تأملات في عبقرية البردوني وإبداعه
لماذا تحيز للشعر العمودي وكيف رأى ربيع الحب وتغنى به ؟عبدالقوي الاشوليقال إنه الضرير الذي رأى كل شيء إذ شكل رفضه الاعتراف بالعمى كل تلك الإرادة أو هي البصيرة التي عرف بها شاعر اليمن العظيم عبدالله البردوني وهو الشاعر العربي الذي ذاع صيته وأوجد لعالمه الشعري مكاناً متميزاً إلى درجة إن ذكر اليمن ووجودها في عالم العطاء الإنساني والثقافي منه الشعر بالطبع لم يكن إلاّ مقترناً باسم البردوني ذلكم الضرير الضالع في اللغة الممسك بقواعده في كل نتاجاته وتجلياته .. ربما سألنا أنفسنا ذات يوم ونحن نقف مبهورين نشد مسامعنا الى ذلكم الرجل الضرير وهو يلقي شعره الذي يبدو لنا منساباً كدفق الينابيع المتلخص عذب مائها النمير من ثنايا الصخور الصلدة .سألنا ذاتنا كيف أمكن لرجل فقد بصره وهو في سن الصبأ من امتلاك هذا القدر من المعرفة والموهبة في حين إننا المنعمون بكامل حواسنا أعجز عن مجاراته ولو بالالمام بلغتنا الام أثناء احاديثنا العامة .. مفارقة لانجد لها من جواب .. عدا معرفتنا إن المرء حين تجابهه صنوف الاقدار القاسية يطلق قدراته ويحفزها .. او هو تعويض الخالق للعبد وهو تعويض يتعدى قدراتنا العادية المتواضعة لذلك كان البردوني طيب الله ثراه علماً شعرياً نفاخر به ونعتبره واحداً من رموز هذه الامة الثقافية ..فهل كان كما وصفه البعض آخر الشعراء الكلاسيكيين الكبار؟يبدو لي الامر كذلك فعدد من الشعراء العرب على غرار البردوني ممن غيبتهم عنا يد المنون تركوا فراغاً سحيقاً .. بحكم امتلاكهم حجماً من الثراء والعطاء الذي لايمكن مجاراته بأي حال او مقارنته بعطاء آخر ظهر بعد ركب الراحلين عنا الاّ أن الامر لايمكنه أن يمنع ظهور اعلام شعرية .. يمثل عطاؤها امتداداً لهؤلاء ومدرستهم الشعرية بكل ماعرفت به من حقيقة امتلاك ناصية الابداع والتفرد والتميز ..فصيرورة الحياة دون شك متجددة .. الاّ أن لكل رهط من هؤلاء لونه ومكانته التي لايمكن أن ينازعه عليها أحد .. وإن بدت اليوم كلاسيكية الشعر ليست بنفس وهج ازمنة الشعراء الكبار أمثال البردوني والجواهري وبدوي الجيل وابو ريشة ونحوهم .فالبردوني الذي اصابه العمى وهو صغير اي في عامه الخامس أدخل الضوء الى ذاته بحبه للحياة .. لذلك رسم طريقه وعالمه .. وتعايش بصورة مدهشة للغاية مع ما أصابه عندما انطفأ مصباح جسده الاّ وهو النظر الذي يعد نعمة لبني البشر لايدركها الاّ من عانى من الحرمان منها .ما الغريب حقاً في عالم الراحل الشاعر البردوني هو تضلعه في المسائل الفقهية .. وهو أمر بنى عليه فيما بعد تلك الصور الشعرية التساؤلية التي تتلمس عدل السماء بعين بني البشر حتى تكون الحياة على صدر جنتهم الارضية أكثر سعادة واشراقاً وشعوراً بالمحبة وفيضها الذي يطلق عنان الابداع البشري في مختلف ميادين الحياة .. حين تأمن النفس الانسانية الى محيطها وتتفاعل معه .. ذلك ما ينشده رسل المحبة والعشق من الشعراء .بآمالهم واحلامهم وصفاتهم الانسانية المترعة بالعواطف الرافضة للعنف وكل ما يتناقض ووداعة بني البشر الذي ميزهم الخالق ورزقهم من كل شيء فعندما سأل البردوني ذات يوم عن مقدرته تلك خصوصاً وقد فقد حاسة التواصل المعرفي قال :- استطيع القول أنني تابعت وقرأت كل نتاجات الادباء الكبار أمثال طه حسين ونجيب محفوظ واقضى ما لايقل عن ثماني ساعات مستغرقاً في القراءة.وهي قراءة عبر وسيط .. ألم تكن تلك هي ارادة التفوق التي لازمت شاعرنا الراحل منذ أن أحس بوطأة فقدان حاسة البصر؟ويرى البردوني أن الشعر العمودي .. سيظل قائماً عند من اجادوه مثل الراحل محمد مهدي الجواهري ومحمد المجذوب وعمر ابو ريشة وبدوي الجبل .فيما يرى أن القصيدة العمودية الرديئة تبقى رديئة بمعنى أن شاعراً بقامة البردوني يزن الامور من زاوية الابداع اولاً وبالتالي فإن التحيز للشعر العمودي لا يستقيم لديه إذا كانت عموديته قد جعلته يبدو باهتاً ..أي أنه يتحيز في نظرته الادبية وحكمه للعمودي المتطور أليس هو القائل :يا ابنة الحسن والجمال المدلل أنت احلى من الجمال وأجمل وكأن الحياة فيك ابتساموكأن الخلود فيك ممثلوهاهو في تصوير ربيع الحب أحلى ربيع عند المحبين أما كيف تمثل شاعرنا ربيع الحب فذلك ما تعززه معرفتنا اليقينية إن الشاعر ذو الحسن الجمالي المفرط القادر اصلاً على تجسيد صورة ربيع الحب في ذاته .فنجده يقول :ياربيع الحب يافجر الهوى ما احلاك وما اشذاك نشراتبعث الدنيا وجلو حسنها مثلماجلو ليالي العرس بكراوثبت الحب في الاحجار لو إن للأحجار أكباداً وصدراأما الغريب في امر من يقول مثل هذه الابيات أن يرى في نفسه بعد إذن سارقاً للحب متطفلاً على عوالمه الجميلة .أنا سارق الحب وحدي أنا خبيث السقا قذر المرتع هوت اصبعي في زهرة حلوة فلوثت من عطرها اصبعي إنه تقديس لعالم الحب .. ورفع لمكانة المحبوب الذي وصفه بالزهرة لما في الزهرة من عطر وشدى ومظهر جمالي أما الاكثر مدلولاً في تشبيه هذا المخلوق الانثوي بالزهرة .. هي أن الزهرة لفرط رقتها لا تحتمل اصبعاً .. وهي ادوات تعمد في اختيارها الشاعر حتى تبدو الصورة بموحية بحجم تقديسه للمرأة التي هي زهرة ربيعية .. لا تحتمل ثقل هذه الاصبع التي هوت على طراوتها .ربما هو اعتراف في خلفيته ماتجابه المرأة من طغيان وجبروت الرجل وهو ذات الرجل الذي يفتقد الحس الجمالي وربما الانساني في تعامله مع تلك الزهرة .. لذلك أختار الشاعر كلمة هوت للتعبير عن فعل خشن على نسمة رقيقة لا تستحق منا ذلك أو أننا لا نستحقها بممارستنا نمطاً من السرقات التي هي سرقة الحب .