قصة
ما إن تأكدت من نومه وشعرت بانتظا0م تنفسه واسترخاء جسده، حتى أبعدت عني ببطء يديه- اللتين كانتا تعتصرانني بقوة وقسوة.. خفت أن يشعر بتحرري منه فيجرني إليه بعناد وبشدة أكبر فتبدأ بيننا مشاجرة من تلك المشاجرات التي لا تنتهي عادةً إلا بألفاظه الجارحة التي أصبح يسمعني إياها ليل نهار.. ناسياً أو متناسياً أنني أعاني مثله وأن الذي يعتمل في صدري لا يقل عما يشعر به..ارتديت ثيابي وألقيت نظرة عليه لأتأكد مرة أخرى من استغراقه في النوم قبل أن أغادر الغرفة وأتجه إلى صالة المعيشة الواسعة علني أجد هواءً أملأ به رئتي وأجدد نشاطي.. لكن الغرفة بكل وسعها كانت ضيقة على صدري.. ليست هذه الغرفة فقط.. البيت كله.. أشعر بجدرانه تضغط على أنفاسي.. أحس بها تقترب من بعضها شيئاً فشيئاً لتطحنني في يوم قريب.. ألقيت بجسدي على أقرب كرسي محاولة تمالك نفسي..بعد وقت قصير هدأت، وكأني أزحت جاثوماً يقبع على صدري.. لكني لم أستطع التخلص من الصداع الذي يكاد يفتك برأسي منذ أن رجعنا من زيارة الطبيب اليوم..ما إن انتهينا من الفحص وجلسنا أمام طاولة الطبيب العريضة المكتظة بالأوراق والكشافات والمواعيد وهو يتفحص بعضاً منها في يده، حتى رفع نظره إلينا وقال: لا شيء.. لا سبب يمنعكما من الإنجاب!! نظر إليه (عماد) بامتعاض:إذاً ما المشكلة إن لم يكن هناك سبب؟!أجابه الطبيب بهدوء:لا داعي لكل هذا القنوط.. مازلتما صغيرين على هذا اليأس..أجابه (عماد) بتوتر أكبر:إنها أربع سنوات يا دكتور.. وأربع سنوات ليست بالقليلة..بابتسامة العارف لما يقول:أمثالكما كثر.. فكم من حالات متشابهة انتهت بإنجاب العديد من الأطفال بعد سنوات عدة..بهياج أكبر:نحن لا نريد أطفالاً.. طفل واحد يكفي.. طفل واحد..اتسعت ابتسامة الطبيب وهو يقول:هذه الأمور بيد الخالق.. ووحده يعرف الأسباب، فلا تبتئس.. * * * كلما زاد من سرعة السيارة، ازددت أنا انكماشاً فيها.. كانت السيارة تلتهم الطريق بنهم مخيف، والعجيب أن السيارات الأخرى كانت تفسح لها المجال وكأنها تعرف الحالة التي تنتاب (عماد) بعد زيارة الطبيب والتي نواظب عليها منذ مابعد زواجنا بأشهر قليلة..بعصبية قال:لماذا!! لماذا نحن بالذات!! كل أقراننا من تزوجوا معنا ومن تزوجوا من بعدنا أصبح لديهم أطفال! فلماذا نحن!!نظر إلي بطرف عينيه: هل أنت متأكدة من أنك لا تستخدمين أية موانع؟! لم أرد عليه.. نفس السؤال بعد كل زيارة.. إن لم يمل هو من السؤال، فقد مللت أنا من الإجابة..التفت إلى النافذة.. سرعة السيارة جعلت الناس والبيوت والشوارع مبهمة كأنها رسوم مُحيت بممحاة قديمة متسخة حجبت عني الوضوح.. كحياتي التي بدأت تنمحي أمامي بسبب هاجس اسمه الإنجاب..أسندت رأسي إلى المقعد وأغمضت عيني.. * * * سيدة (سلوى)!!التفت إلى الطبيب الذي ناداني قبل أن نخرج من عيادته وقد كان (عماد) يسبقني بخطوات..هَمسَ:ليست الأسباب العضوية وحدها ما قد تمنع الإنجاب.. هناك أيضاً الاضطرابات النفسية..باستغراب سألت:ماذا تعني!!أعني أنه.. إن كنت تعانين من أسباب نفسية أو رفض داخلي يمنع هذا الإنجاب، فبإمكانك مراجعة أحد الأطباء النفسيين.. وإذا أردت أستطيع أن أدلك على أحدهم..فتح درج مكتبه وأخرج منه كرتاً صغيراً.. وهو يمده إلي قال:هو شخص موثوق به.. فلا تقلقي.. * * * كدت اصطدم بزجاج السيارة الأمامي بسبب انحرافها بشكل مفاجئ، الأمر الذي جعلني التفت إلى (عماد) بعصبية:هدئ من السرعة يا (عماد) أم أنك تريد قتلنا!!كان يتنفس بسرعة تدل على مدى ما يعتمل في صدره.. للحظة أردت أن أضع يدي على كتفه كمحاولة ضعيفة لتهدئته.. لكن حالته كانت أشبه بالقنبلة الموقوتة التي تنتظر أية إشارة مهما كانت لتنفجر فيها بكل قوة.. ولا أنكر أني خفت من أن أكونها.. لذا آثرت الصمت..* * * ما الذي يجعلك تقول لي هذا!! لماذا توجه إلي هذا الكلام؟!الأمر واضح يا سيدة (سلوى) فبينما زوجك متوتر بهذا الشكل، تبدين أنت في كامل هدوئك وكأن أمر الإنجاب لا يعنيك.. حتى سؤال واحد لم تفكري في أن تسأليني إياه.. هذا جعلني أتساءل إن كانت السيدة (سلوى) لها رغبة في الإنجاب أم لا!!* * * شعرت بضيق الغرفة.. نهضتُ من الكرسي وفتحت النافذة الكبيرة المطلة على الحديقة الأمامية للبيت.. لو أن الله قد رزقني بطفل أو اثنين.. أما كانت هذه الحديقة مكانهما المفضل!!هل فتح هذا الطبيب أموراً كنت غافلة عنها!!أنا فعلاً لم أتساءل عن سبب عدم الإنجاب خاصة عندما أظهرت كل الفحوصات سلامة كلينا.. كنت أفعل كل ما يأمرني به (عماد) وأذهب معه لأي طبيب أو اختصاصي يسمع به.. وعلى عددهم الكبير خلال هذه السنوات لم اختر أو أستشر أي طبيب.. كلهم كانوا من اختيار (عماد).. وكأن الموضوع موضوعه هو.. والأطفال أطفاله هو..اضطرابات نفسية!!“ إذا عرف الداء، عرف الدواء”وحدك من أشعل هذه الاضطرابات في نفسي.. لكني لم أكن أتخيل أنك قد تصبح مانعاً بيني وبين أن أنجب وأن أصبح أماً.. حاولت نسيانك والمضي في حياتي ومستقبلي مع زوجي.. ولم أقصر في واجباتي تجاهه.. كنت له- بشهادته هو- نعم الزوجة والمدبرة الحكيمة عنده وعند أهله.. لكن حياتي الخاصة كانت جافة.. باردة.. كنت أشعر بهذا وأراه في عيني (عماد).. ظلت البرودة تلاحقني حتى منزل الزوجية المستقل.. لم أستطع أن أشعر معه بالدفء الذي تحكيه صديقاتي المتزوجات.. ولم أجد الألفة التي كنت أراها بين والديّ..لا شيء..مجرد خواء حتى وأنا معه تحت سقف واحد، يجمعنا سرير واحد.. أشعر معه بالغربة كأنني مع رجل غريب لا أعرفه.. ولا أرغب بامتداد لحياتي معه..“كل هذا سيزول عندما تنجبين.. ويملأ عليك الأطفال كل الفراغ الذي تشعرين به”نصيحة كل من سبقنني عمراً وخبرة..وحتى هذا لم أحصل عليه..لم نترك طبيباً إلا وزرناه.. والنتيجة واحدة.. حتى يأتي هذا الطبيب ليفضحني أمام نفسي ويقول اضطرابات نفسية..أهي عوامل نفسية! أم شعور بالذنب من خذلاني وضعفي واستسلامي أمام إصرار أهلي بالزواج من (عماد) وبين انتظارك إلى أجل غير معلوم!!أعطيتك الأمان في الذهاب وتخليت عنك عند أول فرصة وجدها أهلي معقولة وحسبتها أنا كذلك بضعفى..فما إن سافرت حتى بدأت الأفكار السوداوية تنتابني..ماذا لو لم تأتِ؟!ماذا لو تزوجت هناك ونسيتني؟!لم أفكر يوماً بالتعب الذي تلاقيه.. أو بالظروف التي تواجهها هناك..وكلما تأخرت رسائلك قليلاً، تعمق هذا الشعور بداخلي.. حتى جاءت ما حسبتها فرصةً فاعتبرت حدسي هذا بمثابة دليل على هجرانك لي ومسوغاً هشاً لقبولي الزواج والتخلي عنك.. لم استطع أن أدافع عن حب اعتقدت أنه سيهزم أية عراقيل قد تقف أمامه..حب بنى آمالا وأحلاما في يوم ما..شعرت بلفحة هواء باردة.. أغلقت النافذة وبحثت بعيني عن مكان يحتوي ضيقي فلم أجد.. فتحت التلفاز وتنقلت بين المحطات علّني أجد ضالتي التي أضعتها ولا أعرف متى.. كان بإمكاني أن أرفض.. أن أختلق أية أعذار.. أن أعيش على أمل انتظارك أرحم من هذا البرود الذي غلفت به حياتي..هذه فرصة عمرنا قد جاءت إليك.. فلا تضيعها بترددك..بنبرة قلقلة أجاب:ربما ولكن.. قد أجد فرصة هنا دون أن أسافر!تعرف أن هذه فرصتنا الوحيدة لتتحسن أحوالك وتخطبني في أسرع وقت.. ثم ما الفرصة التي قد تجدها هنا!أخاف أن أذهب وأتركك لوحدك..ضحكت وأنا أقول:لوحدي! لا تقلق فأنا أعرف طريق العودة إلى البيت جيداً ولن أضيع..حاولت أن تغتصب ابتسامتك اغتصاباً..أكنت تعرف بضعفي ولم تجد الجرأة لتفصح عنه أمامي حينها!أكنت خائفاً من لحظة الخذلان تلك!أم كنت متأكداً منها!!لا أدري ما الذي جعلني أتصور عدم مجيئك.. كانت مجرد مبّرر و حيلة أقنع بها النفس التي لم تستطع الصمود أمام وجاهة ومال (عماد)، ولأتنصل من وعد التزمت به، وظننت للحظة أنني أستطيع الوفاء به..أي حب هذا الذي ادعيته وصدقته أنت!!سمعت بعودتك بالصدفة من إحدى قريباتي ثم علمتُ بعودتك السريعة بدون سبب- في نظر الجميع- إلى ذلك البلد الغريب الذي أصبح موطنك كما قلت..وكلانا نعرف لماذا.. فكيف ستستطيع العيش في بلد خذلك فيه من كنت تظن أنه أقرب الناس إليك!! كيف!!لم تصلني بعدها أية أخبار عنك.. ولم أحاول تقصّي أي منها.. التفت إلى بيتي وزوجي كما يقتضي الواجب علي..“ المال لا يشتري السعادة، ولكنه يمنح الاستقرار”مقولة كنت أتشبث بها قبل أن أعرفك وعدت إليها بعد أن خذلتك..ابتسمت بمرارة..فأنا لم أحصل على هذا أو ذاك..عدم الإنجاب دمر حياة زوجي وأفقدني ثقتي بأمومتي أمام أهله وأهلي..(عماد) أصبح عصبياً لا يتحمل كلمة من أحد.. منعزلاً أغلب الوقت.. لا يتحدث إلا لماماً.. والسرير أصبح اللغة الوحيدة التي تجمعنا والتي يستخدمها دون مراعاة لأية مشاعر بيننا..هذا غير الكلمات التي تصلني من هنا وهناك..“ تزوج يا (عماد).. والنصيب الذي لم تجده مع (سلوى) قد تجده مع غيرها مادمت لا تشكو أي شيء عضوي..”ولا أدري ما الذي يؤخره!!مشاغله التي لا تنتهي!!أم بقايا عش بارد فقد الأمل في العثور على غيره!!لكن ماذا عني أنا!!مم أعاني؟!!اضطرابات وموانع نفسية كما يسميها الطبيب!!أم هي لعنتك التي صببتها علّي قبل رحيلك!!أو هو العقاب الذي تمنيته لي لينمحي اسمي من حياتك وخارطة الوجود كلها؟!!ما الذي يمكنني أن أفعله؟!!هل أتمسك بحياتي رغم صقيعها؟ أم أدعها تضيع مني وأضيع معها؟!!هل استمع لنصيحة الطبيب وأذهب لمختص في الأمراض النفسية وأحكي له عن عقدة الذنب والحب الزائف الذي يقبع في أعماق أعماقي!!وعن لعنة خفية تمنعني من الإنجاب!!انتبهت من أفكاري على الأصوات المنبعثة من التلفاز صراخ وعويل لا صلة له بالغناء..أطفأت التلفاز وعدت إلى الغرفة.. فتحت بابها بهدوء.. مازال نائماً كما تركته.. كدت أن أتعثر بحقيبتي الصغيرة الملقاة على الأرض بإهمال منذ عودتنا من عند الطبيب..أخذتها.. وفتحتها دون وعي مني.. أخرجت الكرت الصغير..قلّبته بين يدي..وقبل أن أعود إلى السرير..كنت أمّزقه قطعاً صغيرة..