العمارة الإسلامية في عدن
لسنا نبالغ إذا قلنا أن قضية تخطيط وعمارة مدينة عدن القديمة ( كريتر ) القابعة فوق حمم بركان خامد منذ الأزمنة السحيقة تلك المدينة الرائعة المتميزة بالعراقة والشموخ التي روت المراجع التاريخية والروايات الشعبية عنها أنها ولدت قبل أن يصافح التاريخ الحياة أو يرى النور. بالرغم من ذلك لم تحظ حتى هذه الساعة في كيفية حميتها ؟ والحفاظ عليها كمدينة من المدن التاريخية التي تدخل ضمن التراث القومي والعالمي .[c1]في حكم الصليحيين [/c]وفي الواقع أن من يتصفح ملامح تاريخ تخطيط وعمارة عدن القديمة سيلفت نظره أنها تعود إلى القرن الرابع الهجري ( العاشر الميلادي ) وفي تلك الفترة من التاريخ الإسلامي بلغت العمارة الإسلامية ذروة نضوجها . وكانت عمارة عدن عروس البحر العربي والمدخل الجنوبي الحقيقي للبحر الأحمر على طراز معماري إسلامي غاية في الروعة ـ حسب قول المؤرخين اليمنيين والمستشرقين ـ. ومما زاد من رونق تخطيط عمارتها على الطراز الإسلامي أو بالأحرى مما حافظ على هويتها كمدينة إسلامية من المدن المشهورة في العالم ـ وقتئذ ـ هو تناوب الدول المركزية اليمنية على حكمها والتي كان بعضها مرتبطا بالدول الكبرى في العالم العربي والإسلامي وعلى سبيل المثال الدولة الصليحية ( 439 ـ 532 هـ / 1047 ـ 1137 م ) التي كانت لها علاقة وثيقة وقوية بالدولة الفاطمية في مصر والتي دارت في فلكها بسبب وحدة المذهب والعقيدة اللتين بينهما . ومن المحتمل أن تكون قد صبغت مدينة عدن بالعمارة الفاطمية أو على الأقل تأثرت ملامحها بملامح العمارة الفاطمية في مصر . ومن يطلع على الروايات الشعبية والمصادر التراثية الصليحية سيجد أن من بعض التأثير الكبير على عادات وتقاليد الصليحيين من قبل الفاطميين هي مظاهر المطبخ الفاطمي , وأقصد بها أصناف الحلوى التي أشتهر بها الفاطميون التي جلبوها من مسقط رأسهم المغرب العربي . فقد انتشرت بها دكاكين الحلوى المصرية انتشارا واسعا في مدينة عدن .[c1]العمارة وبني زريع[/c] وفي عهد بني زريع الذين كانوا نوابا للدولة الصليحية في عدن ( 476 ـ 627 هـ / 1083 ـ 1229 م ) والذين كانوا في بداية أمرهم تحت سلطانهم . وعندما وجدوا في أنفسهم القوة من ناحية وضعف الدولة الصليحية من ناحية أخرى انسلخوا عنها وأسسوا لأنفسهم إمارة مستقلة في عدن . وأغلب الظن أن بني زريع اهتموا بعدن اهتماما كبيرا بسبب أنها كانت تمثل عاصمة دولتهم أو مركز دولتهم السياسي . وكان من الطبيعي أن يظهرون سواء لأنصارهم أو لخصومهم عظمة وأبهة عدن في ميدان العمارة لتدخل الهيبة في نفوسهم , و أن أركان سلطانهم قوية , وفي الواقع أن الحياة الاقتصادية كانت مزدهرة في عهدهم . وهذا بالتالي يؤدي إلى ازدهار العمارة في مدينة عدن .[c1]والثراء الواسع في عهدهم[/c]ومن يطلع على كتاب الدكتور محمد كريم الشمري بعنوان (( عدن دراسة في أحوالها السياسية ولاقتصادية )) سيلفت نظره الثراء العريض لدى بني زريع ، كانوا في بداية أمرهم يرسلون الأموال المقررة عليهم من قبل الصليحيين للسيدة بنت أحمد الصليحي زوج الملك أحمد المكرم لفترة من الزمن . وفي هذا الصدد ، يقول محمد كريم : " وهي دفع مبلغ مائة ألف دينار سنويا للسيدة الحرة زوج أحمد المكرم الصليحي كصداق لها عند زواجها من المكرم ". وعندما عثر عند أحد أميرات بني زريع وهي الحرة بهجة وجدوا عندها أموالا وثروات ضخمة" جمعتها من الموارد الطائلة التي كانت تجبى من المراكب التي تدخل عدن ". كل تلك البراهين والدلائل تؤكد أن العمارة في عدن كانت منتشرة في عدن بسبب قوة اقتصادها في عهد حكم بني زريع ـ كما مر بنا سابقا ـ فالعمارة تزدهر بازدهار الحياة الاقتصادية ، وكذلك تزدهر باستقرار الأمور السياسية .[c1]العمارة وبني رسول[/c]وعندما جنحت شمس الدولة الصليحية عن سماء اليمن السياسي وسطع نجم الدولة الرسولية . وكان سلاطينها متأثيرن بعادات وتقاليد بني أيوب في الحياة العلمية والفكرية ـ وأيضا ـ بثقافتهم المعمارية من خلال تشييد المنشآت الدينية مثل المساجد والمدارس ، والزوايا والأربطة الصوفية , وكذلك بناء المنشآت المدنية مثل القصور , والدور الضخمة والفخمة مثل ( دار السعادة ) وأما ما يتعلق بالمنشآت الحربية . فقد أقاموا العديد من القلاع التي كانت تطفو على عدد من مواقع جبل المنصوري والتعكر والمطلان على شاطئ أبين , . وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الكبير القاضي إسماعيل بن على الأكوع : " ثم لما حكمت اليمن بأمراء الدولة الأيوبية من سنة ( 569 ـ 626 هـ / 1173 ـ 1228م ) ساروا على نمط ما كان عليه أمراء الدولة السلجوقية ، وأخذوا بتقاليدهم وعاداتهم وأساليب حياتهم منذ أن كانوا نوابا لهم في الشام ومصر حتى استقلوا بالحكم بعد وفاة الملك العادل عماد الدين محمود زنكي سنة 569 هـ ". وتميزت الدولة الرسولية بأن سلاطينها كانوا يعتنون بالعلم والمعارف وصارت تعز عاصمتهم أشعاعا حضاريا , وقبلة العلماء والشعراء وأصحاب الفنون المختلفة . وأجزلوا لهم المال الوفير والعطايا والهداية الثمينة . ويضيف القاضي إسماعيل بن علي الاكوع فيقول: وكان من أبرز دول اليمن الحضارية ، وأخلدها ذكرا ، و أبعدها صيتا ، وأغزرها ثراء ، وأوسعها كرما وإنفاقا هي الدولة الرسولية ... والتي تعتبر عصرها غرة شادخة في مفرق جبين اليمن في عصرها الإسلامي ، ذلك لأن عصرها كان أخصب عصور اليمن ازدهارا بالمعارف المتنوعة، وأكثرها إشراقا بالفنون المتعددة ، وأغزها إنتاجا بثمرات الأفكار اليانعة في شتى ميادين المعرفة , وما ذاك إلا لأن سلاطين وملوك الدولة الرسولية كانوا علماء فاهتموا بنشر العلم في ربوع اليمن على نطاق واسع " . [c1]عدن والمدارس الإسلامية[/c]وكان من الطبيعي أن تنعكس تلك الثقافة المزدهرة في حياة سلاطين وملوك الدولة الرسولية على نشاط و حركة العمارة والتفنن بها وذلك مثل ( دار السعادة ) والتي قيل أنها بنيت في عهدهم والتي كانت تعد عين من عيون فن العمارة في عدن بل واليمن جمعاء من حيث الزخارف التي طرزت بها والألون الزاهية التي لونت بها والبناء المحكم والجميل التي بنيت بها . ولقد أجتهد سلاطين بني رسول في بناء المدارس الإسلامية في مختلف بقاع المناطق الواقعة في نفوذهم ومنها عدن . وفي الواقع ولم يقتصر بناء المدارس الإسلامية على سلاطين وملوك بني رسول فحسب بل تسابق الأمراء ، والحكام , والوزراء , ومواليهم على تشييد الكثير من تلك المدارس الإسلامية . وهنا ربما كان مناسبا أن نورد ما رواه القاضي إسماعيل الأكوع في هذا الموضوع ، إذ يقول : " ولم يقتصر بناء المدارس على السلاطين والملوك من بني رسول فحسب ، بل سار على سننهم وأقتفى آثارهم نساؤهم ووزراؤهم وأمراؤهم ومواليهم وإماؤهم ... والناس على دين ملوكهم حتى صار تشييد المدارس سمة واضحة من سمات عصرهم ، ومعلما بارزا من مظاهر حضارتهم ". [c1]حرية المذاهب[/c]وهذا ما أكده الباحث الجاد الأستاذ أحمد صالح رابضة في دراسته القيمة بعنوان (( تاريخ الرباطات والمساجد والمدارس في عدن )) حول المساجد الكثيرة المنتشرة في مدينة عدن علاوة على عدد من المدارس الإسلامية التي كانت تمتلئ بها المدينة . ولقد لفت نظرنا أن تلك المدارس الإسلامية في عدن لم تكن قاصرة فقط على دراسة المذهب السني ( المذهب الحنفي والشافعي ) بل كانت هناك مدارس تدرس المذهب الزيدى . وفي هذا الصدد ، يقول أحمد رابضة : " واحتضنت عدن إلى جانب المدارس الشافعية والحنفية ، مدارس تقوم بتدريس المذهب الزيدي كمدرسة المطهر بن شرف الدين التي أمر ببنائها الإمام المطهر بن شرف الدين , وقام عامله قاسم بن الشويع ببنائها عام 975هـ". ونستنتج من ذلك أن عمارة المساجد ، والمدارس الإسلامية أي المنشآت الدينية تبوأت مساحة واسعة في مدينة عدن وهي من أهم خصائص العمارة الإسلامية .[c1]عدن والمنشآت الصوفية[/c]ويجب ألا نغفل شيئا هاما وهي أن الصوفية في عدن وخصوصا في عهد حكم الدول السنية الرسولية ، والطاهرية كانت تتبوأ مكانة كبيرة من اهتمام سلاطينها وملوكها أو بالأحرى كانت الصوفية تمثل وزنا سياسيا كبيرا لدى هؤلاء السلاطين والملوك , والأمراء ، والحكام على الساحة اليمنية السياسية حيث كانت تمرر الكثير من قضايا سياسية تتعلق بشئون حكمهم وذلك عبر كبار مشايخ الطرق الصوفية بل أن الكثير من السلاطين والملوك مثل السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول المتوفى سنة ( 694/ 1295 م ) كان يقرب الكثير من كبار مشايخ الطرق الصوفية إليه بهدف تدعيم حكمه والوقوف ضد معارضيه وذلك من خلال بناء الكثير من الزوايا ( أي المساجد الصغيرة ) والمزارات الخاصة بالفئات الصوفية ليرضيهم ويكسبهم إلى صفه . وأغلب الظن أن العمارة الصوفية مثل الزويا ، أي المساجد الصغيرة ذات الشكل المربع كانت منتشرة انتشارا واسعا في مدينة عدن . وبمعنى آخر أن الثقافة الدينية بصفة عامة والثقافة الصوفية بصفة خاصة كانتا لهما تأثيرا واضحا على طراز العمارة في عدن أو بعبارة أخرى أن الثقافة الصوفية كانت شائعة لدرجة أنها شكلت وبلورت تفكير عدد من الأمراء والوجهاء والحكام والعلماء مثل مؤرخنا الكبير بامخرمة . هذا ما دفع الدكتور عبد الرحمن شجاع أن يقول في دراسته القيمة التي حملت عنوان (( ثغر عدن في قلادة النحر )) ـ للمؤرخ بامخرمة المتوفى سنة ( 947 هـ / 1540م ) ـ : " ولعل بامخرمة لم يخرج عما ساد وشاع في عصره من تصوف سواء في اليمن أو خارج اليمن . فقد صار الانتساب للتصوف جزءا من شخصية الأمراء والوجهاء والعلماء " وكان من البديهي أن تؤثر تلك الثقافة الصوفية على طراز أو شكل العمارة في مدينة عدن . [c1]خصائص عمارة مساجد الصوفية[/c] والمرء إذ نظر إلى مساجد عدن على سبيل المثال مسجد خواص والذي يطلق عليه ـ أيضا ـ مسجد الميدان أو في مسجد حسين الأهدل أو مسجد حامد في سوق الزعفران سيلفت نظره أثر الثقافة الصوفية على طرز العمارة في عدن ـ كما مر بنا سابقا ـ سنلاحظ التواضع الكامل الذي يلف كل مكان من أركان تلك المساجد الذين يمثلون صورة حية وصادقة لما كانت عليه منشآت الصوفية في عدن القديمة تلك المساجد المتلفعة برداء التواضع ، والوقار ، و تفيض من جنبات جدرانها نورانية ، وشفافية خالية من الزخارف , والنقوش والألوان الزاهية التي تشغل المصلي عن صلاته . وعلى الرغم من تجاعيد الزمن المنتشرة على وجهها ، مازالت شامخة تطاول الأيام والشهور والسنيين ، تبدلت الدنيا من حولها ولم تتبدل ، حملت على كتفيه تاريخ الصوفية الطويل في ثغر عدن المحروس . [c1]من أحياء عدن الشعبية [/c]ويذكر الأستاذ عبد لله محيرز عددا من الأحياء الشعبية والمشهورة في عدن والتي يعود نشأة بعضها إلى منتصف الدولة الرسولية وتطورت في عهد الدولة الطاهرية والذي شهدت عدن في عهدها رخاء كبير . وينوه إلى مسألة هامة في تسمية أهل عدن للأحياء الشعبية بأسماء الأولياء , والعلماء ، والفقهاء على سبيل المثال حي الحسين الذي يتربع فيه مسجد حسين الأهدل أكثر من خمسمائة سنة . ونتوقف عند ذلك الحي المشهور حتى يوم الناس هذا . لنرسم خطوط عريضة وسريعة عن تاريخه . فيقول عبد الله محيرز عنه : " حي الشاذلية : ويعرف الآن بحافة حسين . وقد روى المؤرخ حسين بن عبد الرحمن الأهدل في سيرة اخيه حسن عبد الرحمن أنه دفن في رباط الشاذلية . ولا يزال قبره في حافة حسين في مسجد يعرف باسم المهدلي ، وهو عم الولي المشهور حسين بن الصديق الأهدل المقبور في نفس الشارع " . ويشرح عبد القادر الحوت المحضار في دراسته بعنوان (( الجمع الأشمل لتاريخ مسجد الإمام حسين الأهدل )) بإسهاب تاريخ ميلاد مسجد الحسين الأهدل ومن بناه , ولماذا أطلق اسم حي الحسين بحي الشاذلية بخلاف ما قاله عبد الله محيز أن ذلك الحي سمي بالشاذلي لكونه كان مقرا للطائفة الصوفية الشاذلية ، فيقول بالنص : " ترجع عمارة مسجد حسين الأهدل إلى العقد الثاني من القرن التاسع الهجري ( القرن الخامس عشر الميلادي ) , وقد قام ببنائه الرجل الصالح الفقيه علي بن عمر الشاذلي اليمني صاحب المخى ( المخا ) ولذلك كان يسمى برباط الشاذلي نسبة إليه" . [c1]حي القاضي[/c]ومن الأحياء الشعبية المشهورة في عدن الذي ذكرها عبد الله والذي يرجع تاريخه إلى منتصف الدولة الرسولية وهو حي ( القاضي ) ، وكان يضم العلماء والفقهاء , والقضاة ، وعدد من المدارس الإسلامية وفضلا عن ذلك عدد من كبار التجار , ويقول عنه عبد الله محيرز : " وهو لا شك كحي الحسين حي طارئ كان جزءا من التوسع في منتصف الدولة الرسولية . وأكتمل في الدولة الطاهرية . أيام عزها ، ثم انكمش في أواخرها " وعن أقدم الأضرحة لشيوخ الصوفية في عدن هو" ضريح الشيخ جوهر الذي توفى في أواخر القرن السابع عشر الهجري ( القرن الثالث عشر الميلادي ) " . ونستخلص من ذلك أن المنشآت الصوفية في عدن كانت منتشرة بشكل كبير بسبب انتشار الثقافة الصوفية بين الناس من جهة والسلاطين والملوك والأمراء والحكام ، والأعيان من جهة أخرى . ولسنا نبالغ إذا قلنا أن العمارة عكست الحياة الثقافية والفكرية والأوضاع السياسية و الاقتصادية والأحوال الاجتماعية التي كانت سائدة في مدينة عدن الإسلامية .[c1]العمارة و بنو طاهر[/c]وفي عهد حكم سلاطين الدولة الطاهرية ( 858 ـ 923 هـ / 1454 ـ 1526 م) والذي شهدت عدن في عهدها رخاء اقتصادي كبير وخصوصا في عهد أعظم سلاطينها وملوكها الظافر عامر بن عبد الوهاب المقتول في سنة ( 923 هـ / 1517 م ) الذي حكم اليمن 29 عاما . فقد كان السلطان ( عامر ) محبا للعلوم والمعارف من ناحية ومهتما بالحياة الزراعية والاجتماعية من ناحية ثانية والعناية بميناء عدن بصفة خاصة من ناحية أخرى. ويصف الدكتور سيد مصطفى سالم إنجازاته في عدن ، إذ يقول : " فقد مد السلطان القنوات إلى داخل (( عدن )) حيث أقام هناك صهريجا ضخما لتخزين المياه ، وذلك لتوفير مياه الشرب بالمدينة ... وكان الطاهريون دون شك يدركون جيدا أهمية تجارة (( عدن )) وخاصة لأنهم كانوا أصلا ولاة عدن ، قبل أن يستقلوا بالحكم في اليمن , ولذلك أبدوا اهتماما كبيرا بالمدينة فأقاموا بها المنشآت المختلفة " . ويضيف قائلا : " ولم يقف أمر اهتمامهم (( بعدن )) عند هذا الحد بل كان السلطان عامر بن عبد الوهاب يتوجه أحيانا إلى (( عدن )) في موسم الرياح ليقف بنفسه على خروج القافلة البحرية إلى الهند ". وأغلب الظن أن عدن شهدت تطورا كبيرا في العمارة وخصوصا فيما يتعلق بصهاريج المياه الذي أكثر منها سلاطين بني طاهر خوفا من حصار عدن من قبل أعدائهم حتى لا يتعرضوا وهم وأهلها لهلاك العطش وبنوا ـ أيضا ـ الدور الفخمة و الحصون التي بنيت على قمم الجبال مثل جبل المنصوري المطل على ساحل أبين , و " جبل المنظر ، ويقع شرق عدن في مواجهة جبل صيرة ، ويقال أنه قطعة منه و بنيت دار المنظر فيه " . ولقد صرف سلاطين بني طاهر الكثير من الأموال الطائلة على بناء المساجد والمدارس الإسلامية وعلاوة على الأعمال الخيرية المختلفة . وأهتم ـ كذلك ـ سلاطين بني طاهر بحصون عدن مثلما فعل السلطان عبد الملك بن محمد المتوفى ( 933 هـ / 1527 م ) . فعندما استقرت له الأمور السياسية في عدن بعد وفاة الأمير مرجان عبد الله الظافري الذي كان يطمع بالاستقلال عن الدولة الطاهرية ، فأول الأعمال التي قام بها هو تفقد حصونها . ويبدو أن تشييد الحصون في عدن احتلت مساحة واسعة في تفكير سلاطين بني طاهر بسبب الأطماع الخارجية التي هبت على مناطق نفوذهم ومنها عدن . وهذا ما حدث بالفعل عندما حاول الفرنجة البرتغاليين غزو عدن في سنة ( 918 هـ / 1513 م ) . [c1]إحصاء مدينة عدن القديمة[/c]ويتحدث المؤرخ عبد لله أحمد محيرز إحصاءا يعود إلى ما بعد دخول العثمانيين إلى عدن بعامين ( 947 هـ / 1540م ) عن الدور والدكاكين إذ يقول : سجلت المصادر التراثية أحدى هذه الإحصائيات النادرة التي قلما اعتنت بها , وندر أن صادف الباحث مثلها وهي : أن الترك قاموا بإحصائية لعدن في سنة 947 : أي بعد سنتين من انتزاعها من الطاهرين . وورد ـ من ضمن ما ورد فيها ـ أن عدد ديار أهل عدن ( ألف ) دار . وعدد دكاكينها ( ألف ومأتي ) دكان " . ويضيف قائلا : " هذه النسبة التي تبدو ـ لأول وهلة مبالغة في التقدير هي في الحقيقة اصدق تعبير عن وضع المدينة الذي يظهر ـ بجلاء ـ نشاطها التجاري الذي تميزت به خلال تاريخها " . ويمضي في حديثه ، قائلا : " فإن كثرة دكاكينها يعكس كثافة السكان المتجول ، والطارئ إما من باديتها القريبة ، أو من العمالة التي يجذبها ميناؤها من بقية أنحاء اليمن أو الصومال أو الهند ، ويعكس بالتالي نشاطها وغناها . ولم تقتصر ـ هذه الظاهرة ـ على فترة معينة بل لازمتها في كافة الفترات التي ازدهرت فيها ". ونستنتج من ذلك أن عدن كانت مزدهرة بالتجارة ودليل ذلك كثافة السكان الطارئين إليها إلى جانب أهلها الأصليين وهذا يعني أن العمارة ـ أيضا ـ كانت مزدهرة , فمن غير المعقول أن يكون هناك حركة تجارية واسعة وعريضة في عدن ، دون أن تكون هناك نشاط معماري واسع فيها يواكب تلك الكثافة السكانية ـ وكذلك ـ يواكب الحركة التجارية النشيطة . والمحتمل أن تكون النزل أي الأماكن التي تستقبل المسافرين القادمين من خارج عدن كانت منتشرة بها وهي تدخل في إطار العمارة. ومن المرجح أن يكون التجار من غير أبناء عدن ، قد بنوا لأنفسهم دور ليستقروا فيها . وهناك رواية تقول أن ( دار السعادة ) لم تبن في عهد الأيوبيين في اليمن , وإنما التي شيدها تاجر مصري اسمه الخطاب سكن في عدن . وأن أصول أسرته مازالت ممتدة في تربتها حتى يوم الناس هذا . [c1]المستشفيات ( المارستانات ) [/c]والحقيقة أن المراجع التاريخية تصمت عن الحديث عن المستشفيات ( المارستانات ) في عدن . . ولكن من المحتمل أنه كانت هناك بعض المستشفيات ( المارستانات ) بسبب كثافة السكان في عدن وخصوصا في عهد الدولة الرسولية الذي كان بعض حكامها يهتمون بالطب حيث شاركوا في تأليف كتب في الأدويةالطبية لمعالجة عدد من الأمراض التي تصيب الإنسان . فيقال أن السلطان الملك الاشرف ممهد الدين عمر بن الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول المتوفى في سنة ( 696 / 1296 م ) ألف بعض الكتب في الطب , وشارك في بعضها وهي ( الجامع في الطب ) , و ( المعتمد في الأدوية المفردة ) وغيرهما من المؤلفات الطبية . ومثلما اتبع سلاطين بني رسول الدولة الأيوبية في تشجيع العلوم والمعارف وأصحابها من العلماء والفقهاء والأدباء والكتاب والشعراء , فإنه من المحتمل أن يكون قد نهجوا أسلوبهم في بناء المارستانات أو المستشفيات . والجدير ذكره أن الدولة الأيوبية اهتمت في مصر والشام والبلدان الواقعة تحت نفوذها بتشييد العديد من المستشفيات ( المارستانات ) لكونها كانت في حالة صدام وحرب دائمين ضد الصليبيين على أرض فلسطين . وأغلب الظن أن عددا من الأطباء قد قدموا إلى عدن للعمل فيها مثلهم مثل الأجناس المختلفة التي جذبتهم للعمل فيها لكونها كانت مزدهرة بالحياة الاقتصادية الواسعة . [c1]تخطيط أسواق عدن القديمة [/c]ولقد كانت عدن في التاريخ القديم من أقدم وأشهر أسواق العرب وفي العصر الإسلامي وخصوصا في العصور الوسطى انتعشت الحياة التجارية فيها انتعاشا كبيرا . والجدير بالذكر أن أسواقها استمدت ملامحها الأصيلة من تخطيط وعمارة المدن الإسلامية المزدهرة التي تعود إلى القرن الهجري الرابع ( القرن العاشر الميلادي ) ـ كما قلنا سابقا ـ ومازالت مواقع تلك الأسواق العتيقة في عدن مثل سوق الزعفران أو سوق الطعام أو سوق البز ( سوق القماش ) أو سوق الحراج ( سوق المزاد ) ماثلة للعيان ومازالت الحياة تدب فيها . فمن سماتها أنها مختصة في سلعة أو بضاعة معينة أي أن يكون لها أسواق مختصة في لون معين من ألوان النشاط التجاري ولكنها تجاور بعضها بعضا حتى يسهل على الناس اقتناء احتياجاتهم منها بسهولة ويسر ودون عناء . وسنضرب بعض الأمثلة عن تخطيط أسواق مدينة عدن التي سار تخطيطها على نهج تخطيط المدن الإسلامية في القرن ( الرابع الهجري ) القرن العاشر الميلادي . نورد ما ذكره الباحث خالد محمد مصطفى عزب في دراسته بعنوان (( تخطيط وعمارة المدن الإسلامية )) حول الأسس التي تقوم عليها تخطيط الأسواق في المدينة الإسلامية , إذ يقول : " هناك اعتبارات عديدة تحكم توزيع الأسواق على مختلف مناطق المدينة الإسلامية ، ابتداء من مركزها وحتى أطرافها ، كما تحكم نوعية المنشآت التجارية التي يمكن أن توجد بجوار بعضها بعضا .. وأهم هذه الاعتبارات : 1. حاجات السكان المتكررة والضرورية لبعض السلع ، تتطلب وجود أسواق معينة في جميع قطاعات المدينة دون استثناء ، مع تركز لها في قلب المدينة " . ومن بين تلك السلع أو الأسواق الذي ذكرها الباحث خالد عزب بضرورة أن تكون في وسط المدينة سوق الخبز. وفي عدن نلاحظ أن سوق ( الكدر ) وهو سوق الخبز في قلب المدينة ومثل ذلك سوق الطعام ، وسوق البز ( القماش ) ، وسوق الحراج ( سوق المزاد ). 2. وتحدث ـ أيضا ـ خالد العزب بأن هناك سلع وبضائع ينبغي لها أن تكون في أطراف المدينة . وهذا من ما نجده في سوق الزعفران والذي سنتكلم عنه بعد قليل بشيء من التفصيل . في ذلك السوق كان يباع الحطب ، والماء ، والتبن ، والفخار ، والذي كان في أطراف مدينة عدن القديمة . [c1]سوق الزعفران [/c]ومن الأسواق العريقة و المشهورة في عدن بل اليمن وهو سوق الزعفران المعروف منذ العصور الوسطى وخصوصا في عهد حكم الدولة اليمنية التي تناوبت حكم اليمن وعلى وجه التحديد في عهد حكم بني زريع . فقد كان سوق الزعفران ، مركزا تجاريا ، وموقعا اقتصاديا هاما بالنسبة لعدن وخارجها " فهو ملتقى طرق المدينة , ومجمع لأسواقها ، وكان فيها أكثر من صهريج يحتوي على المياه العذبة الصالحة للشرب ... إذ كان موقعا لبيع الماء, والحطب ، ومحطة لقواف الجمال القادمة من بادية عدن ( خارج عدن )" . وكانت تقع معارك حامية الوطيس بين أحفاد بني زريع بسبب الصراع على السيطرة على سوق الزعفران . ويبدو أن ذلك السوق كان يدر أموالا طائلة على من يبسط نفوذه عليه بسبب الإتاوات والجبايات التي تفرض على السلع والبضائع القادمة إلى ذلك السوق [c1]سوق الحدادين [/c]ويقال أن سوق الحدادين كان من الأسواق القديمة في عدن , وكان له شهرة واسعة النطاق في اليمن في صناعة سروج الخيول , وصناعة الأسلحة المتنوعة على سبيل المثال السيوف , والخناجر ، والرماح , والسهام . وقيل أن سوق الحدادين كان يطلق عليه في الأيام القديمة وخصوصا في عهد الدولة الصليحية ( سوق السلاح ). وقيل أن أفضل أشكال سروج الخيول المطعمة والمطهمة بالذهب والفضة كانت تصنع في سوق (( الحدادين )) , وكانت ترسل إلى خيول سلاطين وملوك , وأمراء ، وأعيان وحكام الصليحيين . وأما صناعة الأسلحة في سوق الحدادين . فقد اشتهرت في اليمن اشتهرا واسعا ـ كما قلنا سابقا ـ . وقيل أن الحرفيين أو صناع سوق الحدادين قد أتقنوا صناعة الأسلحة بصورة كبيرة . وأنهم أتقنوا تلك الصناعة على يد الحرفيين والصناع المصريين في عهد حكم الفاطميين الذي نزح الكثير منهم إلى عدن بسبب انتعاش الحركة التجارية بها . ولكن مع تعاقب الأيام والشهور والسنيين الطوال , تبدلت أحوال ذلك السوق ، وصار سوقا لا يمت بصلة إلى تاريخه العريق والمشهور بصناعة السلاح المختلفة وهي السيوف ـ كما قلنا سابقا ـ , والسروج الجميلة المطرزة بالذهب والفضة ولألي الثمينة التي كانت تجلب من أعماق بحر صيرة التي كانت تصنع على وجه الخصوص للسلاطين والملوك ، والأمراء ، والحكام , والأعيان سواء كان ذلك في عهد الدولة الصليحية أو غيرها من الدول التي أشرقت شمسها على سماء اليمن السياسي . [c1]أسباب ازدهار صناعة الأسلحة[/c]وقيل أن سوق الحدادين أو (( سوق السلاح )) . كان يشهد انتعاشا ملحوظا عندما كان حبل السياسة يضطرب اضطرابا شديدا في فترة من فترات حكم الدول اليمنية. وفي هذه المسألة ، يقول مؤرخ مجهول بما معناه : " أن سوق السلاح ـ يقصد سوق الحدادين الحالي ـ كان صناع الأسلحة المختلفة وخاصة صناعة السيوف والخناجر , والمتاريس ، والرماح يعملون بشكل دائم وذلك بسبب أن مرجان عبد الله الظافري المتوفى سنة ( 926 هـ ) عامل السلطان عامر بن عبد الوهاب في عدن طلب كمية كبيرة من الأسلحة من صناع السلاح في السوق لمواجهة الإفرنج البرتغاليين . عندما تأكدت الأخبار أن الفرنجة البرتغاليين الملاعين قادمين إلى غزو عدن ـ أخزاهم الله ـ ". ونستخلص من ذلك نتيجة مفادها أن سوق السلاح ( الحدادين ) استمر في عمله منذ بزوغ الدولة الصليحية وحتى عهد السلطنة الطاهرية . ومن المحتمل أن يكون ذلك السلاح يزاول مهنته وهي صناعة السلاح قبل ظهور الصليحيين بفترة ليست بقصيرة . ولكن لا نعلم على وجه اليقين هل واصل سوق الحدادين نشاطه بصناعة الأسلحة في عهد الفتح العثماني الأول لليمن سنة ( 1535 ـ 1638 م ) ؟ . [c1]دار السكة[/c]وكما هو معروف أن عدن كانت مركزا اقتصاديا وتجاريا هاما عبر عصرها الإسلامية ، فقد كانت أهم دار ضرب السكة ( النقود ) في عهد الدولة الصليحية وعلى وجه الخصوص في عهد بني زريع ، والدولة الطاهرية , وهذا ما أكد عليه الدكتور محمد صالح بلعفير في دراسته القيمة والممتعة الموسومة (( العملة والتداول النقدي بعدن في عصر الدولة الطاهرية )) ، إذ يقول : " إن أهميتها في ضرب النقود فاقت داري ضرب زبيد وتعز " . وفي سياق الحديث عن التداول النقدي في عدن يشير إلى مسألة حوانيت الصرافة التي انتشرت في عدن انتشارا كبيرا , إذ يقول : " فقد تحولت عدن إلى مركز تجاري عالمي ، وإلى سوق حرة انتعشت في ظلها حوانيت الصرافة " . ولكننا لم نعلم على وجه اليقين أين كان موقع ومكان دار ضرب السكة ( النقود ) في عدن؟ هل كانت في قصر الحاكم أو مكان آخر فالمراجع التاريخية لا تشير من قريب أو بعيد حول مكان دار ضرب السكة . ولا نعلم ـ أيضا ـ على وجه التحديد ،أين موقع حوانيت الصرافة التي كانت منتشرة في المدينة ـ حسب تعبير محمد بلعفير ـ . وربما يكون سوق الطويل التي تصطف على جانبيه حاليا محلات الصرافة هو المكان القديم الذي كانت فيه حوانيت الصرافة في عهد الدولة الطاهرية . [c1]سوق البز( سوق القماش ) [/c] وفيما يخص سوق البز ( سوق القماش ) كان من أقدم وأشهر الأسواق في عدن بل وفي اليمن جمعاء . ولقد روت المراجع التاريخية جانب من نشاطه , وما احتوته من أقمشة من كل لون وشكل بل أن بعض الأقمشة الغالية الثمن كانت تحاك خيوطها من الذهب ، والفضة ، واشتهر ذلك السوق بالحرير الهندي الغالي الثمن . وكان سوق البز يرد إليه مختلف الأقمشة منها على سبيل المثال القماش الدمشقي الذي كان يأتي من سوريا وهو من أفخر الأقمشة ــ حينذاك . وكان ذلك السوق يجذب التجار القادمين من مصر والمغرب , وبعض البلدان العربية و الإسلامية لشراء كميات كبيرة من الأقمشة وبيعها في مصر أو في أوربا . فقد كانت عدن ـ كما مر بنا سابقا ـ همزة وصل بين الشرق والغرب ـ والمطلة على طريق السويس وبومبي . ومازال هذا الطريق البحري يعمل بكفاءة عالية حيث تحمل على متن السفن السلع والبضائع المختلفة من ( عين السخنة بالسويس إلى عدن ) مباشرة حتى يوم الناس هذا. [c1]الهوامــــش [/c]_ الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ( 476 ـ 627 هـ / 1083 ـ 1229 م ) ، الطبعة الثانية 2004 م . دار جامعة عدن للطباعة والنشر ، عدن ـ الجمهورية اليمنية _ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية في اليمن ، الطبعة الأولى ، 2003 م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر . _ عبد الله أحمد محيرز ؛ صيرة ، الطبعة الأولى 1992 م دار الهمداني للطباعة والنشر ، عدن ـ الجمهورية اليمنية ـ . _ عبد القادر بن عبد الله بن علي الحوت المحضار ؛ الجمع الأشمل لتاريخ مسجد الإمام حسين الأهدل ، دراسة طبعت على الأستنسل . _ خالد محمد مصطفى عزب ؛ تخطيط وعمارة المدن الإسلامية ، كتاب الأمة ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ قطر ـ . _ الدكتور عبد الرحمن الشجاع ؛ ثغر عدن في قلادة النحر من منتصف القرن التاسع إلى منتصف القرن العاشر الهجري . ندوة عقدت في جامعة عدن من 27 وحتى 28 ديسمبر 2005 م ._ الدكتور محمد صالح بلعفير ؛ العملة والتداول النقدي بعدن في عصر الدولة الطاهرية ، ندوة عقدت في جامعة من 27 وحتى 28 ديسمبر 2005 م .