انكسار الحلم القومي في الرواية العربية الحديثة
نجمي عبدالمجيدمنذ أوليات الكتابات في هذا الاتجاه سعت الرواية العربية الحديثة إلى الابتعاد عن الخيالات السياسية والتعامل مع واقع الأحداث والتجارب التي مرت على الشعوب والمجتمعات في العالم العربي. لقد طرحت هذه الأعمال الروائية قضية الحلم القومي في مرحلة خروج الوطن من حكم المستعمر أو أحكام الانتداب إلى الدولة الوطنية حيث كان الانتقال من التعبير إلى الانغلاق وميلاد الدولة البوليسية القمعية فكانت رواية نجيب محفوظ ( الكرنك) بداية الدخول إلى هذا الجانب من كتابة التاريخ السياسي عن رؤية أدبية تجاوزت هذا الخط بعد ذلك روايات قدمت من الجوانب المرعبة والمحزنة من تلك الحالة التي وصلت إليها الدولة في الشرق الأوسط. تقدم لنا رواية ( الشباح) للكاتب إسماعيل فهد إسماعيل صورة عن الحرب الأهلية في لبنان التي كانت بدايتها عام 1975م أن الرؤية التي تطرحها علينا هذه الرواية تعبر عن درجة الأزمة القاتلة التي حولت بيروت من دائرة حوار إلى ساحة قتال فهذه القوى المتصارعة الرافعة لكل شعارات العروبة والقومية والاشتراكية وتحرير الأرض لم تقدم غير هذا الكم من الدمار وسقوط الكارثة على رأس المواطن سنوات من الاحتراف وتصفية الحسابات دون حسم لطرف أو سيادة جهة معينة فكان اغتيال المواطن قبل العدو وتدمير منزل قبل آلية الغزو وباسم حرية الوطن يكون هذا الخراب الواسع من اجل رغبات بعض النفوس المريضة التي تبني مجدها على دماء ورماد الغير. أما الدولة الوطنية وحلم السلام في الوطن فقد ذهبت مع مراهنات الموت واغتصاب الحياة من يقتل هو من يصل إلى الهدف وكان الهدف الذي وصل إليه الجميع احتراق الكل وتحويل الوطن من حقول للأزهار إلى مقابر تدفن فيها الأجساد مع ما علق بها من رصاص وجزئيات من قنابل وصواريخ وكل ما يقتل. الكاتب عبدالرحمن منيف قدم صورة أخرى من حكاية الوطن المغدور والسليب وطن القمع والسجون ففي رواية ( شرق المتوسط) يصبح السجن هو الجزء المقابل لهوية الأرض فالدولة القومية رافعة شعار العدل والمساواة وحقوق المواطنة لم تحدد المسافة التي تفصل بينها وبين المواطن غير الطريق التي تربط منزله بالسجن وكأنه في دائرة مظلمة تتصل بين غرفة صغيرة في منزل وزنزانة في السجن حيث تكون الأولى انغلاق على الذات والثانية تدمير لما بقي منها. ويحدد عبدالرحمن منيف بأن دولة القمع لم تنجب غير العنف الذي أصبح يهدد الجميع ، فحلم الوطن الحر بعد الاستقلال أصبح كذبة ومن تم جريمة حيث مات الحلم في غرف التعذيب وتمزقت الطموحات تحت ضربات الجلاد. غادة السمان تقدم في رواية ( سهرة تنكرية للموتى) بيروت ما بعد الحرب الأهلية ، هل يعود الوجه الجميل للوطن؟ وهل تصلح شعارات الماضي لإعادة وطن احترق فيه الجانب الإنساني وأصبحت المنافي هي خط العبور إلى البديل عن المكان السابق محاولات العودة إلى وطن ما زالت جرائم الحرب مرسومة على كيان إنسانه الكل يحاول استعادة وجه بيروت عاصمة الجمال والثقافة فلم يجدوا غير خيوط رامية وأشباح مرعبة تطارد محاولاتهم المنكسرة. من مطار باريس حيث بداية رحلة العودة نحو الوطن. سنوات الحرب صراعات الهوية والانتماء والتاريخ ونسيج الوطن المتمزق تحت سكاكين العائلة والطائفية والحزبية وتجار السلاح وصناعة الموت ودائرة الانتقام التي مازالت تزحف مثل الثعبان وعقارب الحقد الساكنة في القلوب وحقيقة التمسك بالوطن مهما كانت كارثة الشعارات والحلم. هل العودة تعيد نفس الصورة التي كان عليها الأمس؟.تطرح أمامنا غادة السمان الجانب الموجع من هذا الموضوع فهذه الصراعات وفنون القتل لا تكون تعبيراً عن الميلاد الجديد بقدر ماهي حالة انتقال من موت الجسد إلى قتل إنسانية الفرد من الذي قتل من؟.هل هو الجنون من اجل الامتلاك وإلغاء الأخر؟ هل هو ارتهان الداخل وتقرير المصير مع الخارج وتوازن المصالح؟ إن البحث عن الحلم تحت النزيف لا يخرج غير الوجع، وتطرح أمامنا صورة تعبر عن استحالة عودة وطن الأمس فهذه البيوت والشوارع والمدن التي تفحمت في النار لا تخلق الربيع وأصداء الماضي لا ترجع قصص الحلم المفقود، بعد جاءت الرصاصة بدلاً عن الزهرة لتضرب القلب ليتصاعد منه بدلاً عن آهات الشوق قطرات دامية ترسم صورة هذا الزمن ـ الفاجعة التي تكسر بصراخها بدران الصمت العربي عن كل هذه الكوارث، وكان موت الإنسان على هذه الأرض مقتولاًَ، حاجة لا قيمة لها عند أقرب الناس.ولكن أين هي حدود الوطن؟أنها مابين ملامح ما كان، والحاضر الذي لا تعرف صورته، حتى وأن حاول البعض خلق صلة جديدة مع وطنه يطل عليه الجانب المحزن من زمن الموت فلا يجد من حل غير الجانب المحزن من زمن الموت فلا يجد من حل غير الهروب نحو الآخر ـ الغرب حيث متاهة الاغتراب أفضل من المواطن المقتول والوطن القتيل.عند الكاتب صنع الله إبراهيم تطرح رؤية أخرى لوطن تم اغتياله عند بوابة القومية والوطنية، الشعارات التي وعدت المواطن بالحرية والكرامة والعدل، ولكن قدمت له السجن ورجال التحقيقات والدخول حتى في خلايا العقل ومصادرة حق الحلم والإنفراد مع النفس، اللجنة قوة الدولة صاحبة الحق الوحيد في السؤال إلى درجة تصبح لحظات الغفوة انفجار كابوس مريع يشك حركة الإرادة عند الفرد.ذلك هو الوطن، وطن السلطة لا وطن الإنسان، وطن نصفه الأول معلق بين حلم الكذبة الكبرى ونصفه الآخر ينتظر في غرفة التحقيق بتهمة الخيانة. ومن أجل الحماية دولة الوطن، لابد من مصادرة إرادة الفرد.وتعد روايات صنع الله إبراهيم التي عرفت باسم (ثلاثية الرفض والهزيمة ـ تلك الرائحة ـ اللجنة ـ نجمة أغسطس ـ الصورة المعبرة عن أزمة الحلم القومي في الواقع العربي حتى نصل إلى روايات بيروت بيروت ، وردة، ذات، حيث تظهر الصورة المرعبة لمأساة حركات التحرر والمد القومي التي أوصلت الشعوب إلى مأزق الإنفراد بالسلطة وتدمير الغير.رواية الكاتب السوري حيدر حيدر (وليمة الأعشاب البحر) تقف في موضوعيتها عند زمن المتاهة وتطرح سؤال الهزيمة.إلى أين وصل رفاف النضال؟ركائز الصراع في الدولة الوطنية، حلم الوصول إلى السلطة، إلغاء الآخر، تصفية رفاق الأمس، وعند الانكسار يصبح الهروب نحو الخارج هو آخر ما يمكن إنقاذه من مشروع الحلم القومي.هناك في المنفى تتداخل الأشياء تسقط ثوابت وتحل بدلاً عنها حالات من العجز والبحث عن الرغبات، النساء والخمر والسخرية من المقدس والهروب إلى قاع الانعزال بعد تراجع كل الطموحات وتصبح اكبر الحاجات محصورة في دوائر مغلقة أقصى مستويات الطموح فيها إشباعه رغبة أو إعادة نسخ صورة من أحلام الأمس.تتداخل عملية سرد الأحداث في هذه الرواية مابين الماضي السياسي والحاضر المهزوم، والتصاعد في هذا المسار يجعلنا نقف عند جانب الأزمة النفسية للبطل القومي في الرواية العربية الحديثة.إن ما تقدمه الرواية العربية الحديثة بهذا الجانب وتحديداً في هذه المرحلة، تعد رؤية فكرية وقراءة لفترات المد القومي العربي الذي دخل في مرحلة التراجع منذ نكسة 1967م وقبل ذلك الانقلابات العسكرية التي أدخلت الدول والشعوب في صدامات دامية لم تفرز غير الدولة القمعية التي قادت إلى انكسارات متواصلة.ومن هذه النظرة تعد الرواية في الأدب العربي الحديث، صاحبة المسألة الأوسع في قراءة المسار السياسي لهذه المنطقة.