قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكريالسنا نبالغ إذا قلنا أنّ المؤرخين اليمنيين القدامى لم يخوضوا في الحديث عن المناسبات الدينية المختلفة كشهر رمضان ، عيد الفطر ، والأضحى وغيرها من المناسبات المرتبطة بالثقافة الدينية في ثغر عدن المحروس بصفة خاصة واليمن بصفة عامة والتي تعتبر تلك المناسبات من صميم تاريخ الحياة الاجتماعية . وأكبر الظن أنّ هؤلاء المؤرخين ، كانوا يسجلون الأحداث المهمة والخطيرة التي كانت تظهر على سطح حياة مدينة عدن السياسية ، فكانوا يدونون تاريخ الحكام ، والأمراء ، والسلاطين ، والملوك أو بعبارة أخرى كانوا يسلطون الأضواء الكاشفة والقوية عليهم . أمّا بخصوص الرعية أو الناس البسطاء ، فكان الأمر لا يعني عن أمرهم شيء. وهذا ما أكده الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه (( بين التاريخ والفلكلور )) يقول , ما معناه : “ أنّ المؤرخين القدامى ، كانوا ينظرون إلى حياة الناس البسطاء نظرة غطرسة وكبرياء واستعلاء ، علمًا أنّ هؤلاء البسطاء من الناس هم صناع الحياة والأحداث الجسيمة والخطيرة أو بالأحرى صناع التاريخ الحقيقيين . و بالرغم من ذلك فإننا نجد بطون صفحات مؤلفاتهم خالية عن حياتهم ، بخلاف الأباطرة ، والملوك ، والحكام الذين ملؤوا صفحات كتبهم عن حياتهم ، ومناقبهم ، وآثارهم ، وأعمالهم وإنجازاتهم “ علمًا أنّ الكثير جدًا من هؤلاء الحكام سرقوا وخطفوا مجهود الناس البسطاء الذين ضحوا بكل غالٍ ونفيس في سبيل الحفاظ على بلادهم من الأخطار المحدقة بها .[c1]بامخرمـــــة[/c] وهذا بامخرمة المتوفى سنة ( 947 هـ / 1540م ) صاحب (( تاريخ ثغر عدن )) والذي وهب نفسه وقلمه لتاريخ عدن وأهلها. فقد سرد الكثير من المعلومات والأخبار عن علمائها ، وفقهائها ، وأقطاب صوفيتها ، ووجهائها ولكنه لم يشير من قريب أو بعيد عن المناسبات الدينية كشهر رمضان المعروف بعاداته وتقاليده الراسخة في أعماق المجتمع اليمني الإسلامي, والذي سنتحدث عن مظاهره بشيء من التفاصيل بعد قليل . [c1]ابن الديبــــع[/c]وإذا يمننا وجوهنا شطر مدينة زبيد مدينة العلم والعلماء في اليمن والتي كانت في يومٍ من الأيام إشعاع للحضارة اليمنية الإسلامية والتي كانت تقف في مصافِ الأمصار الإسلامية المشهورة بالعلوم والمعارف كالقاهرة ، دمشق ، والقيروان ، فإننا لا نعثر في صفحات كتاب المؤرخ ابن الديبع المتوفى ( 944 هـ / 1537م ) ــــ وهو مؤرخ مدينة زبيد ــــ الذي تحت عنوان (( بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد )) ، أية ذكر عن شهر رمضان أو المناسبات الدينية المتنوعة ماعدا ما ذكره في سياق حديثه عن زبيد عن سوقها المشهور وهو سوق السبت ، وعادات زواج أهلها بأنهم ، كانوا يرفضون أنّ تفارق بناتهم دارهم إلى بلد آخر وبسبب ذلك ، كانوا يرفضون أنّ يصاهروا الأغراب أو الذين خارج مدينتهم . ولقد قلنا سابقا إنّ كتابات هؤلاء المؤرخين اليمنيين القدامى كانت مليئة بأخبار ومناقب الأباطرة ، والملوك والحكام ، وفضلا عن بعض المظاهر الطبيعية التي كانت تحدث بين الحين والأخرى ، كسقوط نيزك من السماء على أحدى قرى تهامة أو زبيد ، أو ظهور أضواء غريبة في السماء وغيرها من مظاهر الطبيعة الغير معتادة والتي كانت تعد حديث الساعة بين الناس في تلك الفترة التاريخية. [c1]الـــــرازي[/c]والحقيقة أنّ مؤرخنا الكبير المرحوم القاضي إسماعيل بن علي الأكوع تناول بشيء من التفصيل عن المناسبات الدينية كعيد الفطر أو الأضحى في صنعاء في كتابه القيم (( أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي )) . وكيف كان الحكام والناس على تباين فئاتهم الاجتماعية يحتفلون بهما احتفاءً رائعًا ، يليق بمقامهما الجليلين وكيف كان أهل مدينة صنعاء يرشون الماء أمام منازلهم بعد كنسها ؟ ، وكيف كان يعتنون بمصلى العيد اعتناءًا كبيرًا ؟ ، فينشرون البخور في كل مكان فيه من جهة أخرى ، وكيف كانت مدينة صنعاء القديمة في تلك المناسبات الدينية ترتدي أحلى الحلل الزاهية بتلكما المناسبتين الدينين العظيمين . وذلك نقلاً عن المؤرخ أحمد بن عبد الله الرّازي المتوفي سنة ( 460 هـ / 1068م ) صاحب (( تاريخ صنعاء )) .[c1]في التراث الشعبي[/c]وإذا بحثنا في مؤلفات الكتاب اليمنيين الكبار المحدثين أمثال القاص المرحوم حسين سالم باصديق في كتابه (( في التراث الشعبي اليمني )) فإننا نرى أنه يتناول الكثير من قضايا الموروث الشعبي المهمة على سبيل المثال : الشعر الشعبي ومجالس الأدب : تأثيرات القهوة ، تأثيرات الشاي ، تأثيرات التمباك ، وتأثيرات القات ، ونقصد بتلك التأثيرات التي أحدثتها في وجدان الشعراء الشعبيين الذين تفننوا في تجسيدها في شعرهم . ويتطرق كذلك إلى الأغاني الشعبية في الزواج ، الأغاني الشعبية في العمل ، أغاني الدان الشعبية ، والمعتقدات الشعبية في حياة الناس اليومية وغيرها من الموروث الشعبي ولكنه لا يتطرق إلى مظاهر عادات المناسبات الدينية كرمضان ، وعيد الفطر ، وعيد الأضحى . ومن المحتمل أنّ الكاتب حسين سالم باصديق وغيره من الكتاب المحدثين لم يلتفتوا إلى مظاهر المناسبات الدينية كشهر رمضان وغيره بسبب كونها من الأمور المعتادة في حياتهم أو من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى تدوينها , ويبدو أنّ ذلك حدث أيضًا مع المؤرخين القدامى اليمنيين .[c1]الروايات الشفهية[/c]والحقيقة أنّ المصادر أو المراجع التاريخية الإسلامية ومنها المراجع التاريخية اليمنية تعتمد على أساسين هما التاريخ المكتوب أو المقروء من ناحية والرواية أو الروايات الشفهية من ناحية أخرى ، والجدير بالذكر أنّ الباحثين والمؤرخين المحدثين من وقت قريب ، كانوا يأنفون الإطلاع على الروايات الشفهية ، ويظنون أنها ضرب من العبث ولا يمكن الاعتماد عليها في كتابة التاريخ ولكنهم يرون أنّ المؤلفات التاريخية المكتوبة هى التي ينبغي الاستناد عليها في كتابة التاريخ فقط . ولكن الدكتور قاسم عبده قاسم له يخالف هؤلاء المؤرخين أو الكتاب ، ويرى أنّ الرواية أو الروايات الشفهية تعد مرجعًا مهمًا من مراجع التاريخ الذي يجب بل ويتوجب الاعتماد عليه ولا يقل خطورة عن التاريخ المكتوب بسبب أنّ التسجيل الشعبي يعبر ويجسد عن آمال وآلام الناس أو بعبارة أخرى مرآة صادقة عن مشاعر وأحاسيس الناس اليومية لم يدونها التاريخ المكتوب المجرد من العواطف والمشاعر ومن دون ذلك لم ولن نستطيع أنّ نفهم روح حياة أهل العصر الحقيقية الذي ندرسه . وفي هذا الصدد ، يقول : “ الموروثات الشعبية مصدر هام للمؤرخ الذي يدرس التاريخ الاجتماعي ، أو النتاج الثقافي لأمة من الأمم لأنها تعبر عن هذه الجوانب العاطفية والوجدانية والأخلاقية “ .[c1]الجوانب الصامتة[/c]ويؤكد الدكتور قاسم عبده مرة أخرى أنّ المصادر التاريخية المكتوبة أو التقليدية في كثير منها جوانب لا تعتني بحياة الناس البسطاء اليومية بصورة مفصلة ودقيقة كما أشرنا , إنما تهتم بقضايا تاريخية مجردة وجافة ، علمًا أنّ تلك الجوانب المهملة أو الصامتة المتعلقة بإيقاع حياة الناس البسطاء اليومية على تباين حياتهم الاجتماعية التي لم يكشف عنها التاريخ المكتوب أو السجل الرسمي ، تعد من المراجع التي تضيء الطريق للمؤرخين والباحثين المحدثين للوصول إلى الحقيقة التاريخية أو أقرب إلى قرب نقطة من الحقيقة . وفي هذا الصدد ، يقول : “ كذلك ينبغي أنّ نلاحظ أنّ الظاهرة التاريخية ، سواء كانت اجتماعية أو غير ذلك ، لا تصلنا كاملة من خلال شهادات المؤرخين والوثائق والتسجيلات التاريخية الرسمية . إذا أنّ المؤرخين ، وكتاب الوثائق لا يسجلون سوى جوانب جزئية من الظاهرة التاريخية يعتقدون أنها الجوانب الأكثر أهمية ولا يلحظون الجوانب الأخرى التي تشكل إيقاع الحياة اليومية . وهذه الجوانب المهملة من الظاهرة التاريخية ( الجوانب الصامتة ) هى التي تضمنتها الموروثات الشعبية “ .[c1]عدن والرحالة[/c]والحقيقة أنّ عدن كانت محط اهتمام العديد من الرحالة على سبيل المثال الرحال المسلم ابن بطوطة المتوفى ( 779 هـ / 1378م ) الذي وصف أهل عدن بالطيبة والكرم ، ووصف كذلك الرخاء الذي كان يسودها في عصر الدولة الرسولية . وهناك الرحالة الغربيين في العصر الحديث والمعاصر الذين تحدثوا عن ثغر عدن أمثال الرحال الألماني هانز هولفريتز الذي قام بزيارة اليمن في سنة 1934م ، والذي ذكرها في صفحات كتابه (( اليمن من الباب الخلفي )). ونقل عنها انطباعات جميلة , وخاصة لحج الخضراء , وكذلك كتبت عنها الطبيبة الفرنسية كلودي فايان في كتابها (( كنت طبية في اليمن )) التي خدمت كطبيبة في اليمن سنة 1951م ، ومكثت بها قرابة العام ونصف العام ، وقبلهما زارها الشاعر الفرنسي المشهور آرثر رامبو مدينة عدن في أواخر القرن التاسع عشر وتحديدًا في سنة 1880م واستقر بها قرابة أربع سنوات وغيرهم من الرحالة والكتاب العرب والغربيين . ونستخلص من ذلك أنّ عدن ( عين اليمن ) ــــ على حد تعبير وليم هارولد إنجرامز المستشار المقيم البريطاني في المكلا ( 1937 ـــ 1944م ) . وبالرغم من الشهرة الواسعة التي كانت تتمتع بها عدن لكونها ميناء مهم يربط بين الشرق والغرب ، والمدخل الحقيقي للبحر الأحمر الجنوبي ، فإن تاريخها الاجتماعي مثله مثل باقي المدن اليمنية المهمة مازالت في حاجة ماسة إلى نفض الغبار عن هذا التاريخ والذي يعد صفحة مفقودة في تاريخ اليمن حتى هذه اللحظة .[c1]عدن والصوفية[/c]والحقيقة إذا أردنا أنّ نفهم ونتعرف على المظاهر والأجواء الرمضانية في عدن في تاريخها الإسلامي ، فإنه يجب بل ويتوجب أنّ نرسم خطوط عريضة وسريعة على الحياة الصوفية في هذه المدينة . فقد ذكرت الروايات التاريخية بأنّ عدن كانت تمور مورًا بالطرق الصوفية المختلفة في تاريخها البعيد . وهذا ما أكده الأستاذ الباحث عبد الله محيرز بأنّه عثر في سوق أبان ــــ وهو يعد من أقدم الأسواق التجارية في عدن بل واليمن ــــ بُعيد الاحتلال الإنجليزي للمدينة بفترة قصيرة على أضرحة ، وقباب وقبور للصوفية وذلك بناء على ما ذكره أحد الضباط الإنجليز الذي عاصر الكابتن هينس ، في حملته على عدن سنة 1838م ، فقال : “ . . . بأنه ( أي حي أبان ) مليء بالأضرحة والقباب والمقابر “ . وفي موضع آخر يقول عبد الله محيرز بأنّ حي حسين الأهدل ــــ وهو أحد أقطاب الصوفية في عدن ــــ وسميا الحي باسمه الذي ظهر على سطح التاريخ في أواخر حكم الدولة الطاهرية ، وكان يسمى قديمًا بــحي ( الشاذلية ) . ومن المحتمل سميا بذلك الاسم بسبب وجود الطريقة الشاذلية الصوفية والذي كان لها نفوذ قوي في هذا الحي إلى جانب الطرق الصوفية الأخرى التي كانت منتشرة ومنها الطريقة الأحمدية ، والتي انتقلت إلى مدينة الشيخ عثمان بعد فترة من الزمن ، بعد أنّ رأت الأخيرة أنها لن تستطيع أنّ تنشر طريقتها الصوفية بجانب الطريقة الشاذلية التي ثبتت أقدامها في عدن القديمة . وفي الخساف بالقرب من العقبة أو باب عدن ، يوجد كذلك بها الكثير من القبور والمشاهد والأضرحة ، وكانت من وقت قريب ماثلة للعيان ، ولكن توسع العمران أخفى ملامحها . وكيفما كان الأمر ، فإن الطرق الصوفية تعد من المصادر الرئيسة في التعرف على مظاهر الحياة الاجتماعية ومنها المظاهر والأجواء الرمضانية في مدينة عدن .[c1]رؤية هلال رمضان[/c]تذكر الروايات الشفهية التي تناقلها الناس من جيل إلى جيل بأنّ أول مظاهر شهر رمضان المبارك . يبدأ مع رؤية هلال رمضان بعيد المغرب ، حيث يتجمع الناس على تباين فئاتهم الاجتماعية ، واختلاف أعمارهم ، فيتجهون صوب ساحل صيرة في عدن ينتظرون أنّ يعلن العلماء والفقهاء ثبوت هلال رمضان ، وما أنّ يعلن عن ثبوت رمضان حتى يسري الفرح والسرور في قلوب الناس ، وتضاء القناديل في السفن الشراعية على اختلاف أحجامها ، وأشكالها ، فيتوهج الشاطئ بالأضواء الباهرة ، وكأنّ نجوم سماء الليل قد سقطت على مياه البحر فتناثرت فوقها . وتلك المعطيات من الروايات الشفهية تعطينا صورة جديدة بأنّ رؤية هلال رمضان في عدن ، كان يُرى من جبل صيرة أو من على شاطئه . وعلى أية حال ترى ، الصيادون رقصة تسمى ( الغية ) تعبيرًا عن غبطتهم وبهجتهم بقدوم شهر رمضان الكريم . وينشدون الأغاني ، قائلين : يا قريب الفرج يا قريبيا الله مع الصابرين يا قريبويغنين النساء أغاني تصف رجالهم الصيادين بالنمور كناية عن شجاعتهم وسط أهوال البحر فيقولن : حيًّا ومرحيب بالهادف ومن هو حضررجال مثل النمارة ما تهاب الخطرويعود الأهالي إلى أحياء عدن , وفي الأحياء تقرع الطبول ، وتعزف المزامير ، ويصدع صوت المنشدون بالمدائح النبوية . وتخرج مختلف الطرق الصوفية كالشاذلية ، الأحمدية ، القادرية ، والرفاعية وغيرها من الطرائق الصوفية إلى الأحياء الشعبية في عدن بملابسهم البيضاء وعليها الوشاح الأخضر، فيلوحون بالأعلام الخضراء والتي هى شعارهم لكون أنّ اللون الأخضر هو شعار السادة العلويين الذين ينتسبون إلى آل البيت ، ويطوفون في طرقات المدينة بصورة منتظمة على إيقاع الطبول والمزامير ، ويرددون الأناشيد الدينية ــــ كما قلنا سابقا ـــ . ويظل هؤلاء الأتباع والمريدين من الصوفية ينشدون الأهازيج الدينية حتى منتصف الليل . وبعد منتصف الليل تفتح أبواب المساجد وتضاء بها القناديل فتقام فيها صلاة التراويح حتى وقت السحور . وفي التكية أو التكايا أو الزوايا أو الأربطة الخاصة بالصوفية يتجمع فيها مريدي وأتباع الطرق الصوفية ، فيتلون القرآن . ويسبحون ، ويحمدون الله على قدوم رمضان شهر الخيرات والبركات، والرحمة ، والمودة ، ويدعون الله سبحانه وتعالى أنّ يتقبل صيامهم. وفي شهر رمضان يحرص أصحاب الطرائق الصوفية أنّ يظهروا شعائرهم الخاصة بهم فعلى سبيل المثال تولية المشيخة الصوفية في حياة شيخ الطريقة . وفي هذا الصدد ، يقول الأستاذ الباحث والكاتب عبد الله محمد الحبشي : “ وهناك صورة أخرى لتولي المشيخات الصوفية وربما أوعز بعض المشيخات ( الشيوخ) لأحد تلامذته بتولي المشيخة من بعده . . . وقد يعين الشيخ من يخلفه وهو لا يزال حيًا“ . وعلى أية حال ، تتم تلك الشعائر الصوفية الأخرى مثل ألباس الخرقة للأتباع والمريدين النابهين الذين يتأهلون للوصول إلى مراتب راقية وعُليا في درجة الصوفية في الغالب في شهر رمضان الذي يتميز عن جميع الشهور بالروحانية .[c1]موائد الرحمن[/c]ومن المظاهر الرمضانية التي كانت منتشرة في عدن في التاريخ البعيد وهى أعداد موائد الإفطار للفقراء والمساكين ، وكانت تسمى بموائد الرحمن ، وكان الحكام ، و التجار ، والوجهاء ، وبعض البيوت الغنية هم الذين يتكلفون بإقامة ، موائد الإفطار . ويصف أحد الطاعنين في السن عن أجداده ، بأنّ الموائد كانت تحتوي على الثريد ، والخبز ، والحلويات بمختلف أشكالها ، وكانت بحق أطباق دسمة ، فيقوم الفقراء والمساكين ، وقد امتلأت بطونهم من كل ما طاب ولذ , وقد ارتسمت على وجوههم ابتسامة عريضة . وكانت تفرش هذه الموائد في داخل المساجد أو في الطرقات . ويصف أحد الرحالة الغربيين وهوWrest الذي زار عدن في منتصف القرن التاسع عشر , وقد صادفت زيارته قدوم شهر رمضان ، فيقول عن مظاهره وعاداته وتقاليده ، في عدن ، فيقول بما معناه : “ مدينة عدن في شهر رمضان الذي يقدسه المسلمين تقديسًا كبيرًا يسودها التكافل الاجتماعي بأروع صوره ، و ترى الناس البسطاء قبل الغروب يتحلقون حول موائد الطعام ، وقد فرشت في كثير من الطرقات ، والأماكن العامة . وترى السعادة مرسومة على الناس البسطاء وكذلك الأغنياء ، تشعر بأنّ الناس على قلب رجل واحد “ . ويتعجب Wrest بأنّ روح المودة والرحمة التي كانت تسود المجتمع البسيط في عدن ، كان المجتمع الأوربي يعيش حالة من الغليان والفوران ، والكرة ، والعنف فيما بينهم .[c1]مجالس القات[/c]ويصف Wrest مجالس القات التي كانت تقام في المساء بالمدينة ، فيقول بما معناه : “ وفي المساء وتحديدًا بعد صلاة العشاء والتراويح التي يحرص الناس على أدائها في المساجد جماعة ، وبعد الفراغ منها يتجهون فرادًا وجماعة إلى مجالس القات ، فيمضغون القات ، ويتحدثون في تلك المجالس أو المبارز في الكثير من الأمور الاجتماعية ، والثقافية “ . ويصف الرحال Wrest مجالس القات ، بأنها أشبه بصالونات الأدب والثقافة الذي كان يقيمها الأمراء والبارونات في المدن الأوربية المشهورة “ . [c1]عدن والحلويات المصرية[/c]وتذكر الروايات الشفهية بأنّ عدن اشتهرت اشتهارًا كبيرًا في صناعة أطباق الحلوى المصرية المتنوعة في عهد حكم الصليحيين الذين كانوا امتدادًا للدولة الفاطمية في اليمن . وكانوا يترسمون خطواتهم في كل شيء ، ويدورون في فلكهم أينما داروا ، فكان دعاة الصليحيين يطبقون تقاليدهم وعاداتهم بحذافيرها في اليمن . وهذا ما أكده مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، فيقول : “ . . . دعاتها ( أي دعاة الدولة الصليحية ) ترسّموا عادات وتقاليد الحكام الفاطميين ( العُبيديين ) ــــ نسبة إلى مؤسس الدولة الفاطمية عبد الله المهدي ــــ بحذافيرها بسبب التبعية والولاء لهم في المذهب والعقيدة ، فمنهم كانوا يستمدون سِجلات ( مراسيم ) التعيين لهم ، ومنهم كانوا يأخذون الألقاب الرسمية الممنوحة لهم ، والتي يتعين على الناس إذا كتبوا إليهم أنّ يخاطبوهم بها “ . ويضيف مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع : “ فلا جرم إذا صاروا ( أي الصليحيين ) تبعًا لهم يدورون في فلكهم ، ويلتزمون بتعاليمهم ، ويأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم ، ويقلدونهم في شؤونهم كلها ، وما ذاك إلا لأنهم امتدادً لنفوذهم في اليمن “ . وكان من الطبيعي ، أنّ تدخل الحلويات المصرية إلى اليمن وعدن لكونها من التقاليد الفاطمية الاجتماعية في صناعة أطباق الحلوى ــــ وقد اشتهر بها الفاطميين قبل مجيئهم من بلاد المغرب إلى مصر ــــ . وقيل أنّ من أسباب اشتهار صناعة أطباق الحلويات ا المصرية المختلفة في عدن يعود إلى أنها ميناء مهم يربط بين الشرق والغرب ، فكان يوجد بها خليط من الأجناس المختلفة من المصريين و الشاميين و المغاربة ، ومن ساحل شرق أفريقيا ، والهند وفارس , والحبشة ، وكانت تلك الأجناس تحمل تقاليدها وعاداتها من تراثها الاجتماعي المتمثلة بالأطعمة التي اشتهرت بها في بلادها . وقيل أنّ كبار تجار عدن ، جلبوا معهم في زيارتهم إلى مصر الفاطمية أعداد كبيرة من صانعي الحلويات المهرة نظرًا لشهرتها الكبيرة والواسعة في البلدان العربية والإسلامية . وقيل أنّ عدن مع مرور الأيام ، صارت من أهم المدن اليمنية في صناعة الحلوى أو الحلويات المصرية و الهندية و الفارسية . وقيل أنّ السيدة بنت أحمد الصليحية المتوفاة سنة ( 532 هـ / 1138م ) آخر ملوك الدولة الصليحية ، كانت تأتي إليها أطباق الحلويات المصرية من عدن وخصوصًا في شهر رمضان. ويفهم من ذلك أنّ عدن تمتعت بشهرة عريضة في يوم من الأيام بصناعة الحلويات المصرية إلى جانب الحلويات الشامية والفارسية والهندية . وقيل أنّ الإقبال على أطباق الحلويات المصرية أو الهندية أو الشامية أو المغربية كان يزداد في شهر رمضان ، وعيد الفطر وغيرها من المناسبات الدينية . [c1]عدن وصلاح الدين الأيوبي[/c] وفي سنة 569 هـ / 1174م ، جرد السلطان صلاح الدين الأيوبي المتوفى ((589 هـ / 1193م )حملة عسكرية بقيادة أخيه توران الشاه على اليمن للقضاء على البقية الباقية من النفوذ الفاطمي هناك , وذلك بعد أنّ أعاد مصر إلى حظيرة الخلافة العباسية السُنية . وتذكر الروايات التاريخية أنّ صلاح الدين الأيوبي ، كان يهدف إلى جانب القضاء على نفوذ الفاطميين في اليمن إلى عدة أمور هى أنّ يحل محل النفوذ الفاطمي في منطقة البحر الأحمر وتحديدًا في الطرف الجنوبي من البحر الأحمر ، وأنّ يستفيد من مواني اليمن وعلى وجه الخصوص ميناء عدن الذي كان يدر أموالاً ضخمة ومن خلال تلك الأموال فإنها ستسهم في تدعيم حملاته العسكرية بالمال ضد الصليبيين من ناحية وكذلك تأمين المدينة المنورة ومكة من هجمات الصليبيين عليها من ناحية أخرى . وكيفما كان الأمر ، فقد ذكرت الروايات التاريخية بأنّ عدن سقطت بيد الأيوبيين سنة ( 569 هـ ) بعد القضاء على بني زريع في إمارة عدن الموالين للفاطميين في مصر . وعندما غادر توران شاه اليمن سنة ( 571 هـ / 1176م ) تولى إمارة عدن الأمير عثمان الزنجيلي أو الزنجبيلي , وقيل أنه كان ذوو شخصية قوية وطموحه . وتذكر المراجع التاريخية أنق قد استأثر بمدينة عدن بعد أنّ توفى السلطان توران شاه سنة ( 576 هـ / 1181م ) . وتذكر الروايات التاريخية بأنّ الزنجيلي أو الزنجبيلي استمر في حكم عدن بلا منازع لمدة تسع سنوات ( 1174 ـــ 1183م ) وفي فترة حكمه بنى الأمير الزنجيلي عدد من المنشآت الاقتصادية في عدن على طراز مدن الأكراد في الموصل ببلاد الرافدين ، وبلاد الشام كالأسواق المسقوفة التي تعرف بــ ( قيصارية ) . وقيل أنّ الأمير الزنجبيلي ، كان يهتم اهتمامًا بالغًا برعاية الفقراء والمساكين وذوو الحاجات في شهر رمضان ، وكانت تقدم لهم الأطعمة الجيدة طوال شهر رمضان . وعلى أية حال ، فإن الدول التي تعاقبت بعد الدولة الأيوبية كالدولة الرسولية التي كانت امتدادًا للأولى ، والدولة الطاهرية ، والعثمانيين الذين فتحوا اليمن سنة 1538م ، كانت تولي عناية فائقة لمدينة عدن كغيرها من المدين اليمنية في شهر رمضان . [c1]الهوامش: [/c]د . قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفولكلور ، الطبعة الثانية 201م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ج . م . ع .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي ، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي ــــ بيروت ـــ لبنان ـــ .عبد الله محمد الحبشي ؛ الصوفية والفقهاء في اليمن ، سنة الطبعة 1396 هـ / 1976م ، مكتبة الجيل الجديد ـــ صنعاء ـــ .عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة ، 1425هـ ـــ 2004م ، الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة ـــــ صنعاء ــــ . حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني , الطبعة الأولى 1414 هـ / 1993م ، إعداد وتوثيق مركز الدراسات والبحوث اليمني ـــ صنعاء ــــ .الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية 476 ــــ 627 هـ / 1083 ــــ 1229م . الطبعة الثانية 2004م ، إصدارات جامعة عدن .