مع الأحداث
مثلا، لماذا حصد تطوير المناهج الدراسية في السعودية كل هذه الضجة، ولماذا تمت مواجهة حالات الانفتاح التي شهدتها الصحافة السعودية بضجيج وعداوات لا مبرر لها، بل لماذا كانت الفضائيات وجوال الكاميرا وبطاقة المرأة مادة خصبة للمواجهة والتنديد والصراخ؟أولا.. ما الذي أحدثته كل تلك الفعاليات والمستجدات في الحياة السعودية؟ باختصار: إنها تحدث التغيير، والمزيد من التغيير، والخروج من سائد ومألوف إلى جديد غير مألوف.لكن مثل هذه الأمور ليس قرارا حكوميا ولا توجها رسميا يمكن أن يتم تغييره أو تأجيله، بل هو شكل من أشكال الحركة الطبيعية للحياة، حيث إن الحياة كفكرة إنما تقوم على التغيير، فالانتقال من يوم إلى يوم ومن عام إلى عام هو بحد ذاته فعل تغيير وتجدد، مما يعني أن التغيير مسار حياة، وليس مسالة اختيار وإقناع.من يمكنه أن يتذكر أمرا جديدا مر بهذا الوطن دون أن يحصد معارضة؟ هذا السؤال ليس من قبيل التحدي، لكنه بالفعل يشرح واقع الخوف من التغيير، على أن ما عقد مسألة المواجهة والمعارضة هو أن من تولوا حمل لوائها على امتداد عشرات السنين كانوا من المشايخ والفقهاء، والذين قادوا وأداروا كل عمليات المجابهة والرفض لكل أمر جديد حتى لو لم يكن مرتبطا بأمر ديني أو يمثل مخالفة دينية متفقا عليها، وهو ما أوجد تيارا دينيا تقليديا مهمته الأولى والأبرز هي الرفض والمواجهة والتصدي لكل جديد والمكافحة المستمرة لكل أشكال التغيير، وهي المهمة التي لم يحدث أن نجحت على امتداد التاريخ وحتى لو مرت بفترات وجدت فيها استجابة فهي غالبا ما تعود إلى خلل اجتماعي أو ثقافي أو إداري، لكن ما تلبث أن تعود الحياة لتكون حياة متجددة.ربما كانت التجربة السعودية من أكثر التجارب ازدحاما بهذه المواجهات، بين حياة طبيعية تتحرك باتجاه كونها حياة حقيقية، وبين الذين يعيشون ذعرا مفرطا من كل حركة تجنح بالسائد ليصبح ماضيا وبالساكن ليصبح متحركا، وهو ما جعل الفقه والوعظ، بل والتدين في السعودية يتحرك في اتجاهين: تقليدي ساكن، وبالتالي متشدد بسبب وقوفه أمام الحياة، ومدني يدرك أن حمل لواء الرفض والممانعة ليس صفة دينية أصلا، بل هي صفة ثقافية اجتماعية تم إلصاقها بالدين حينما ظهرت نسخ شعبية من التدين لا تعكس الروح المنطلقة ولا المتجددة للإسلام، بل تعكس الروح التقليدية والاجتماعية والبدائية، وعبر الوعظ والفقه والممانعة المستمرة تمت تقوية تلك الصورة لتصبح هي الصورة الأكثر حضورا للإسلام، بل لتصبح عدائية حتى ضد التصورات الدينية المماثلة التي تكون أكثر انفتاحا، وهو ما ساهم في تكوين انطباع اجتماعي بأن من أبرز صفات المتدين الرفض والتحفظ والممانعة (كيف أصبحت بعض الأسر ترى في أبنائها الملتزمين صداعا مستمرا).أوجدت هذه الصورة النمطية حالة من الجفوة الصامتة بين الناس وبين الممانعة والرفض المطلق الذي يقدم نفسه على أنه ينطلق من الدين وهو ما يفسر انجذاب الناس وبقوة واضحة حين يجدون فقيها أو مفتيا يعتمد على التيسير والقبول ودفع الناس للتصالح مع حياتهم، (راقبوا كيف يتحلق الناس الآن حول الدكتور سلمان العودة).بكل أسف فإن الخاسر الأبرز في هذه المعركة هم حملة هذه الأصوات، لكن تختبئ خلفهم خسارة بالغة الخطورة حين ينطبع لدى الناس أن هذا الوقوف في وجه الحياة والتغيير هو صفة دينية قادمة من الدين، وبإمكان الجميع أن يتساءلوا: هل سبق وعبر امتداد التاريخ السعودي أن أدت الممانعة إلى عزوف الناس عن أمر كانوا يريدونه ويمثل حركة طبيعية في حياتهم، بدءاً من رفض التعليم النظامي ومرورا بالبنوك وأسواق الأسهم والأغاني، وحتى في صغائر الأمور مثل جوال الكاميرا والعباءة التي على الكتف؟إن حصار التغيير هو أحد الأشكال المحسومة مسبقا، والمعلومة نتائجها، ذلك أن المحافظة التقليدية تجنح لفكرة تصادم الحياة، فهي سعي لأن تكون جزءا من السابق، وهو بالتأكيد ما لا يمكن أن يحدث، فلا أنت بالفعل من السابق ولا أنت ابن شرعي للحاضر لأنك تعيش جفاء مفرطا معه.أخذت تلك المواجهات طابعا آخر أكثر حدة، حينما انتقلت المجتمعات الحديثة من ممارسة الحياة الجديدة إلى التنظير حولها ووجود منابر وأفكار وكتابات ورؤى تسعى لتفسير ذلك وفلسفته ورعايته، وما يحدث الآن من هجوم على الصحافة والإعلام والكتاب ومختلف أصحاب الأطروحات الجديدة والتنويرية إنما يزدهر بسبب أنه يحول الحياة المدنية الجديدة إلى أمر معلن وشرعي وطبيعي، وهو ما يخيف المحافظة التقليدية ويجعلها أكثر ارتباكا وعدوانية.إن الجيل الجديد من الشباب والشابات في السعودية، يمثلون الجانب الفعلي والواقعي للحياة القادمة في السعودية والمزدهرة بتحولاتها ومستجداتها وآفاقها الجديدة، وهو جيل بات يدرك حالة الانكشاف التي تعيشها المحافظة، وغالبا لا يدخل في صراع مواجهة معها، ولعل أبرز ما يجرح شعورها هو حين تجد أن الأصوات التي تعارض حياتها لا تجد أي مبرر لتستند إليه سوى المبرر الديني.لا تعليم البنات ولا البنوك ولا الفضائيات ولا وسائل الاتصال الحديثة ولا عباءات الكتف ولا بطاقة المرأة ولا الأغاني ولا الاحتفالات بالأعياد حدث وأن شهدت أي تراجع في إقبال الناس عليها، بل تشهد ازدهارا مستمرا، وحين أدرك المحافظون المتشددون أن الناس لم يعودوا تلاميذ لهم اتجهوا لمجابهة من يحملون أفكار الناس في مختلف المنابر من كتاب ومثقفين ومسؤولين، وهي مجابهات ربما كانت حادة أو قاسية مع كاتب أو مثقف أو مسؤول أو فقيه تنويري، ولكنها بالتأكيد لا يمكن أن تعيد الناس إلى ما لا يمثل حياتهم وتطلعهم.إن الأذكياء فقط هم الذين يعيدون تحرير أدواتهم وأفكارهم، ويفرقون بين الالتزام والتشدد، وبين الإيمان والتقليد. لأنه حتى وإن هدأت المجابهة، فلن ينتصر سوى المستقبل.[c1]*عن/ صحيفة “الوطن” السعودية[/c]