لبعضنا، صورة مدينة سايجون في فيتنام تذكرنا فقط بذلك المشهد الرهيب الذي غادر فيه الأميركان، بعد صراع طويل، تلك البلاد. وتحررت سايجون التي سميت بعد ذلك بمدينة «هوشي منه» على اسم قائد التحرير الشمالي القابع وقتها في «هانوي» التي أصبحت عاصمة لفيتنام الموحدة. كان المنظر تاريخيا، من فوق أعلى مكان في السفارة الأميركية في تلك المدينة طائرة هيلوكبتر تنقل آخر المحظوظين الفارين من نار الاشتراكية القادمة!! التحرير تم بعد مشهد استمر سنوات طويلة راح ضحيته أكثر من مليون من الفيتناميين وعشرات الآلاف من الأميركان، وصرفت فيه مليارات الدولارات، حتى أصبح يعرف في التاريخ الأميركي الحديث بالعقدة الفيتنامية التي يتذكرها المؤرخون متى ما طال صراع عسكري كان طرفاً منه الولايات المتحدة كما يحدث اليوم في العراق. وعلى عكس ما لدينا نحن العرب من ثروة لعن الأميركان في كل وقت وحين بسبب وآخر بغير سبب، ليس هناك ذكر أو إشارة لما حدث من صراع طويل بين الفيتناميين والولايات المتحدة، لقد قلبوا الصفحة دون مرارة ودون ادعاء، فقط بعد مرور ثلاثة عقود من انتهاء ذلك الصراع. وانصرف الفيتناميون لبناء بلدهم. وعلى الطريقة الصينية أيضاً، فقد تبنى الفيتناميون «طريقاً اشتراكياً للرأسمالية» فسايجون اليوم هي العاصمة التجارية لفيتنام «الاشتراكية» تعج بالبضائع الأجنبية وبرأس المال الأجنبي وكثير منه أميركي الذي يجذبه قوى عاملة مدربة، واستقرار قانوني. يصنف الاقتصاديون اقتصاد فيتنام اليوم على انه ثاني اقتصاد في درجة النمو في شرق آسيا بعد الاقتصاد الصيني، وينعم معظم الثمانين مليون فيتنامي بمعيشة معقولة، غيرت من وسائل المواصلات على سبيل المثال من دراجات هوائية في الغالب كان يستخدمها غالب الفيتناميين إلى دراجات نارية هي الأكثر انتشارا اليوم دليل على التقدم الاقتصادي. تشاهد هذه الدراجات في المدن الفيتنامية، خاصة في هانوي وسايجون، وهي تحمل أكثر من راكب، في بعض الأوقات ثلاثة أشخاص، إلا أن الملاحظ، خاصة في الظهيرة، أن معظم ركاب هذه المسيرات للدراجات النارية هم «منقبون» وخاصة النساء «منقبات». واضح أن السبب هو اتقاء الجو الحارق والرطب وحفاظاً على البشرة أيضا لأنك تشاهد قفازات طويلة تلبسها النساء بجانب هذا النقاب وهن على الدراجات النارية التي تتكدس بها الشوارع ذاهبون إلى أعمالهم أو عائدون إلى منازلهم، وهي إشارة إلى بعض أشكال الملابس الإنسانية وهي ضرورة بيئية أكثر منها أي شيء آخر!!. القفزة الفيتنامية الاقتصادية، وهي ما يهم هنا، هي تعبير عن قفزة يتمتع بها معظم اقتصاد دول جنوب شرق آسيا والهند، وهي في جوهرها عبارة عن تصميم وتخطيط عقلاني لإنقاذ هذه الشعوب من الفقر والفاقة التي كان من الممكن أن تضرب هذه الشعوب دون رحمة، وتسبب الخراب والدمار وربما العنف والإرهاب أيضاً. يعترف الفيتناميون أن هناك حوالي ثلاثة في المئة من السكان شديدي الفقر، أي أن دخلهم اقل من دولار واحد في اليوم حسب المسطرة العالمية للفقر، ولكن هذا الاعتراف يتزامن مع تصميم حقيقي لإخراج هذه الشريحة الوطنية من ذلك المأزق. رغم أن معظم ما تنتجه فيتنام هو الأرز والمنتجات الزراعية الأخرى، إلا أنها تدخل عصر التصنيع والخدمات بسرعة. لم تعد العقيدة «الاشتراكية» التي كانت تمنع القطاع الخاص من النمو معمولاً بها، لقد أصبح التوجه للقطاع الخاص ومشاركة رأس المال العالمي، هو القاعدة التي تبني عليها البلاد اقتصادها القادم، وفي صلبه طبعا اقتصاد التقنية والتكنولوجيا. مرجعية هذا الجهد هو الاهتمام بالتعليم الذي هو مصدر التنمية ووسيلتها كما تيقن الكثير من الشعوب من جهة، ومن جهة ثانية القوانين المرعية والواضحة للجميع تشجيعا للاستثمار. الثورة الاقتصادية تحدث في الهند، هذه القارة الكبرى التي تدخل الاقتصاد العالمي بقوة لا يمكن أن توصف تجربتها الأخيرة إلا أنها تحقيق معجزة اقتصادية، لقد حققت الهند تلك المعجزة وهي موضع دراسة الاقتصاديين اليوم. في عام 1985، أي منذ ربع قرن تقريبا، كان تسعون في المئة من الشعوب الهندية التي يبلغ تعدادها أكثر من مليار ومئتي مليون نسمة، كانت تلك النسبة أي تسعون في المئة منهم تعيش على دولار واحد أو اقل في اليوم، بعد الطفرة ومن المتوقع خلال عقد واحد من اليوم، فان طبقة وسطى غير مسبوقة في العدد ستتشكل في الهند، وهذا يعني قوة شرائية هائلة. نجاح الهند الاقتصادي أصبح قصة مروية في أكثر من كتاب ومجلة وصحيفة، إلا أن ذلك النجاح لم يكن سببه غير معروف، فقد تبنت الهند بداية من التسعينات في القرن الماضي سياسات إصلاحية صلبها تحرير الاقتصاد، قفز بعدها اقتصاد الهند ليصبح نموه سبعة في المئة في العام، واستمرت على هذا الوضع، مع بعض التراجع في آخر القرن، إلا أن النمو عاد يتصاعد من جديد مع مطلع القرن الواحد والعشرين. لقد خفض النمو الاقتصادي الهندي من حدة الفقر المشهورة هناك من ثلاثة وتسعين في المئة إلى أربعة وخمسين في المئة، أي أن ثلاثمئة مليون من المواطنين الهنود خرجوا من دائرة الفقر التقليدية إلى مصاف الاحترام الإنساني، في صلب سياسة الإصلاحات الاقتصادية الهندية محاربة الفقر عن طريق برامج إنتاجية للناس، وتعليم أفضل. مع فجر القرن الواحد والعشرين، ومهما تعددت الطرق الاقتصادية التي اختطتها شعوب جنوب شرق آسيا والهند، فان الفكرة الصلبة في الموضوع هي أن تحقيق التنمية لا يتم بالصوت العالي، كما لا يتحقق بمحاربة طواحين الهواء. في عالمنا العربي الذي تتوفر له مصادر ثروة أفضل بشكل نسبي مما يتوفر لكثير من دول شرق آسيا، ما زلنا نتصرف بتجاهل عناصر ضرورية للنمو المفيد، على رأسه إصلاح التعليم وتحقيق قاعدة أفضل من القوانين التي تحفظ للمواطنين حقوقهم وتبصرهم بواجباتهم. نهتم كثيرا بالشكل أكثر من الموضوع.ترى ما هو السبب، أسباب كثيرة إلا أن في صلبها افتقاد التصميم على خلق مستقبل أفضل، والدوران حول الذات. بعد سنوات قليلة سوف يشهد العالم نموا اقتصاديا وبحبوحة إنسانية ممتدة من الأميركيتين حتى جنوب شرق آسيا، المكان الفقير الذي يبدو انه سيبقى في العالم هو الشرق الأوسط، مكان عيش العرب وملعبهم السياسي العبثي الذي يستمتع باللهو في الجانبي والمهمش بدلا من الموضوعي والهام مما يفاقم الحروب والفاقة ومزيد من التخلف. [c1] نقلا عن /صحيفة (البيان) الإماراتية[c1]
في سايجون
أخبار متعلقة