لم يحدث أن عكست حادثة حالة الالتباس التي تعيش فيها الأمة العربية قدر واقعة مقتل الزرقاوي وما تبعها من وقائع كان أهمها ـ في ما يهمنا ـ قيام أربعة من أعضاء مجلس النواب الأردني بالمشاركة في "عرس" "استشهاد" زعيم القاعدة في بلاد الرافدين. فمنذ فترة ليست بعيدة كان الرجل قد قام بواحدة من أبشع الأعمال الإرهابية التي قام في واحدة منها بتفجير حفل زفاف في أحد فنادق عمان، فانقلبت الزيجة إلى جنازة، ولم يبق من فرحة إلا أشلاء وأجساد وأرواح ممزقة. ولمن نسي فقد كان من بين المدعوين المخرج السوري الأشهر مصطفى العقاد الذي اشتهر فيلماه »محمد رسول الله« و »عمر المختار« باعتبارهما أفضل الأعمال الفنية السينمائية قاطبة التي تشرح الدين الإسلامي وتشيد بالمقاومة العربية والإسلامية ضد الاستعمار. ولكن الضربة جاءت في مقتل، ومات المخرج ومعه عدد غير قليل من المناضلين الفلسطينيين الذين شاركوا في المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل خلال فترات مختلفة.لقد كتبنا ـ وآخرون ـ عن الحادث في حينه، ولكن مقتل الزرقاوي أعاده إلى الأذهان مرة أخرى لكي يكون مثالا صافيا نقيا على الالتباس في الذهن العربي حول قضايا المرحلة حينما طرح السؤال الجوهري: إذا كان الزرقاوي شهيدا يستحق عرسا يهنأ فيه، وليس جنازة يعزى فيها، فماذا يكون حال هؤلاء الذين قتلهم زعيم القاعدة، سواء كانوا من أهل الأردن أو أهل العراق، وسواء كانوا من السنة أو الشيعة أو من أهل الكتاب، وهل يمكن اعتبارهم شهداء عند ربهم يرزقون، أم أنهم محض ضحايا ماتوا في حوادث لا تختلف كثيرا عن حوادث السيارات في ميدان مزدحم؟ وإذا كان هؤلاء شهداء أيضا، فهل معنى ذلك أنه من الجائز تماما أن يكون القاتل والمقتول شهيدين على قدم المساواة، أم أن ذلك نوع من استخدامات »العوام« ـ كما قال واحد من زعماء حركة الإخوان المسلمين في الأردن ـ حيث تقتصر الشهادة فقط على المقاتلين لقوات الاحتلال الأجنبية؟والحقيقة أن هذه الحالة من الالتباس ليست جديدة بالمرة، وهي حالة مصاحبة دوما لحالات الفتنة الكبرى التي يختلط فيها الحق بالباطل حتى يغيب الفارق بينهما؛ وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تقاتل عدد من المبشرين بالجنة في ما بينهم حتى جاء التحكيم بالقرآن، فإذا الدماء تفيض أنهارا ويستحيل معها دخول القاتل والمقتول في النار. بل لعل ذلك هو التعريف الدقيق للفتنة حيث ينقسم الناس على الحق والباطل معا، ويختلفون على الحس السليم، ويذهب كل منهم في اتجاه شيعا وأحزابا، ولا يبقى بعد ذلك إلا عداوات وأحقاد وكراهية لآخر يعرف بأنه كل من ليس معنا. فالعالم لا ينقسم إلى "فسطاطين" يختلفان ويتناقضان على أمور شتى، ولكنه ينقسم إلى فسطاط فيه جماعة، وفسطاط آخر فيه كل من لم يلحق بالجماعة الأولى. وكان ذلك تحديدا هو ما جعل المصريين في طابا، والأردنيين في الأردن، والعراقيين في العراق، والسعوديين في السعودية، والمسلمين في كل البلاد الإسلامية، أهدافا للقتل والتمثيل مثلهم مثل الأعداء الأمريكيين المحتلين للعراق، والأعداء الصهاينة المحتلين لفلسطين.وهنا يظهر تحديدا التناقض والالتباس التي تقع فيه حركة الإخوان المسلمين ومن والاها من الكتاب والمفكرين، فبحكم الرغبة في المشاركة في العملية السياسية الرسمية السلمية فإنها تريد الوقوف وسط الناس، أو وسط فسطاط الأحزاب والأعراس والجنازات، وباختصار حياة الناس العادية؛ ولكنها في نفس الوقت لا تريد أن تكون بعيدة عن الفسطاط الآخر الذي يمسك بالبندقية في يد، والقرآن والشريعة في اليد الأخرى. وهنا تصبح حقيقة الالتباس جلية في أن تكون في فسطاطين في آن واحد، وتحاول التغلب علي هذا الوضع الصعب الملتبس المتناقض من خلال سلسلة من التركيبات اللغوية، فإذا بها تجعل الغامض أشد غموضا، والملتبس أكثر التباسا، وفي كل الأحوال فإنها لا تقول لنا من الشهيد حقا، ومن صاحب العرس، ومن صاحب الجنازة، ومن القاتل ومن المقتول.فالحقيقة التي لا مراء فيها أنه خارج فلسطين حيث لا تزال منظمتا حماس والجهاد الإسلامي تحافظان حتى الآن على حدود المعركة مع إسرائيل ضمن فهمها الاستراتيجي للقضية؛ فإن الغالبية الساحقة من عمليات الجماعات الإسلامية المسلحة الأخرى في العالم الإسلامي وجهت جهودها الرئيسية ضد المسلمين على كافة توجهاتهم وعقائدهم. وبإحصاء عدد العمليات المسلحة، وأعداد القتلى والجرحى والمخطوفين والمعذبين ومقطوعي الأطراف والمشوهين كانوا من العرب والمسلمين. وسواء كان الحال خاصا بالجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، أو كان خاصا بالجماعة الإسلامية المقاتلة في الشيشان، أو بجماعة طالبان وحلفائها في أفغانستان، أو الجماعات الإسلامية التي قامت بعمليات قتل وإرهاب في مصر والسعودية وتركيا فإن أهدافها الرئيسة لم تكن عدوا محتلا، بل كانت دوما ضد المواطنين المحليين بهدف إخضاع المجتمعات العربية والإسلامية لنمط معين من الحكم والتحكم الاجتماعي والثقافي لا يخضع للمساءلة أو التقييم.وحتى تكون الأمور واضحة وغير ملتبسة فإن التأييد مطلوب لكل أنواع مقاومة الاحتلال الأجنبي، شريطة أن تكون هناك هيئة ما تلقى التوافق أو الإجماع بين المواطنين من ناحية، ولديها استراتيجية معلنة للكفاح وصورة للمستقبل تسمح بالمشاركة السياسية. ولا يكفي إطلاقا أن يكون مشروع الزرقاوي المعلن هو مقاومة الاحتلال الأمريكي، ثم تكون النتيجة هي قتل العراقيين، والأردنيين، واعتبار البرلمان نوعا من »الشرك«، ثم بعد ذلك يصبح الزرقاوي شهيدا يستحق عرسا يقف على أبوابه أعضاء منتخبون في مجلس النواب الأردني. وببساطة فإن الأصل في مشروعات المقاومة هو حبها لشعبها وأهلها وناسها واستعدادها للدفاع عنهم ضد المحتل وضد كل الجماعات التي تحاول استغلال فترة التحرير لكي تصفي حسابات عرقية واثنية. وإذا حدث ذلك فإنه لا يعد أبدا نوعا من الممارسات الخاطئة أو المستنكرة ـ على حد تعبير كاتب مرموق ـ وإنما هي خيانة لا مراء فيها للأمة وخروج لا شك فيه عن الدين.ولكن ربما كانت المعضلة الكبرى في الفكر العربي أن السائد في الجماعات السياسية القومية والإسلامية، وتعبيراتها الفكرية في الصحف وأدوات التعبير المختلفة، هي أنها تكره الأعداء والمحتلين أكثر مما تحب شعوبها وأهلها. ولذلك فإن قيام الزرقاوي بقتل جماعة من الأمريكيين يكفي شفاعة له إذا قتل المئات من المسلمين، وقيام جماعة من الإرهابيين بقتل عدد من »اليهود« يعطيهم الحق في القتل "الخطأ" لعدد أكبر من المصريين في طابا. وحتى لو غاب »اليهود« والإسرائيليون كلية من شرم الشيخ أو من ذهب فإن فضيلة المحاولة تغفر لهم قتل المصريين الذين تصادف وجودهم على أرض مصر!وبصراحة فإن حالة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن تضع جماعات الإخوان كافة موضع الاختبار في فك الالتباس بين المقاومة والإرهاب، وبين حرب التحرير والاستقلال ومعارك بناء الأوطان. إنها ساعة للفرز والتدقيق، للوضوح وليس للغموض، للبقاء ضمن فسطاط الناس أو العبور كلية إلى الفسطاط الآخر من دون التباس وبهلوانيات وأكروبات فكرية. وبصراحة فإن المرحلة لا تسمح بالتباسات تجعل القاتل شهيدا، والإرهاب مقاومة!---------------------------------[c1]نقلا عن جريدة (الشرق الأوسط) اللندنية
عن الإسلام السياسي : محاولة لفك الالتباس عن الناس..!
أخبار متعلقة