مع الأحداث
مرام عبد الرحمن مكاويمنذ أن كنا تلميذات صغيرات على مقاعد المدارس الابتدائية، ونحن نصفع بهذه المقولة: “ناقصات العقل والدين”! تقولها لنا حتى النساء “المغسولة أدمغتهن” حتى كرهت المرأة أحياناً نفسها.طبعاً المقولة مجتزأة قسراً من حديث نبوي شريف، له مناسبته ومعانيه الواضحة المحددة، التي قرر المجتمع “الذكوري” تجاهلها.اليوم أضع بينكم عدة قصص واقعية، أبطالها يعيشون بيننا وبطلاتها نساء على سلم العشرين، في محاولة لأن نلقي نظرة بمجهر مكبر على صور طالما حاولنا أن ننكر وجودها عندنا.في القصة الأولى، نرى الجراح الشاب، خريج جامعة (هارفارد)، الذي يشبه بطل رواية (مستر جيكل ودكتور هايد)، فما أن يدخل بيته حتى يتحول هذا “ الجنتلمان” إلى رجل عنيف بذيء ومتسلط ومتعنت! يذل زوجته، يطلب منها أموراً تحط من كبرياء أي إنسان، ناهيك عن الضرب والشتائم التي تجاوزت مرحلة القذف بكثير. ابنه الصغير يسأله بلكنته الأمريكية: “ لماذا تعذب ماما؟” فيأتيه الجواب: “ لأن أمكم شريرة..وتستحق التعذيب”. ولكن هذه الأم الشريرة رفضت أن تبلغ الشرطة، رغم أنها كانت قادرة على أن تلقنه درساً لن ينساه، ففي أمريكا لن تقول الشرطة:” لا عادي..هذا زوجها”، بل ستضعه في زنزانة مع المجرمين وقطاع الطرق. وفي أوروبا وأمريكا الرجل العنيف الذي يستقوي على الضعفاء من النساء والأطفال هو أحقر الرجال، يعاقبه القانون ويلعنه المجتمع، في حين أنه في بعض البلدان الشرقية “رجّال”!في القصة الثانية، نرى الشاب المعجزة، الذي أنهى مرحلة الدكتوراه في زمن قياسي، خريج “كامبرديج” والذي أثار بنبوغه اهتمام الكثيرين، هذا الرجل هو ذاته الذي حول زوجته إلى بقايا امرأة، بتحطيمه اليومي لها، بتهديدها الدائم بالطلاق، بإفشاء أدق تفاصيل حياتهما الخاصة للناس، وبالذي يختمها بأن يتركها إلى غيرها، فالأخرى تناسبه مكانة ونضجاً! والرجل المثقف سيغضب ذات مرة ويوقف زوجته المريضة في منتصف الطريق إلى المشفى، ويطردها خارج السيارة. ماذا؟ “ كأنني أسمع من يقول إن الناس تزوج بناتها لتسترهن وتحفظهن، ترى ماذا لو أن أحدهم في تلك الليلة خطف تلك الشابة الحسناء وهي ضعيفة وعاجزة عن المقاومة ابتداء؟!في القصة الثالثة، نجد الفتاة اللامعة، النجمة الصاعدة، تلك التي يريدها كل الرجال من حولها فقد جمعت علماً وأدباً وخلقاً وديناً ونجاحاً، كان لديها كل شيء إلا العائلة والحب، وحين رأته توسمت فيه خيراً وظنت أن أيام المرارة وعذابات الطفولة ستنتهي مع رجل يقدرها، وهو المهندس خريج جامعة البترول. هذا الرجل لم يختلف عن زميليه الآنف ذكرهما كثيراً، إلا ببخلٍ زائدٍ عن الحد، ماذا يعني ألا يدفع رجل إيجار المنزل أو الفواتير؟ ولا حتى فاتورة الطعام في مطعم؟ ولا رواتب العاملين في المنزل؟ ماذا يعني أن يستعيد هذا الرجل مهر الزوجة ليؤثث منزل الزوجية بالرغم من أنه لم يتكفل بمصاريف العرس؟ ماذا يعني أن يرفض أن يأخذ ابنه الرضيع للطبيب؟ أو أن يشتري دواء ثمنه 200 ريال؟ ماذا نستفيد من رجل يضرب ويهين ويحقر الزوجة وأهلها على أسس مناطقية وعنصرية وفوقية باعتباره هو “ابن الحسب والنسب” في حين أنها ابنة الرجل الشريف البسيط؟ بل أي رجولة هذه حين يطرد رجل زوجة شابة من بيتها فتهيم على وجهها قبل أن تؤوي لاحقاً إلى شقة مفروشة؟ كأني أتذكر مثلاً يقول: “ ظل راجل ولا ظل حيط”، وأعتقد أنه حان الوقت لنعتذر للحائط!ما يلفت النظر في هذه القصص جميعاً هو هذا المستوى المادي والاجتماعي والعلمي العالي الذي تنتمي إليه هذه الشخصيات غير السوية من الرجال، فإذا كان هذا هو حال النخبة، فماذا يحصل للنساء هناك في المدن والقرى والصحاري المنسية؟أما موقف الأهالي فأسوأ، فبدلاً من أن يعتذر الأم والأب على أنهم انتجوا لنا هذه النماذج البشرية المريضة، ويقفون وقفة أناس أسوياء، خاصة في أمور لا خلاف فيها مثل الطرد والضرب والقذف والتعذيب وحتى الخيانة الزوجية بالحرام أو ما يسمى بالحلال من شاكلة المسيار، فإنه يظلون يدافعون عن طفلهم المدلل، رافضين تحميله أية مسؤولية، وطالبين من الزوجة وأهلها الصبر لأن “بنت الرجال تصبر”.والحقيقة أن للصبر حدودا، فإذا كانت المرأة لا تجد رجلاً يصرف عليها، وفوق ذلك لا يوجد احترام ولا إشباع عاطفي ولا إنساني، فلم الصبر؟! وأعتقد أن المرأة يمكن أن تغفر للرجل أموراً كثيرة إلا البخل، فهو من أكبر خوارم المروءة للرجل. والقوامة والإنفاق صنوان، فكيف نريد من زوجة أن تطيع زوجها وتعامله كقائد، وهو لا يضع في بيته قرشاً ولا في فمها لقمة؟ أتذكر هنا مثلاً حجازياً كانت تردده الجدّات: “لو حأصرف من كيسي..ما قبلتك عريسي”.يتحدث الكل عن العنوسة وعن الإحصان، ويلعنون غلاء المهور وتعنت الأهل ودلع البنات، وسُنت التوصيات التي فتحت دكاكين الزواجات: “مسيار، مسفار، صيفي، شتوي، فرند، متعة “ من أجل أن نقضي على المشكلة العظمى، أما ما يحصل بعد الزواج من طلاق أو حياة تظللها الكآبة والتعاسة والعنف والأحزان، فلا تلقى الاهتمام ذاته.نحن نريد أن نزوج حتى الأطفال لنحميهم من الزنا، وكأن كل المتزوجين والمتزوجات بعيدون كل البعد عن الحرام، فالعفة في العقل والقلب المؤمن، والزواج يساعد ولكنه لن يزرع الخوف من الله أو ينزعه. قبل أن نحاول حل مشكلات الطلاق علينا أن نعود لبدايات هذا المشروع، للشركاء الداخلين فيه، هل هما قادران على النهوض به؟وباعتبار أن الرجل هو رب الأسرة وعمودها وسندها وراعيها، فهل عملنا على تربية هؤلاء الرجال؟ الواقع يقول إن الرجال جنس مهدد بالانقراض، فلدينا الآن على ما يبدو غالبية من نساء وأطفال وذكور يصنف بعضهم أيضاً تحت الصنفين الآنفين، ومجموعات صغيرة من الرجال الأكبر سناً.فقيم الشرف والكرامة والمروء والغيرة والإباء والشجاعة وحفظ العهود والمواثيق، والتي طالما تغنى بها فطاحل الشعراء باعتبارها قيم الرجولة تبدو في طريقها للزوال.الأسرة تنهار، والمجتمع مهدد، وأطفال المطلقين والمطلقات سيصبحون قريباً الأكثر عدداً. فالتشريعات التي تحفظ حقوق الأطراف المختلفة يجب أن تُفعّل، والعقوبات على المجرمين يجب أن توضح وتطبق، فعقوبة من يعتدي على زوجته يجب أن تتساوى مع عقوبة من يضرب جاره أو زميله، فكلاهما مواطنان، معتدٍ ومعتدى عليه، وليس كخلاف أسري لا دخل للشرطة أو الدولة فيه. ووجود قانون الأحوال الشخصية صار ضرورة ملحة.وحان الوقت لنستبدل مناهج الدراسة التي تقول إن “المرأة فاسدة ومفسدة ويجب الأخذ على يدها” والتي تدرس للبنين، بمناهج تقول إن خياركم خياركم لنسائكم.. وبأن النفقة على الزوجة والأبناء أفضل من الإنفاق على سبيل الله، أمورٌ لم يأتِ بها الغرب وإنما أرساها الإسلام العظيم.والأمر نفسه بالنسبة للفتاة، التي حان الوقت لكي نعيد لها ثقتها بنفسها، ونعلمها أن كون زوجها لا يعطيه الحق لأن يصبح فرعونا مقدساً وسيداً مبجلاً، فهو ليس نبياً معصوماً وهي ليست جارية ولا نجساً ولا عارا ولا شراً ولا ناقصة عقل ودين بالمعنى المتعارف عليه. فالإنسان يعيش مرة واحدة في هذه الحياة الدنيا..ويستحق أن يعيشها بسعادة واحترام..وقبل ذلك بكبرياء..بكرامة.[c1]* عن/ صحيفة “الوطن” السعودية[/c]