تعتبر مدينة عنجر اللبنانية الأثرية الواقعة على بعد 8 كيلومتراتٍ من زحلة نموذجاً لما كانت عليه المحطّات التجارية الكبرى التي يتحدث عنها التاريخ القديم والوسيط. فقد أُقيمت على مقربة من أحد أهم منابع أو عيون نهر اللّيطاني في موقعٍ مميزٍ على خارطة الطّرقات التي كانت تشقّ البقاع في الأزمنة القديمة والوسيطة. وعلى الرغم من موقعها المميز هذا، تختلف عنجر اختلافًا أساسياً عما سواها من المواقع والمدن الأثرية الأخرى في لبنان. فعلى عكس صور وصيدا أو بيروت وجبيل أو طرابلس وبعلبك التي شهدت تسلسلاً تاريخياً متواصلاً منذ إنشائها حتى اليوم، تعاقبت فيه الحقب والثقافات بشكلٍ قلّ مثيله، فإنّ عنجر تبدو وكأنها منشأة عابرة، لم تعش أكثر من بضع عشرات من السنين في بدايات القرن الثّامن للميلاد. وباستثناء مسجد بعلبك الأثري الكبير الذي بنِي في الفترة عينها، فإنّ عنجر تشكّل الموقع اللّبناني الوحيد الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العصر الأموي، تلك الحقبة الزاهرة في تاريخ الحضارة العربية. يشكّل موقع عنجر عقدةً رئيسةً تلتقي عندها الطّرق التي كانت تصل مناطق سوريا الشمالية بشمال فلسطين وتلك التي كانت تصل الساحل بغوطة دمشق. وقد أسهم في ازدهارها في العصور القديمة والوسيطة، وما يزال، وجود عين تتفجر عند سفوح جبال لبنان الشرقية، وهي العين التي أعطت المدينة اسمها الحالي. فقد أُطلق على تلك العين إسم “عين جرا” نسبة إلى “جرا”، وهي حصن قديم ورِد ذكره في أيام حكم خلفاء الإسكندر المقدوني، أي في غضون ما يسمى بالعصر الإغريقي أو “الهلنستي”.أنشئت مدينة عنجر المحصنة بأمر الخليفة الوليد بن عبد الملك على بعد نحو كيلومترٍ واحدٍ إلى الجنوب الغربي من النبع المعروف بـ”عين جرا”. ولتنفيذ مشروعه، استعان الخليفة بعدد من المهندسين والحرفيين والصناع البيزنطيين والسوريين العارفين بتقاليد العمارة والزخرفة القديمة الموروثة من أيام الرومان والإغريق. وقد استخرج هؤلاء الحجارة اللازمة للمشروع من عددٍ من المقالع المجاورة، كمقالع بلدة كامد اللّوز، كما نقلوا أعدادًا من العناصر البنائية الأخرى، كالأعمدة وقواعدها وتيجانها وتعتيباتها، من بقايا الأبنية الرومانية والبيزنطية التي عثروا عليها في جوار الموضع الذي كان يقوم فيه حصن “جرا”.غير أنّ حياة عنجر لم تدم طويلاً بعد وفاة مؤسسها. فقد دمرها الخليفة مروان الثّاني سنة 744، على أثر انتصاره على منازعه إبراهيم بن الوليد في معركة دارت رحاها على مقربة منها. وما لبثت البلدة أن أخذت تتداعى حتى تحولت في القرن الرابع عشر إلى تلالٍ من الأطلال والتراب وسط مساحات شاسعة من المستنقعات. وظلّت على هذه الحال حتى سنة 1943، عندما بدأت المديرية العامة للآثار اللبنانية أعمال استكشافها، وإعادة الحياة إليها. وهي اليوم مدينة صغيرة تسكنها أكثرية أرمنية هجِّرت في مطلع القرن العشرين من تركيا.وقد صنفتها منظمة اليونيسكو مدينة تراثية عالمية عام 1984.