سلطانه الحقيقي ، وسلم ارتقائه ، وطوق نجاته ، والطبيعة مملكته الآمنة ، التي حلق فيها طائراً...غردً بجمالها...نشواناً بمفاتنها...غزلاً بسحر ألوانها ، فأجاد لغة الألوان ، وأحسن التلوين ، حتى بدت قصائده لوحات لونية لا مثيل لها:ومزنه جاد من أجفانها المطر[c1] *** [/c]فالروض منتظم ، والقطر منتثرترى مواقعها في الأرض لائحة[c1] *** [/c]مثل الدراهم تبدو ثم تستتر ومازال يلطم خد الأرض وابلها[c1] *** [/c]حتى رقت خدها الغدران والخضر (2)قطبان تجاذبان أمر(ابن المعتز):- قطب الفن ، حيث يتجلى الإبداع ، ويتحقق البقاء...- وقطب السياسة ، حيث يحتد الصراع ، ويتأكد الفناء...ومن تجاذب هذين القطبين ، كانت المفارقة في مولوده(فناناً) ، ومقتله(سلطاناً)..!!إن كان أخفق في السياسة ، ولم يحسن السباق في مضمارها ، فكبا جواده ، ليسقطه التاريخ من قائمة الخلفاء..!!فإن قائمة الفن احتفت به ، وتوجته شاعراً تفرد في رسم لوحاته ، فاسحة له صدارة صفحتها ، اعترافاً بأصالة موهبته ، وإعجاباً بإحساسه الرفيع بكل ما حوله من جمال عالمه الحسي المادي ، فأحسن المقاربة ، وأتقن المشابهة ، ليشكل بذلك خميلة من خمائل الشعر ، نفيسة المحتوى ، زاهية الألوان ، زكية النفاس ، فإذا به يتفرد ، بل و “.يفضل أشباهه بألفاظ له ملوكية..”(3)(ابن المعتز)شديد الإحساس بالجمال..دائم البحث عنه ، وعن مواطن الفن ، فتعددت مسارب الجمال وتفرع غصن الفن لديه:الكلمة..النغم..اللون..الرائحة..المنظر ، ليستشف ذلك كله ، بحس لا يداينه فيه أحد ، ويرسمه لوحة شعرية رائعة الملامح والصورة ، خلابة الألوان ، برؤية ملكية ، نابعة من كيانه ، وبيئيه المترفة..فبحثه عن الفن- مثلاً-في بنية الكلمة ودلالتها شعراً ، ونثراً ، قد دلت عليه في الشعر ، أبياته المترعة بأرستقراطية الصورة ، وملوكية اللفظ ليقف أمامها شعراء عصره تعجباً وإعجاباً:وأنظر إيه كزورق من فضة[c1] *** [/c]قد أثقلته حمولة منعنبر (الديوان من عنبر ص 195)وفي النثر ، كانت مؤلفاته تعني - أيضاً - بالبحث عن الجمال فكان من بين ثمار ذلك كتاب(طبقات الشعراء) ، وكتاب (البديع) حيث تجلت موهبته الأصلية ، وثقافته العربية الواسعة ، وتألق إحساسه بجمال اللفظ وإعجازه..ومن تلك الموهبة والثقافة ، ومن ذلك الإحساس المغدق بالجمال ، برزت أيضاً ذائقته الموسيقية كأروع ما يكون ، لتجود بكتاب (الجامع في أحكام الغناء) ففيه طرق (ابن المعتز)عالم الموسيقى ، وجاب رياض الغناء والألحان ، باقتدار العالم ، ومراس الخبير ، وبذائقة موسيقية عالية المستوى ، ساعدته في تناول هذا اللون الفني ذي الطبيعة الصوتية ، والتصوير الرمزي:ومسمع يلعب بالأوتار[c1] *** [/c]أرق من ناجية القماري (الصولي ص253)ولا غرابة أن يصدر هذا الكتاب عن الموسيقى والغناء ، عن شخص كابن المعتز الذي يحدثنا عنه ( أبو الفرج الاصفهاني) في كتابه (الأغاني) “...أنه بدت منذ نشأته نزعة إلى الغناء والموسيقى ضاعفت حسه بالجمال...كما ذكر له أدواراً غنى فيها...”(4) فكان أن أصبح عالماً ، يرجع إليه الموسيقيون ويستشيرونه في مسائل الغناء والنغم.. ، بالإضافة إلى دوره ومشاركته في الحياة الغنائية في عصره ، الذي احتفى بالغناء والموسيقى ، حتى غدت في أبرز سماته ، ولا أدل على ذلك أن كل “..من يقرأ في كتاب الأغاني يخيل إليه انه لم يكن في العصر العباسي إلا الغناء والمغنون والمغنيات..”(5) وفي تناول مسائل الغناء والموسيقى ، كمسألة تطوير الغناء ، التي كانت لفترة ماضية وحتى وقته ، مثار خلاف بين أنصار المدرسة الغنائية المحافظة ، التي مثلها (إسحاق الموصلي) ، وأنصار المدرسة الغنائية المجددة بزعامة (إبراهيم يم المهدي) الذي سار على نهجه ( ابن المعتز)بدعوته إلى تجديد الألحان القديمة لمقتضيات فنية واجتماعية. ، إذ رأى أن باستطاعة المغني أن يعمد إلى لحن قديم ، فينقح ويغير فيه ، كيما يتناسب مع طبقة صوته ، أو أن يبدل في اللحن القديم فيجدد فيه وفق رؤية حاضرة ، ليتناغم مع ذائقه مجتمعه ، ويجسد الوعي الجمالي بعصره..و(ابن المعتز)بدعوته تلك إنما ينطلق من رؤية فنية اجتماعية ، تستمد مكوناتها من تفاصيل الواقع ، ومن شقافة العصر وجمالياته:فلا ترتب بفهمي!إن رقصي[c1] *** [/c]على مقدار إيقاع الزمانوليس إلى الشك سبيل ، في أن معرفة(ابن المعتز)وخبرته في الموسيقى والغناء ، إنما هي علامة على كمال وعيه الجمالي ، ذلك لأن الخبرة “..الجمالية المصاحبة لموسيقى هي من أعمق الخبرات الجمالية الإنسانية..”(6) هذا الاحتراف الموسيقي-لديه-كان من التأثير فيه ، بحيث أمتلك كيانه ، وتمكن منه ، ليلقي بظلاله الوارفة ، على جانب من حديقة شعره ، الذي ارتبط بحياة اللهو التي عاشها ، محاولاً دفن أحزانه وهمومه فيها:فأصلح بيني وبين الزمان[c1] *** [/c]وأبدلني بالهموم الطربكما أن تلك الحياة الصاخبة باللهو ، والموسيقى ، هي من أبعدته ، عن دسائس القصر ، ومؤامرات السياسة ، ولياليها المرعبة:-* وليل قد سهرت ونام فيه ندامى[c1] *** [/c]ندامى صرعوا حولي رقودا أسامر فيه قهقهة القناين ومزمارا[c1] *** [/c]ومزماراً يحدثني وعودا (ص 155)وفي مجالس اللهو تلك ، غالباً ما تحظى الموسيقى بمكان الصدارة ، حيث تصرح الآلات بأجمل الأنغام:أما ترى أربعاً للهو قد جمعت[c1] *** [/c]جنك وعود وقانون ومزمار (ص 198)ضاعفت الموسيقى من إحساسه الجمالي ، وأضافت ثراء جمالياً إلى ثرائه فقوت من ارتباطه بالجمال ، وعمقت من علاقته به ، فصيرته من مستوى الذائقة المبنية على التأمل ، والاكتشاف الجمالي وطلب المتعة ، إلى الاحتراف والمنهجية العلمية ، والبحث في أصول الغناء ومعاييره وأساليبه وفي قواعد تقويم الصوت ، بتحليل عناصره المتمثلة في درجة الصوت (صعوده وهبوطه) ثم طريقة أداء الصوت وحلياته.وهذا ما دلتنا عليه أبياته الشعرية ، سواء تلك التي وضع فيها الصفات الأساسية للغناء المتقن ، ومواصفات الصوت القادر على الإطراب ، المتمكن الأداء ، إضافة إلى الموسيقى المصاحبة وأسلوب العزف ، كقوله:أشتهى في الغناء بحة حلق[c1] *** [/c]ناعم الصوت متعب مكدود كأنين المحب أضعفه الشو[c1] *** [/c]ق فضاهى به أنين العودلا أحب الأوتار تعلو كما لا[c1] *** [/c]أشتهي الضرب لازما للعمود وأحب المجنبات كحبي[c1] *** [/c]للمبادي موصولة بالنشيدكهبوب الصبا توسط حالا[c1] *** [/c]بين حالين شدة وركودوقوله واصفاً الصوت الجميل الغناء ، البارع الأداء:آه من بحة بغير انقطاع[c1] *** [/c]لفتاة موصولة الإيقاع أتعبت صوتها وقد يجتني من[c1] *** [/c]تعب الصوت راحة الأسماع فغدت تكثر الشجاج حطت[c1] *** [/c]طبقات الأوتار بعد ارتفاع كأنين المحب خفض منه[c1] *** [/c]صوت شكواه شدة الأوجاعأو تلك الأبيات التي يصف فيها أصوات أهل الغناء فمنها الجميل الذي أستحوذ على كيانه , وأهتز له طرباً , لما فيه من عذوبة , وإقتدار:ومغن ملحن كل نفس[c1] *** [/c]بالذي تهواه للسكر عذر لا يمد الصوت منه نفور[c1] *** [/c]لا ولا يقطعه منه بهر وقوله في مغن عذب الصوت , بارع الأداء , ماهر العزف كلما بلغ منتهاه في الغناء , طالبه (ابن المعتز) بالمزيد طرباً ونشوة واقترح عليه غناء ما يود سماعه :قد بات ينطق عوده في كفه[c1] *** [/c]غرداً كقمري الحمام إذا صدحوإذا آبى إلاّ إقتراح غنائه[c1] *** [/c]جاوزته وطلبت ما لم اقترح وغلباً ما كان (ابن المعتز) يجمع في هذا اللون من الشعر بين وصف الغناء والصوت وحلياته وبين وصف المطربة متغزلاً بجمالها كقوله :وغنت فأغنت عن المسمعيـ[c1] *** [/c]ـن وأربح بالطرب المجلسمحاسنها نزهة للعيون[c1] *** [/c]ومعرضها كل ما تلبس ولابن المعتز أبيات بديعة في وصف مغن ومغنية جميعهما مجلس لهوه في ليلة سمر وفيها يصور ( ابن المعتز) ذلك المطرب وهو يعزف على آلة العود بإقتدار ومهارة بينما صوته يطرب الحاضرين حتى أنهضهم :وغريد جلاس فيه حذقه[c1] *** [/c]إذا مس بالكفين عوداً ومضراباكأن يديه تلعبان بعوده[c1] *** [/c]إذا ما تغنى أنهض النفس إطراباثم ينتقل الى وصف المغنية فيصورها تصويراً رائعاً وهي تلامس ببنان يمناها أوتار عودها بينما يسراها تداعب العود بسحر ورقة وبتناغم حركي جميل الايحاء :وقمرية الاصوات حمر ثيابها[c1] *** [/c]تهنئ ثياب الوشي جراً وسحاباوتلقط يمناها إذا ضربت[c1] *** [/c]وتنثر يسارها على العود عناباوشعره في الموسيقى والغناء لم يقتصر على وصف جميل الاصوات وما تتمتع به من حليات فقط بل إن شغفه وخبرته في تقويم الاصوات طالت أيضاً الاصوات القبيحة الجرس التي يجرح الوجدان قبل الأذان ليصفها بسخرية ويرسمها رسماً كاريكاتيرياً يظهر روحه الفكهة وحضور دعابته ومن ذلك وصفه لصوت مغن :إياك من الناس وأمثاله[c1] *** [/c]فالعيش مع أمثاله يقبحإذا تغنى رافعاً صوته[c1] *** [/c]حسبته سنورة تذبح (ص124)وفي قينة صوتها صدمة وكآبة, تصيب كل من قاده سوء طالعه الى مجلس تغني فيه :غناؤها يصلح للتوبة وريقها من ربد الجوبهفبادروا بالشرب قد أمسكت[c1] *** [/c]من قبل ان تلحقها النوبه (ص 68)وكذلك , وصفه لمغنية تدعى (بدعة) جمعت دمامة الشكل وبشاعة الوجه وقبح الصوت , وسوء الأداء , فما أن غنت حتى تكاملت عناصر المأساة :حدثونا عن بدعة فأتينا فتغنت فظن في البيت بوقوإذا بشوكة تقصف يبساً[c1] *** [/c]فوقها وجه فارة محلوق حين يمتزج النغم الجميل بالصوت العذب وباللفظ البديع وروحانيته وبالعاطفة الانسانية المختزلة في جمال الصوت وروعة الأداء تتشكل من ذلك الإلتقاء بنية فنية شديدة الأثر والتأثير وبهذا يصل الفن باجتماع مساربه الى مرتبة الاعجاز :ومغن يقول ما تعجز الـ[c1] *** [/c]ألفاظ عنه حلو الحديث أديب (ص 84)إن تعدد مستويات الاحساس الجمالي ومثيراته لدى (ابن المعتز) تبلغ ذروتها بالموسيقى المجردة كما أنها لا تنتهي بدخول (ابن المعتز) مرحلة الاحتراف والتعقيد بل إن إحساسه الجمالي يتصاعد ببلوغه تلك المرحلة من التجريد حيث تخطو الموسيقى “... خطوة أعلى من التصوير في التجريد والمثالية والتعبير عن الذاتية ذلك لأن حاسة السمع أكثر قدرة على التجريد من حاسة البصر ...” ففي تلك المرحلة يكون الاتجاه الى الداخل ... الى الباطن حيث الذات وعالمها الخاص الذي لا يماثله عالم الخارج :عللاني بصوت ناي وعود[c1] *** [/c]واسقياني دم ابنة العنقود (ص 156)عالم موسيقي صرف أساسه النغم ... وأعمدته النغم ... وكذا سقفه أو بتعبير أدق بنية موسيقية تستمد قيمها الجمالية من قوانينها الخاصة .تتحاور فيها الانغام وتتناجي بحرفية موسيقية محضة لتتسيد الموقف وتجسد الحدث فإذا بالنغم هو الحديث والفعل معاً وإذا بنية الفن في رحاب عالم الموسيقى “... لا تتبع موضوعاً خارجياً , وإنما تتأمل حركتها الباطنية ..” وهذا ما ترجمه (ابن المعتز) في وصفه لمناجاة موسيقية بين قرار ناي وجواب عود :وحن الناي في طرب وشوق[c1] *** [/c]الى وتر يجاوبه فصيح (ص125)[c1]المصادر والمراجع : [/c]1- أبوبكر محمد يحيى الصولي : كتاب الاوراق , قسم (أشعار أولاد الخلفاء) تحقيق:( ج. هيوراث . دن) , الهيئة العامة لقصور الثقافة , القاهرة , أغسطس 2004م , ص (131).2- ديوان عبدالله بن المعتز : تحقيق وضبط وتقديم : (د. عمر فاروق الطباع) , دار الأرقم , بيروت , ص (201).3- أبوبكر محمد بن يحيى الصولي : كتاب الأوراق , مرجع سبق ذكره , ص (114).4- شوقي ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي , دار المعارف , القاهرة , الطبعة (9) 1976م , ص (265).5- شوقي ضيف : المرجع نفسه , ص (61).6- شاكر عبدالحميد : التفضيل الجمالي , عالم المعرفة , الكويت , العدد (267) مارس 2001م , ص (287).7- أميرة حلمي مطر : فلسفة الجمال .. أعلامها ومذاهبها , الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة , 2003م , ص (162).8- أميرة حلمي مطر : نفس المكان .