استطلاع وتصوير / بديع سلطان لم يكن السجن يوماً مجرد جدران صماء وباباً حديدياً يعزل المتهم عمن حوله بسبب جرم ارتكبه في لحظة ضعف , أو في لحظة إهمال من المجتمع , ولم يكن السجين أبداً مجرد مجرم تسعى في إثره العقوبات والجزاءات وإنما السجن ما هو إلا إصلاحية يدخل إليها السجين فترة عقوبته ليتعلم فيه معنى العقاب لتكون هذه الفترة فترة محاسبة النفس وإصلاح وتأهيل .وما السجن إلا إنسان يمثل الإنسانية بكل معانيه , يجور عليه المجتمع تارة والظروف تارة أخرى فيتخلى - تخلياً مؤقتاً - عن المعاني النبيلة التي يمتلكها ليسقط في قعر الجريمة .وكثيراً ما يتبادر إلى مسامعنا أخباراً ممارسات لا أخلاقية وانتهاكات لا إنسانية يتم ارتكابها في غياهب السجون وظلماته , وتعذيباً وتنكيلاً بالسجناء , ولخطورة الأمر وخصوصيته أهتمت صحيفة ( 14 أكتوبر ) بالموضوع , ونزلت إلى السجن المركزي في عدن لاستطلاع ورصد أحوال السجينات من النساء على وجد الخصوص لأنهن - النساء - أقل تحملاً وتقبلاً لهذه الانتهاكات من اشقائهن الرجال .. فكان هذا التحقيق :[c1]اعترافات[/c]البداية كانت من مركز الإغاثة لرعاية المرأة في خور مكسر والذي يقوم برعاية السجينات المفرج عنهن بعد قضاء فترة عقوبتهن , وخاصة الحدث منهن وقمنا بلقاء مديرة المركز المحامية / عفراء الحريري , وكنا بصدد مقابلة عدد من نزيلات المركز لنتعرف على صور من حياتهن الماضية داخل السجون إلا أننا فوجئنا برفض المحامية لذلك معللة الأمر بأنها قد لاقت هي ومركزها الكثير من التضييق والمعاملات السلبية من قبل الجهات المسؤولة بسبب تحدثها للصحافة .. إلا أنها اعترفت بوجود ممارسات لا إنسانية ترتكبها السلطات المسؤولة على السجون بحق السجينات , وبحكم أن نزلاء المركز هن من المحافظات الشمالية - معظمهن - بالاضافة إلى محافظة عدن , فقد خصت المحامية / عفراء اعترافها بالسجون في محافظات مثل تعز وصنعاء وذمار .وبسؤالنا عن أوضاع السجينات في السجن المركزي في عدن قالت :" السجن المركزي في المنصورة القيادة الحالية للسجن عملت على تسحين أوضاع السجن ويعتبر السجن المركزي في عدن حالياً نموذجاً مقارنة بسجون تعز وصنعاء وسجون أخرى , لكن ذلك لا ينفي وجود تجاوزات " .[c1]لا تعذيب[/c]وبعد ذلك كانت وجهتنا الرئيسة صوب سجن النساء في السجن المركزي في المنصورة , بعد أن تكرم العميد / عبدالله قيران مدير أمن محافظة عدن مشكوراً بتوجيه قيادة السجن بتسهيل مهامنا هناك , والتقينا بمدير السجن العقيد / سيف أحمد محمد ناجي مدير السجن المركزي في عدن , الذي أحالنا بدوره إلى نائبه لشؤون الاصلاح والتأهيل العقيد / عبدالوهاب شكري , الذي سخر لنا وكان برفقتنا طوال جولتنا بسجن النساء .وفي لقاءنا بالعقيد / عبدالوهاب شكري واجهنا بما تحدثت به المحامية / عفراء الحريري مديرة مركز الاغاثة عن وجود تجاوزات فنفى وجود مثل هذه الأعمال , وقال : " إن المحامية / عفراء كانت من العاملين في السجن منذ سنوات وتعرف بنا يجري فيه " , ودعانا للجلوس مع عدد من السجينات واستجوابهن على انفراد للتأكد من ذلك .وقبل الجلوس مع السجينات كان لنا هذا اللقاء مع الأخ / عبدالجبار أحمد المنصوب وكيل نيابة السجن المركزي حيث قال : " إن هناك اهتماماً كبيراً من قبلنا بالشكاوي المرفوعة إلينا من السجينات , ونقوم بتشجيع رفع مثل هذه الشكاوي ضد القائمين على السجن , ونهتم بكل شكوى شفهية كانت أو مكتوبة , كما نقوم بأرشفة وتوثيق هذه الشكاوي التي تتقدم بها إلينا إحدى السجينات " .وعن طبيعة تلك الشكاوي وهل هي ضد المسؤولين والقائمين على السجن , أفادنا الأخ الوكيل بقوله : " إن تلك الشكاوي لا تتعدى أن تكون شكاوي ذاتية نتيجة شجار ما أو اختلاف ما بين سجينة وأخرى ولا تتجاوز ذلك " .مباشرة بعد ذلك كانت لقاءاتنا مع السجينات حيث قلن :- المعاملة طبيعية في السجن ولا تعدو سوى أبواب موصدة وسجينات قابعات خلف القضبان .- سجينة أخرى تنفي وجود أي أعمال تعذيب , وقالت : " إن من يلزم أدبه داخل السجن يكون بعيداً عن أي إجراء من قبل إدارة السجن , ولكن هناك بعض السجينات يقللن أدبهن داخل العنابر , من خلال بعض المشاجرات الشخصية التي تنشب بين السجينات ويتعرضن بموجبها لعقوبات مختلفة نعتبرها عادية " .- وعن طبيعة الأعمال التي تقوم بها السجينات في السجن قالت أخرى : " إن أعمالنا داخل العنابر لا تتعدى أعمال أي منها داخل بيتها , فالعنبر هو مكان تواجدنا , وباستمرار فإننا نقوم بتنظيف العنابر التي نتواجد فيها بغض النظر عن أي أوامر من القائمين على السجن " .- سجينة أخرى آثرت الحديث عن المطعم والمشرب في السجن , فحمدت الله على توفره داخل السجن في حين أن بعض الأسر قد لا تجده خلف اسواره , مما يؤدي بها إلى ارتكاب الجرائم للحصول عليه , ومن ثم يكون مآلها داخل أسواره " .- تلك الأحاديث الصادرة من السجينات كانت بكل عفوية وبكل طلاقة , وكانت على إنفراد دون وجود أي ضابط أو مسؤول من السجن .
[c1] قضايا السجينات[/c]- ومما تحدثن به أولئك السجينات , الأسباب والتهم التي زجت بهن داخل السجن , حيث كانت تهمة إحداهن تهمة إنها قتلت زوجها الذي غاب عنها وعن أولادها السبعة مدة تزيد على السبع سنين , ولم يكن غيابه سبب مصرعه , بل كانت نيته ببيع البيت الذي يأوي السبعة اولاد وأمهم ومن ثم الزواج بأخرى بثمن البيت , فوجدت الأم نفسها وأولادها أمام خطر التشرد فما كان أمامها إلا التخلص من زوجها الغائب كي يبقى - حسب قولها - الاولاد داخل البيت ويكون لهم مأوى .. وحسب قولها : " يذهب واحد ولا يذهب سبعة " !!- سجينة أخرى سجنت هي وزوجها وابنها بتهمة بيع الخمور , إلا أنها تقسم بعدم معرفتها بما كان يفعله زوجها وابنها داخل بيتها , وأبدت أسفها على أطفالها الصغار الذين لا ملجأ لهم لا أب ولا أخ ولا أم .- سجينة تحدثت إلينا وهي تحمل بين أحضانها وليداً لها سألناها عن تهمتها فأجابت : إن زوجها كان غائباً عنها مدة أربع سنوات وهي ما زالت بنتاً صغيرة السن , اضطرت للوقوع في الرذيلة , والسقوط في الفاحشة نظراً لإهمال زوجها لها وغيابه عنها .تهم وقضايا النساء قد تكون الظروف هي الدافع الأول وراء اندفاعهن نحو الجريمة , وقد يكون المتسبب المباشر بها غيرهن من أقرب الناس المحيطين بهن .[c1]جولة في سجن النساء [/c]بعد تلك الوقفة مع نزيلات السجن , واصلنا جولتنا مع العقيد / عبدالوهاب شكري نائب مدير السجن , وكانت أول محطاتنا في المدرسة الملحقة بسجن النساء , حيث كان في استقبالنا الأخت / فلسطين عوض سليمان مديرة مركز التعليم والتدريب النسوي في السجن المركزي التي تحدثت إلينا بقولها : " إن مركز التعليم والتدريب النسوي يضم في الأساس مدرسة متكاملة تقوم بمحو أمية السجينات على مستويين أساسي أول وأساسي ثاني , بالاضافة إلى توفير دورات كمبيوتر ودورات لغة انجليزية والتعليم الأساسي للسجينات , بالاضافة إلى صفوف تحفيظ القرآن الكريم , أما فيما يتعلق بالتدريب فنقوم بتدريب النساء على حرف متعددة كالصوف والحياكة والتطريز والخياطة , بالاضافة إلى المحاضرات الدينية والمواعظ " .[c1]اهتمام نفسي واجتماعي[/c]وخلال تنقلنا في أروقة السجن قمنا بزيارة قسم الخدمات الاجتماعية والنفسية وتفاجئنا بوجود باحثتين اجتماعيتين ونفسيتين يقمن باستجواب السجينات اللاتي يعانون من مشاكل اجتماعية ونفسية، وفي هذا الخصوص تحدث إلينا مرافقنا نائب مدير السجن العقيد عبدالوهاب شكري اخصائي نفساني ورئيس قسم البحوث النفسية والاجتماعية في السجن ورئيس قسم الاخصائيين النفسانيين وأول من أسس قسم البحوث النفسية والاجتماعية بالاضافة الى عمله كنائب لمدير السجن لشؤون الاصلاح والتأهيل حيث افادنا بقوله:هناك طاقم متكامل من الباحثين والاخصائيين النفسانيين والاجتماعيين وهناك اهتمام بجانب التأهيل النفسي والاجتماعي من قبل وزارة الداخلية بدليل وجود هذا الطاقم في السجن للحد من تكرار الجرائم ومعالجة مرتكبيها نفسياً واجتماعياً".
واستأنف حديثه : "... وقسم الاخصائيين النفسيين تأسس منذ فترة بعيدة في سجن المنصورة المركزي حيث تأسس عام 1983م ويقوم بتقديم خدمات جليلة تجاه نزلاء السجن سواء رجال او نساء والقسم في تطور مستمر ، فبعد ان كان يضم باحثاً اجتماعياً واحداً عند انشاءه اصبح اليوم يضم عدداً من الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين بالاضافة الى الاطباء المختصين."وشكر الاخ العقيد في حديثه جمعية الهلال الاحمر اليمنية ووزارة الداخلية لما يقدمانه من جهود في هذا المجال ، كما دعا الجمعيات الخيرية والاجتماعية للاسهام في دعم مراكز التدريب النسوي في مجالالت الخياطة والتطريز والتعليم الاساسي وتعليم دورات الكمبيوتر واللغة الانجليزية داخل السجن لان هناك صعوبات وعوائق تواجهها هذه المراكز داخل السجن نتيجة قلة المستلزمات الاساسية لتعليم النساء هذه الحرف والدورات حتى يتم تعليمهن تعليماً صحيحاً، وحتى يتمكن من الخروج من السجن الى المجتمع مسلحات بالعلم وبالمهن المختلفة وبالأمل الجديد لبناء حياة جديدة بنظرة جديدة.وفي الإطار نفسه تحدثنا مع اثنتين من المتطوعات كباحثات اجتماعية ونفسانية في السجن ، حيث تحدثت الاخت لارا خالد المنصري الباحثة الاجتماعية بقولها: "هناك بعض المشاكل تعاني منها السجينات داخل السجن، مشاكل نفسية واجتماعية وراء دخولهن السجن او ارتكابهن الجرائم ، ونحن نحاول بقدر المستطاع ان نحل تلك المشاكل بطرق وأساليب علمية مختلفة ، حيث نقوم بالجلوس معهن والحديث الودي معهن لمعرفة كل ما يعانون منه داخل السجن بمناقشة طبائعهن الاجتماعية ، والاسباب التي أدت ألى دخولهن السجن ، ويتم حل الكثير منها.ومن جانبها صرحت الاخت مارينا حامد صالح الباحثة الاجتماعية بالقول : ( أن هناك بعض الحالات يتم حلها بسهولة وعلى أيدينا ، لكن هناك حالات مستعصية تستوجب تدخل الأخصائيين النفسانيين والأطباء المختصين ، وهي حالات مثل التردد على السجن ، او التوتر النفسي الشديد الذي يؤثر على السجينات ويدفعن إلى تكرار جرائمهن حتى بعد خروجهن من جرائم سابقة ، فهي حالات صعبة تستوجب مختصين ).جهود كبيرة تبذلها المتطوعات الاجتماعيات والنفسيات داخل السجن ، وعمل هؤلاء يتبع مصلحة السجون كما افاد بذلك العقيد / عبدالوهاب شكري الا انهن ينتظرن التعيين الرسمي كأخصائيات اجتماعيات يتم اعتمادهن من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية بحكم دراستهن الاكاديمية وخبرتهن ، وليس كمتطوعات فحسب .
[c1]عيادة السجن [/c]جانب آخر من جوانب الرعايا داخل السجن كانت العيادة الصحية في السجن المركزي التي تقدم للنزيلات الخدمة الصحية ، وفي هذا الجانب أفادنا الرائد / صالح أحمد عمر رئيس قسم عيادة السجن بأن ما تقوم به العيادة على الرغم من تواضع إمكانياتها داخل السجن الشيء الكثير ، حيث تقوم الاهتمام بالسجينات صحياً ومعالجة ما يعانون منه داخل العيادة ، أما إن استلزم الأمر أو كانت الحالة فوق طاقة العيادة فيتم إرسالهن إلى مستشفيات عسكرية او مستشفيات قريبة متخصصة لعمل اللازم .وبالنسبة للصعوبات التي تواجهها العيادة ، صرح الرائد / صالح بقوله : ( إن الإمكانيات المحدودة التي تعاني منها العيادة تحول دون تقديم خدمات صحية متكاملة ، وأهم تلك الصعوبات هي عدم توفير الأدوية المختلفة ، نظراً لقله المخصص المالي بالعيادة الذي لا يتجاوز الـ 75 ألف ريال سنوياً لايكفي حتى لشراء أقراص بندول كافية السجينات ، ناهيك عن النواقص الأخرى كالمعدات والمحاليل الطبية المستخدمة في المختبر والتي نعاني من النقص فيها بشكل حاد ) .وأضاف : ( إن هناك العديد من الزيارات الرسمية تزور العيادة في فترات متباعدة كوزير العدل او وزير الصحة ، ويتم من خلالها توجيه الجهات المختصة بعمل اللازم تجاه العيادة ، الا أن الأمور مازالت على ماهي عليه ، لكنه نقوم بعملنا بحسب المتوفر وبقدر المستطاع ) .بالإضافة إلى ذلك قمنا بزيارة مدرسة مركز التعليم والتدريب النسوي وورش الخياطة والمعامل المنطوية ضمن مركز التعليم والتدريب النسوي وشاهدنا السجينات وهن يقمق بالعمل في الورش او في الدراسة داخل المدرسة وما ذلك الا صورة من صور الاعتناء بالسجينات وهي صور لم نكن نتوقع أن نراها في سجن المنصورة المركزي . [c1]رسالة [/c]كل ما رأيناه داخل السجن يدعو للإيجابية والتفاؤل ، وبكل صراحة كنا نظن أن نحصد آلاما وآهات وعذابات وأشواك من داخل السجن ، الا ان حصادنا من خلال هذه الزيارة كان تفاؤلاً وورداً وآمالاً.وإن كان لنا رسالة لابد أن تصل فهي رسالة ينقلها اليكم الأخ / فتحي محمد يحيى باحث اجتماعي ومشرف التعليم والتدريب الرجالي في السجن الذي كانت له كلمة مهمة يجب أن يهتم المسؤولون على السجون اليمنية للحد من انتشار وتكرار تردد النساء والرجال على السواء إلى السجون وهي كما يقولها الأخ / فتحي : ( إن ما يعاني منه السجين أو السجينة بعد انقضاء فترة عقوبته بالسجن هي عدم المتابعة من قبل قيادة ومسؤولي السجن بتوفير عمل ما ، اوبتريتب ظروف خاصة للسجين او للسجينة بعد خروجهما من السجن حتى لا يعود اليه مرة أخرى).وأضاف : ( أن السجن لا يصدر شهادات تخرج ولا يشهد بتخرج هذه السجينة او تلك من محو الامية في السجن او بنيلها دورات كمبيوتر أو لغة انجليزية أو دورات حرفية من السجن لأن ذلك ينفر أرباب العمل من التعاون مع السجينات بحكم أنهن خريجات سجون ، لذلك أنا أرى أن على المسؤولين على السجين توفير أعمال مناسبة للسجينات تمنعهن من العودة إلى أحضان الجريمة مرة أخرى).