جامعة عدن 30 ـــ 31 ديسمبر 2008م
محمد زكريا منذ أكثر من ثلاثين عامًا ، عندما كنت أدرس تحت ظلال أشجار العلم والمعرفة الوارفة في جامعة القاهرة وفي تلك الفترة المليئة بالشباب ، والحيوية ، والنشاط ، والفكر المتقد قرأت الكثير والكثير جدًا عن سيرة تاريخ العلماء والمفكرين المسلمين الذين بزغوا في سماء الأمة الإسلامية في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد ومن بينهم العالم الجليل النابغة الإمام محمد عبده الذي بدد بعلمه ، وبقلمه ، وفكره ظلمات الجهل التي كانت بعضها فوق بعض وصار علمًا من أعلام الفكر الحديث المصري والذي أخرج جامعة الأزهر الشريف من غياهب الجمود إلى آفاق التحديث في فروع العلم والمعرفة المختلفة ؟ وهناك أيضًا الكثير من المفكرين الإسلاميين في مصر الذين أسهموا مساهمة فعالة في نشر نور الحضارة الإسلامية . وكنت عندما أقرأ أو استمع في ندوة من الندوات التي كانت تعقدها الجامعة عن أحد المفكرين الإسلاميين في العالم العربي والإسلامي الكبار ، كنت أتساءل بيني وبين نفسي أين علماؤنا اليمنيون النوابغ الذين كانت لهم صولات وجولات في مقارعة الجهل والجاهلين ، وكانوا بحق كواكبُ ُ درية في سماء الثقافة والفكر اليمني والإسلامي ، لماذا لم يذكر مآثرهم في الندوات ، والمحاضرات التي كانت تعقد في الجامعة ؟ . وهذا الإمام الشوكاني المتوفى ( 1268 هـ / 1852م ) الذي كان فريد عصره ، فقد ألف الكثير من المؤلفات الدينية القيمة التي أضافت الكثير إلى الفكر الإسلامي . وهذا العالم الجليل الفذ الأمير إسماعيل بن محمد باسلامة الذي وقف يتحدى أهواء الظالمين من أجل مصالحهم الضيقة على حساب نور العلم والمعرفة وهذا العالم والمفكر الكبير نشوان بن سعيد الحِميري الذي خاض صراعاً فكرياً وسياسياً ومذهبياً شديداً في عصره . والحقيقة أنّ السبب الرئيس وراء كتابتي هذه المقدمة هى الندوة الرائعة التي أقامتها جامعة عدن من 30 ـــ 31 ديسمبر 2008م والتي خرجت بأزهى صورها وأجملها وذلك بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الشيخ الجليل ، والعلامة النابغة محمد بن سالم البيحاني الذي كان ومازال مفكرًا إسلامياً كبيرًا في تاريخ الفكر اليمني الحديث المعاصر . والحقيقة أنّ تخليد ذكراه هو كذلك تكريم أيضًا للعلماء اليمنيين الفطاحل الذين كانوا سراجًا مضيئا في سماء الفكر الإسلامي في اليمن . والحقيقة لقد تميزت الأبحاث التي قدمت على مائدة الندوة بأنها كانت أبحاثا علمية رصينة ، تناولت كافة جوانب حياة الشيخ بصورة تحليلية عميقة تدعو إلى الإعجاب والتقدير الكبيرين .[c1]المراحل الأولى[/c] ويذكر الشيخ أبوبكر العدني بن على المشهور في بحثه تحت عنوان ( وريقات تأملية : الشيخ العلامة البيحاني شاعرًا وأديبًا ومفكرًا ) المحطات الأولى في حياه عالمنا الجليل البيحاني وهى أنه ولد وتربى على حجر أسرة معروفة بالعلم والعلماء ، كما أنّ نسبه يرتفع إلى أحدى القبائل التي تسكن جنوب الجزيرة العربية وهى قبيلة ( آل الكدادي ) من سلالة الأشرس بن كِندة , وتقول المراجع التاريخية أنّ تلك القبيلة كان لها مكانة عالية في تاريخ العصر الجاهلي قبل شروق الإسلام . وتشير الروايات التاريخية أنّ الشاعر الذي ذاع صيته في الجزيرة العربية ذلك العصر الجاهلي والذي مازال شعره القوي يتردد صداه حتى هذه اللحظة وهو أمريء القيس التي تعود أصوله إلى قبيلة كِندة المعروفة برباطة جأشها ، وقوة بأسها . ويذكر المشهور بأنّ سبب تسمية الشيخ بالبيحاني نظرًا أنّ “ ... سكناه مع أهله وآبائه في مدينة بيحان “ وعلى أية حال كان ميلاده في )( 1326 هـ / 1908م ) بمدينة بيحان (حصن هادي ) مدينة القصابة .[c1]في مدينة العلم والعلماء[/c]ويذكر أبوبكر المشهور في صفحات بحثه ، أنّ البيحاني أصيب وهو في سن الخامسة من عمره بمرض افقده بصره ولكن الله سبحانه وتعالى عوضه بصيرة ثاقبة ، وإيماناً قوياً وعميقاً لا يتزعزع . ويشير الشيخ المشهور بأنّ العلامة سالم البيحاني عندما كان صبيًا تلقى مبادئ المعرفة والقرآن الكريم على يد والده ، وعندما بلغ البيحاني 13 عامَا رحل إلى مدينة تريم والتي كانت حينذاك مشهورة بأنها مدينة مزدهرة بالعلم والعلماء ، وكانت قِبلة طلاب العلم ، وكذلك طلاب الشهرة . وكيفما كان الأمر ، فقد وصل البيحاني إلى مدينة تريم سنة ( 1339هـ / 1921م ) . وهناك أظهر نبوغاً مما دفع بالكثير من شيوخ تريم الكبار أنّ يعتنوا به اعتناءًا كبيرًا ، وأنّ يحتضنوه . وهذا ما أكده مشهور ، قائلاً : “ ... ونزل ( أي الشيخ البيحاني ) برباط تريم ـــ أحد المعاهد الدينية الداخلية ــــ في 25 ذي القعدة 1339 هـ وحل محل الأسنى من قلوب مشايخه ومعلمه وفي مقدمتهم السيد العلامة عبد الله عمر الشاطري ، ومكث في تريم أربع سنوات وأربعة أشهر ثم عاد إلى بلاده “ . [c1] البيحاني والصوفية[/c] ويذكر المشهور الشيوخ الذي تتلمذ البيحاني على أيديهم في بداية حياته العلمية في مدينة تريم, ونستخلص من ذلك أنّ والده كان صوفي ( الهوى ) ودليل ذلك أنه أرسل ابنه إلى مدينة تريم وهى مركز الصوفية وأقطابها وأنه أيضًا كان من أتباع الشيخ الصوفي الكبير عبد الله بن عمر الشاطري . ومن المحتمل أنّ العلامة البيحاني شرب من ينبوع الصوفية في تريم أثناء دراسته مما زاد من شفافية روحه . فيقول ، المشهور : “ أخذ الشيخ محمد بن سالم العلم والتربية في تريم على جملة من العلماء الأفاضل ويأتي في مقدمتهم ، السيد العلامة القائم على الرباط ( المعهد الديني ) والمربي للسالكين فيه ؛ عبد الله بن عمر الشاطري ، وكان له أعظم الأثر في تربية الشيخ محمد بن سالم البيحاني “ . ومن الشيوخ الذين تتلمذ البيحاني على أيديهم وهم من أقطاب الصوفية في تريم بصورة خاصة وحضرموت بصورة عامة . يقول المشهور : “ سعيد بن عمر با غريب ، والسيد عبد الباري بن شيخ العيدروس ، والسيد علوي بن عبد الرحمن المشهور ، والسيد علوي بن عبد الله بن شهاب الدين ، والشيخ عمر بن عوض حداد وغيرهم الكثير والكثير ، وقد ظلت ذكريات أيامهم الأولى في ذهنه مدى حياته وفيها يقول : [c1] أعز الله أيام الوصال وإذ كنــــــــا مع السادة الأشراف في بلد ألغنا تريم التي طال الحديث بذكرهــا فيا حبذا ألغنا ويا حبذا المغنــــــى “ .[/c][c1]في الشيخ عثمان[/c] ويبدو أنّ البيحاني المتعطش للعلوم الإسلامية وفروعها المتنوعة ، بعد عودته من مدينة تريم الذي تتلمذ فيها على شيوخها الكبار ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . فكر وقرر على الاستزادة من الدراسة الدينية والتخصص بها . حقيقة مكث قرابة عامين في بيحان ، وألقى فيها الدروس الدينية إلاّ أنّ روحه الوثابة والمتطلعة دائمًا كانت ترنو إلى مراتب رفيعة في مجال الدراسات الإسلامية . وكانت عدن في تلك الفترة تمور مورًا بالحياة العلمية والثقافية ، وكانت بها العديد من الأندية والجمعيات الثقافية والإصلاحية ومنها نادي الإصلاح العربي الإسلامي التي كانت من أهدافه تشجيع الطلاب النوابغ في العلم إلى السفر إلى البلدان العربية كمصر ، العراق ، والسودان للدراسة في جامعاتها ومعاهدها ، ومدارسها . وكيفما كان الأمر ، فقد تمكن البيحاني السفر إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف . وقبل ذلك مكث في عدن فترة من الزمان ، ودرس على يد كبار شيوخها المعروفين حينذاك . ومن أهم شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم هو الشيخ أحمد العبادي الذي كان إمامًا وخطيبًا لمسجد ( زكو ) بمدينة الشيخ عثمان ، ولقد توطدت بينه وبين الشيخ العبادي صداقة قوية كان لها أثرها الكبير في تكوّين ثقافته الإسلامية . وكان ينادي العبادي إلى الرجوع إلى ينابيع الإسلام الصافية . وفي هذا الصدد ، يقول المشهور : “ ... ثم أراد والده السفر إلى عدن ، ونزل بمدينة الشيخ عثمان ، وتعرَف على الشيخ أحمد العبادي ، وكان شيخًا جليلاً حاذقا عالمًا له ميل إلى التجديد “ .[c1]في الأزهر الشريف[/c] وفي أثناء دراسته تعرَف البيحاني على العديد من الشيوخ والعلماء الكبار والذين كانوا لها باع طويل في العلوم الإسلامية ، وكانت لهم أيضًا صفحات مضيئة في الفكر الإسلامي أيضًا ، فتعرَف على شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت . وفي مصر المحروسة تعرَف أيضًا على رائد الحركة الوطنية اليمنية الشهيد الشاعر الكبير محمد محمود الزبيري . وبعد تخرجه منها ، سافر إلى السودان ودرس في أحدى جامعاتها . وفي هذا الصدد ، يقول الشيخ المشهور : “ ... وتعرَف البيحاني إلى جملة من العلماء ، ونال ثقتهم ، ومنهم الشيخ سيد سابق صاحب كتاب ( فقه السُنة ) ، والشيخ محمد الغزالي ، وشيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت ، والشاعر والأديب الأستاذ محمد محمود الزبيري ، تآلفا وتعارفا وتعاونا ، كما رحل الشيخ البيحاني بعد ذلك إلى السودان في جامعة بخت رضا ، وتخرج منها بامتياز “ . و نستخلص من كلام مشهور بأنّ البيحاني في مصر المحروسة أثناء دراسته في الأزهر الشريف تفتح ذهنه على الكثير من قضايا الأمة الإسلامية وبمعنى آخر غرست في نفسه بذور المواجهة والتحدي للجهل الذي ران على مجتمع عدن . [c1]المعهد الديني[/c] والحقيقة أنّ البيحاني بعد تخرجه من مصر والسودان ، كان لديه مشروع إسلامي ضخم هدفه تدريس العلوم الإسلامية على أسس علمية سليمة على غرار المعاهد العلمية الإسلامية التي كانت منتشرة في الكثير من البلدان العربية والإسلامية من ناحية وتأسيس مركز إسلامي يكون بمثابة إشعاع للعلم والمعرفة الإسلامية في اليمن من ناحية أخرى . وكان ذلك المعهد العلمي الديني الذي أسس في ثغر اليمن عدن المحروس . ويقول الشيخ المشهور : “ كما سعى ( البيحاني ) في تأسيس المعهد العلمي بعدن ، ورحل في سبيل جمع الأموال للإنفاق عليه إلى شتى البلاد ، ومنها العربية السعودية التي ساهمت في تأسيس المعهد بفاعلية كبيرة ، ورفدت المعهد بالمعلمين ، وكان للمعهد دور كبير في تخريج الطلاب الناجحين النابهين “ . وتحت عنوان ( الشيخ البيحاني مفكرًا ) يشيد المشهور بالبيحاني في دوره الكبير في إعداد المنهج التعليمي ، قائلاً : “ كما برز تفكيره الصائب في إعداد المنهج التعليمي للمعهد حيث حرص على أنّ يكون منهجًا حاويًا لمهمات العلوم الشرعية والعلوم التجريبية الوضعية “ . [c1] مع الحضارة الإسلامية[/c] والحقيقة أنّ البيحاني لم يكن عالمًا في العلوم الإسلامية وفروعها المختلفة فحسب بل كان شاعرًا مرهف الحس ، وأدبياً صاحب قلم رصين ، ومفكرًا حرًا . ولقد أشاد به رائد الحركة الوطنية في اليمن الشهيد الشاعر محمد محمود الزبيري ، قائلاً : “ واعتقد أنه ( أي البيحاني ) كان من أرفع المثقفين من شباب العرب ، وهو شاب عالم مستنير عب من معين الثقافة ، وعرف القديم والحديث ، واستفاد من الوان التيارات الفكرية المختلفة “ . والحقيقة أنّ البيحاني وهب وكرس نفسه في خدمة الدين والحضارة الإسلامية الرائعة التي كانت ترفرف حينذاك في كل مكان من ربوع العالم من شرقه إلى غربه وبمعنى آخر أنّ البيحاني سخر شعره ، وأدبه ، وفكره من أجل نصرة الإسلام والمسلمين . وفي هذا الصدد ، يقول المشهور : “ وها هو يكتب مقالاً أدبيًا في جريدة “ الجنوب “ ... فيقول في عنوان مقالته : “ إنّ أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وأود أنّ يعرف الناس مهمتي في نصرة الدين وخدمة البلاد ، وأنّ أجد من كل إنسان معونة ومناصرة “ . وكان البيحاني يردد دائمًا أنّ الحضارة الإسلامية التي أشرقت شمسها على الإنسانية وأخرجتها من الجاهلية إلى النور والضياء ومن الذل إلى العزة أنّ تلك الحضارة الإسلامية لها مقومات وأسس وقواعد يجب أنّ تقوم عليها ، فيقول : “ كلما داويت جرحًا سال جرح . وأود لو ( يهدم ) هذا البناء ويقام لنا صرح متين من الحضارة أساسه العلم والقوة الإخلاص في العمل ، جدرانه الدين والمعرفة والوطنية الصادقة والأخذ بأسباب المدنية حتى نسعد في حياتنا ونتخلص من الجهل الذي لازمنا قروناً طويلة وأبعدنا عن معزوفة وسائل العيش ومعالجة الأمراض “ . [c1]مع فلسطين[/c] ويذكر الشيخ أبوبكر العدني بن علي المشهور ، بعضاً من أبيات قصيدة للشيخ العلامة محمد بن سالم البيحاني عن فلسطين ، وفيها يرسم الخطوات التي يجب أنّ ننتهجها ونسير عليها حتى تعود ، فلسطين المغتصبة إلى أحضان الفلسطينيين ، فيقول : [c1]يا فلسطين يا أهم القضايـــــا كل شيء عليكم ليس بصعبلو صدقنا في عزمنا ومضينا وتركنا كلام زور وكــــــــذبما أتانا الشرير يحتـــــل دارًا عاش في ظلها كأضعف قــلبأتعيش اليهود حكـــام أرض ملكوها بحيلة وبغصـــــــــــب[/c][c1]البيحاني ومعاركه الفكرية[/c] ويتناول الأستاذ الدكتور علوي عبد الله طاهر في بحثه جانباً هاماً من جوانب نضال العلامة محمد البيحاني بعنوان ( الشيخ العلامة البيحاني في معاركه الفكرية ) هو بداية صراعه الشديد مع خصومه من أدعياء الدين الذين انطفأت جذوة أفكارهم ، أو بعبارة أخرى الذين كانوا يرون المُنكر المتمثل بالدجل ، والخرافات ، والشعوذة التي أقحمت على قيم ومبادئ الإسلام المثلى ، دون أنّ يحركوا ساكنًا أو بمعنى آخر كانوا يغضون الطرف حتى لا يهيجوا العامة من الناس عليهم وبذلك يحتفظون بمركزهم الديني ، وامتيازاتهم . والحقيقة أنّ عودة البيحاني إلى عدن بعد أنّ تخرج من الصرح العلمي الإسلامي الكبير الأزهر الشريف ، قد رأى ولمس عمّ أصاب مجتمعه من جهل بحقيقة جوهر الدين الإسلامي . وعندما ذكر البيحاني للأستاذ أحمد محمد نعمان ، أنّ مجتمع عدن بعيد كل البعد عن روح الإسلام الحقيقي ، وأنّ المنتفعين من الدين يسايرون الجهلة من العامة وهم الغالبية في عدن . وهذا ما أثار استغراب الشهيد الشاعر محمد محمود الزبيري الذي كان يرى أنّ الحياة الثقافية والفكرية في عدن أفضل بكثير من المناطق اليمنية . وينقل علوي طاهر عن الشاعر الزبيري صورة واقعية عن الحياة الثقافية الإسلامية التي كانت سائدة في تلك الفترة في مجتمع عدن والذي كان يعيشها البيحاني ، فيقول : “ فقد تبين لي أنّ الثقافة الإسلامية الصحيحة في عدن تكاد تكون مفقودة لقلة العلماء ، والثقافة الحديثة لم تأخذ بعد زمام السيطرة على الحياة الاجتماعية ، فكان من الطبيعي أنّ يصبح النفوذ الأدبي والروحي في يد الطبقة العامية ، فما من مثقف يحاول الإصلاح في هذه البيئة إلاّ وتعترض سبيله صعوبة معضلة من الأوهام التي مازالت هى معتقد الأغلبية الساحقة “ .[c1]الصحوة الإسلامية[/c] والحقيقة أنّ البيحاني ، كان لديه مشروع إسلامي واضح ـــ كما سبق وأنّ ذكرنا ـــ هو هدم الخرافات ، والدجل ، والبدع التي أدخلت على الدين الإسلامي لغياب الوعي الإسلامي الصحيح. ونستطيع أنّ نتجرأ ، ونقول أنّ مشروعه الإسلامي ، هو كان صحوة إسلامية . وكان من الطبيعي أنّ يصطدم هذا الشيخ والعلامة الجليل البيحاني بأدعياء الدين الذين ثبتوا أقدامهم في المجتمع ، فحاربوه حربًا لا هوادة فيها . ولقد قلنا : سابقاً أنّ عودته من الأزهر الشريف ، و لقاءه بعدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين هناك , قد غرست في نفسه ضرورة العودة إلى منابع الإسلام الأولى الصافية ولن يتم ذلك إلا بإحداث صحوة إسلامية في مجتمعه تنتشله من قيعان الجهل والتخلف . وهذا ما أكده علوي طاهر ، قائلا : “ عاد البيحاني إلى عدن بوصفه شيخاً أزهريًا حاملاً الشهادة العالية من الأزهر الشريف ، عاد وفي نفسه أمل للنهوض بالبلاد وإصلاح العباد ، خاصة أنه كان في مصر ، قد تشرب من معين ثقافتها ، والتقى بكبار علمائها ومفكريها ، واستفاد من الوان التيارات الفكرية التي كانت سائدة وقتها ، واطلع على قديم الفكر وحديثه فتأثر بذلك أيمّا تأثير “ . ويمضي في حديثه : “ ولكنه اصطدم بالواقع الثقافي المتردي في مدينة عدن ، فدخل في دوامة من الصراع الفكري والخلاف العقائدي مع بعض علماء عدن ومثقفيها منذ اليوم الأول لوصوله “ . التوعية والحقيقة أنّ البيحاني بمجرد وصوله إلى عدن ثغر اليمن ، شمر سواعده ، وأعد للأمور عدتها وذلك من خلال الخطب ، والمواعظ الدينية التي تشرح جوهر حقيقة الإسلام ، ومبادئه السامية, وقيمه الرفيعة , وألا تخرج عاداتنا وتقاليدنا عن إطار الإسلام : “ وكان البيحاني قد شرع بعد عودته إلى عدن من مصر في عملية توعيه مباشرة من خلال الخطب والمواعظ التي كان يلقيها على الناس في عددٍ من المساجد والجوامع ، دعا فيها إلى الأخلاق الفاضلة والآداب السامية ، والعادات والتقاليد الإسلامية الصحيحة ، ومحاربة الفساد والرذيلة وما أدخله على الإسلام أعداؤه وأهله الملحدون والمتنطعون والجامدون والمبتدعون مما لا يتناسب مع الكتاب المبين وسُنة سيد المرسلين ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ “ . [c1]منهجه[/c] ولقد وضع البيحاني نصب عينيه منهجًا لتوصيل رسالته المقدسة للناس على تباين مشاربهم الاجتماعية وهى التوعية الدينية ، فقد وجد جيلاً قديماً محافظاً لا يخرج عن نص الخطب والمواعظ القديمة الجامدة المتصلبة لا يمت بقضايا الحياة المعاصرة ، ومقابل ذلك وجد جيلاً جديداً انطلق من عقاله يريد هدم كل ما هو قديم ولذلك وجد أنه من الحكمة والضرورة أنّ يخط لنفسه منهجًا معتدلا يجذب به القلوب والعقول معًا وبذلك يحقق غرضه المنشود وهو نشر الإسلام الحقيقي في المجتمع . وفي هذا الشأن ، يقول علوي طاهر : “ لقد نهج البيحاني نهجًا جديدًا في عملية التوعية الدينية ، لا عهد للناس بها في عدن ، فقد قدم من مصر وعنده أمل واسع عريض يطمع به إلى أنّ يوجد في البيئة العدنية ثقافة إسلامية جديدة ، ولكنه وجد نفسه في البلاد وحيدًا محرجًا بين جيلين ، الجيل القديم المحافظ المتصلب ، والجيل الجديد المنطلق المتسرع “ . ويسترسل ، قائلا : “ ولن يرضى عنه هؤلاء ولا أولئك حتى يتبع خطتهم ، ولهذا فقد اتخذ لنفسه منهجًا معتدلاً مترفعًا يرعى عواطف الجمهور بالمحافظة على الظاهرة الشكلية لما أعتاده الخطباء ، على أنه قد تحمل في أسلوبه من عناء الإتقان والنظام والتدبير ما لا يفطن إليه السامعون ولا يشعرون به لأنهم لا يجدون في فهمه مشقة ولا عسرًا ، ولا يستطيعون أنّ يقفوا على ما أودع فيها من لطائف البيان البديع وطرائف التجنيس والتسجيع ، وما رصع فيها من الآيات والأحاديث الشريفة والحكم البليغة “.[c1]عاصفة من الحسد[/c] وثارت عاصفة من الحسد من قِبل بعض أدعياء الدين على الشيخ البيحاني الذي كان يخطو خطوات واثقة وثابتة في تعريف الناس حقيقة وجوهر الإسلام الصحيح الذي يرفض رفضًا تامًا الدجل ، والخرافات ، وكان إلى جانب إلقاء الخطب فوق منابر المساجد ، كان البيحاني أيضًا يكتب في عددٍ من الصحف ، فذاع صيته ، وبلغت شهرته الآفاق ، والتف الكثير والكثير جدًا من الناس حوله وحول أفكاره وآرائه ليس لكونه خطيباً مفوها ، وعالمًا جليلاً فحسب بل لكونه كان يتطرق إلى الكثير من القضايا الجريئة والجديدة والذي لا عهد للمجتمع بها . وفي هذا الصدد ، يقول علوي طاهر : “ لما كانت خطابات البيحاني متميزة في أسلوبها وجرأتها في الطرح وإثارتها كثير من القضايا التي لا عهد للناس بمناقشتها على المنابر والمجالس والصحف فإنها وضعت البيحاني في دائرة الضوء ، وبدأت الأنظار تتجه إليه وتتبع حركاته وسكناته ، وصار الناس مهتمين بما يقوله بل ويتناقلون كلامه ويرددونه في مجالسهم ، مما أثار حفيظة بعض علماء الدين في عدن الذين غاروا منه وحسدوه على ما لقي من حظوة واحترام من الناس ، فبدأ بعضهم في التحذير منه والتشكيك في صحة أقواله وصرف الناس عن الاستماع إليه وحضور مجالسه خوفاً من تأثيره فيهم ، ولكنه واجههم بأساليب شتى “ .[c1]مسجد العسقلاني[/c] لقد قلنا : سابقاً أنّ البيحاني كان يتعرض لمضايقات من أدعياء الدين الذين وجدوا فيه خطراً يهدد نفوذهم ، وشعبيتهم بين الناس وخاصة العامة منهم ، وكان يحرضوا الناس إلى عدم الاستماع إليه ، وكانوا في كثير من الأحيان يقفون حائلاً بينه وبين المساجد ليخطب على منابرها . وكان لا بد أنّ يحل البيحاني تلك المشكلة التي تقف حجر عثرة في ألقاء الخطب والمواعظ ، وحلقات الدروس الدينية في المساجد . ولقد وجد أنّ مسجد العسقلاني الواقع في أقدم الشوارع الشعبية بـعدن القديمة ( كريتر ) المسمى شارع حسن علي ، يحتاج إلى أعادة بنائه ، وتمكن بفضل شعبيته بين أوساط الناس على تباين مشاربهم الاجتماعية أنّ يعيد بناء المسجد والذي أفتتح في ( 1370 هـ / 1950م ) . ويقول علوي طاهر : “ فلم يكن أمامه ( أي البيحاني ) سوى إعادة بناء جامع العسقلاني بكريتر ... وصار متسعًا ليستوعب آلاف المصلين الذين كانوا يتوافدون إليه من المناطق المختلفة للصلاة خلفه ، وسماع خطبه ومواعظه خاصة يوم الجمعة “ . مؤلفاته قلنا : سابقاً أنّ الشيخ العلامة الجليل محمد بن سالم البيحاني ، كان لديه مشروع إسلامي أراد تحقيقه في عدن بعد تخرجه من الأزهر الشريف في مصر المحروسة ، وهو تجديد روح الإسلام أي بمعنى آخر العودة إلى ينابيعه الصافية بعد أنّ رأى الجهل قد مد ستاره على الحياة الإسلامية فيها . وكان السبيل إلى إزاحة غشاوة الخرافات والبدع عن عيون الناس هو الخطب والمواعظ ، وإلقاء الدروس الدينية . ولم يكتفِ البيحاني بالمواعظ والخطب ، وإلقاء الدروس العلمية بل وجد أنه من الأهمية بمكان أنّ يجسد أفكاره ، وآراءه الدينية للجمهور من خلال إصدار عددٍ من المؤلفات تكون في متناول الناس . ويذكر الأستاذ الدكتور علوي طاهر أنّ مؤلفاته بلغت قرابة أكثر من ثلاثة وعشرين ما بين كتابًا ، وكتيبًا على سبيل المثال : إصلاح المجتمع ، شفاء المصاب من لسعات العود والرباب ، أستاذ المرأة ، تحفة رمضان ، كيف نعبد الله ، من الفقه البسيط ، نحو المسجد ، أطيب الكلام في سيرة الأنام ، تربية البنين ، عبادة ودين ، وزوبعة في قارورة وغيرها من المؤلفات التي شرحت وفسرت بصورة جلية جوهر الإسلام الحقيقي من ناحية وعرف أيضًا الصورة المشرقة والمشرفة عن حضارة الإسلام الرائعة من ناحية أخرى .[c1] رئيس جامعة عدن [/c]لا يختلف اثنان أنّ الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح بن حبتور رئيس جامعة عدن ، يعد من أساطين الجامعة أو بمعنى أخر من أوائل الذين ساهموا مساهمة فعالة ونشيطه في تحسين وتطوير أداء الجامعة لتكون في مصاف الجامعات العربية المتقدمة . وكان ومازال يؤمن رئيس الجامعة إيماناً عميقاً بأنّ الجامعة يجب ألا يقتصر رسالتها على التدريس فحسب بل عليها رسالة مقدسة أخرى وهى أنّ تكون إشعاعاً حضارياً لنشر والعلوم والمعرفة وذلك من خلال تشجيع البحث العلمي من ناحية وإقامة الندوات العلمية الجادة المتنوعة النابعة من حياتنا الثقافية والفكرية والاجتماعية من ناحية أخرى . واليوم نشهد ندوة غاية في الروعة تجسد وتجسم مناقب ومآثر علم من أعلام الفكر الإسلامي في اليمن المعاصر وهو الشيخ العلامة محمد بن سالم البيحاني . والحقيقة لقد ضمت الندوة الكثير والكثير جدًا من الأبحاث القيمة التي تمثل مرجعًا من مراجع تاريخ حياة المفكر الإسلامي الكبير البيحاني الذي استطاع أنّ يخترق حاجز ظلام الجهل المتمثل بالخرافات ، والشعوذة ، والدجل الذي أدخل على الإسلام وهو بريء منها . ولقد تميزت الأبحاث والدراسات التي قدمت في الندوة عن سيرة حياة الشيخ والعلامة البيحاني بأتباعها منهج البحث التاريخي وهو الاستقراء ، الاستقصاء ، والاستنباط والتحليل العميق ، والشرح ، والتفسير الواضحين ، والعرض الجذاب . ونقدم ـــ أيضًا ـــ الثناء للأستاذ الدكتور أحمد علي الهمداني ، نائب رئيس جامعة عدن لشؤون الدراسات العليا والبحث العلمي لما بذله ويبذله في مجال البحث العلمي بالجامعة ، ونشكر أيضًا كل من ساهم في إنجاح تلك الندوة العلمية البديعة التي أعادت الاعتبار للشيخ العلامة الجليل البيحاني أبرز رواد الفكر الإسلامي في اليمن في التاريخ المعاصر .[c1]الهوامش : [/c]الشيخ أبوبكر العدني بن علي المشهور ؛ وريقات تأملية : الشيخ العلامة البيحاني شاعرًا وأديبًا ومفكرًا ، ص167 ، جامعة عدن 30 ـــــ 31 ديسمبر 2008م . د . علوي عبد الله طاهر ؛ الشيخ العلامة البيحاني في معاركه الفكرية ، ص 107 ، جامعة عدن ، 30 ــــ 31 ديسمبر 2008م .