محمد صالح أمين : تتجه غالبية الدول في الوقت الحاضر، وعلي اختلاف اتجاهاتها، إلي أن الفساد والانحراف واستغلال السلطة والنفوذ من الأمور التي يستوجب العقاب عليها، أو التعويض عنها، أو أعادة الحال إلي ماكان عليه . ولكن المشكلة الأساسية في هذا الخصوص أن التشريعات الجنائية في هذه الدول لم تعد كافية في تنظيم ومعالجة هذا النوع من الإجرام والانحراف المنظم، والذي بدأت معالمه و آثاره و نتائجه أو تداعياته تظهر، لا علي المستوي المحلي فقط ، بل و علي المستوي الإقليمي والدولي . ومما يزيد من خطورة هذه الظاهرة أنها قد أصبحت لاتمس المجني عليهم فقط، بل أصبحت تلحق اضراراً جسيمة بمجموع أفراد المجتمع سياسياً و أقتصادياً و اجتماعياً. 4. يصبح الشخص منحرفا عند تغلب الافكار والاراء التي تشجعه او تدفعه الي مخالفة احكام القوانين، علي الاراء التي تحث علي التمسك بها واحترامها.5. تتضمن عملية اكتساب السلوك المنحرف، وبصفة خاصة جرائم سوء استخدام النفوذ والسلطة، جميع الجوانب والاليات الخاصة بذلك. وهذا يعني ان عملية التعلم هذه ليست عملية تقليدية او روتينية. وانما نتيجة للمخالطة الفارقة المستمرة مع رجال الاعمال والشركات او اصحاب النفوذ، او ما يماثلهم. والتي تؤدي الي التمسك باراء ومفاهيم تحبذ او تشجع اوترسخ السلوك الانحرافي التحايلي.6. اذا كانت المخالطة او الاحتكاك يعتبر فرضا يفسر بموجبه تردي الفرد في السلوك المنحرف، فان (التفكك الاجتماعي)) هو فرض اخر يفسر السلوك الانحرافي من وجهة نظر المجتمع. وهذا التفكك يتمثل في نقص المعايير والقيم التي توجه او تقود سلوك افراد مجتمع معين. ووجود خلاف او صراع بين الافراد او الجماعات تجاه نمط معين من المعايير والقيم.وفي مجال (التفكك الاجتماعي) يوجد هناك عاملان يؤثران في ارتكاب جرائم اساءة السلطة. (الاول) ان هذا النوع من السلوك الانحرافي معقد وله صبغة فنية.ولا يمكن ملاحظته او اكتشافه بسهولة من قبل الفرد العادي. (ثانيا) ان المجتمعات في الوقت الحاضر تتغير بصورة سريعة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وفي هذا التغير السريع يميل الكثيرون من افراد المجتمع الي نبذ او تحطيم العادات والمفاهيم القديمة. ولابد من مرور فترة طويلة لتنمية وترسيخ عادات ومفاهيم جديدة لبناء وتطوير المجتمع.- اما بالنسبة لحجم جرائم الفساد واساءة استخدام السلطة. فيلاحظ ان الاحصائيات الموجودة في معظم الدول تكون قاصرة في توفير البيانات والمعلومات اللازمة والدقيقة عن هذه الجرائم. لما يشعر بها من عيوب فنية وبشرية.وهي تدخل في نطاق ما يعرف (بالارقام المجهولة) فهذه الجرائم في اغلبها او في عمومها لم يتم الكشف عنها او لم تصل الي علم الجهات المسؤولة، لاسباب مختلفة قانونية او غير قانونية.ان المشكلة الاساسية بالنسبة لهذا النوع من الجرائم هي عدم امكان الكشف عنه، او عدم امكان ظهوره في الاحصائيات الرسمية، او في واقع الحياة القانونية. لان سوء استخدام السلطة عادة يكون اما بدافع تحقيق مكاسب سياسية، او تحجيم معارضة سياسية. وفي مثل هذه الاحوال لا مجال للبحث عنها في الإحصائيات الجنائية.. ولكن قد تكون هناك مؤشرات او دلائل اذا كان سوء استخدام السلطة يرتكب لتحقيق مكاسب خاصة.كما هو الحال في الرشوة والفساد المالي.وكذلك الحال في الجرائم الاقتصادية. ومع ذلك لن تعطي لنا الاحصائيات الرسمية الارقام الحقيقية لتقرير حجم هذه الجرائم. بسبب انها لا تتعامل الا مع الوقائع التي تصل الي علم السلطات العامة.. لقد جاء في بعض الدراسات الخاصة ان صور الرشوة قد تغيرت بتطور الحياة الاقتصادية. وان هذا التطور قد ساعد علي إيجاد صور جديدة للرشوة بالقدر الذي تلاءم طبيعة هذا التغيير في التركيب الاقتصادي للمجتمع، وطبيعة بناء المؤسسات او المرافق الادارية التي تصاحب تغيير النظام الاقتصادي. وتشير هذه الدراسات ان جرائم الرشوة المحكوم بها لا تمثل الصورة الحقيقية للرشوة والفساد. وتوجد هناك نسبة كبيرة منها لم يتم ضبطها او الكشف عنها، واحالتها الي القضاء. وتبين الدراسات ان جريمة الرشوة والفساد المالي ترتكب من قبل كبار الموظفين وصغارهم. وانها منتشرة بين فئة المتعلمين تعليما عاليا من الذكور والاناث. هذا وقد ادي هذا النقص في الاحصائيات الي تدخل الصحافة ووسائل الاعلام للكشف عن الانتهاكات الادارية والقانونية التي تحدث والتي لم تستطع اجهزة العدالة الجنائية ان تلحق بها اوتكشف عنها.ومما يذكر ان المشكلة الاحصائية قد تتعقد كثيرا علي المستوي الدولي، وخاصة بالنسبة للانتهاكات او الخروقات او الانحرافات التي ترتكبها المؤسسات الاقتصادية الكبري والشركات متعددة الجنسية والاتحادات الاقتصادية الدولية (الكارتل).وقد يكون من المناسب ان نشير هنا الي بعض الدراسات والبحوث العلمية التي تناولت موضوعات متعددة في هذا الخصوص.ومن اهمها:-- دراسات ميدانية عن الانحراف السياسي لتحقيق مكاسب سياسية، او اخماد معارضة سياسية.- دراسات ميدانية عن انتهاك حقوق الانسان، وكيفية معالجة هذه المشكلة موضوعيا وإجرائيا.- دراسات ميدانية عن الشركات الاحتكارية المحلية او الاقليمية او الدولية. والهيئات التي تتحكم في الاقتصاد القومي وانحرافاتها.- دراسات ميدانية عن التهرب من الاعباء الضريبية علي مستوي الجماعات والهيئات والمستوي الفردي.- دراسات عن وقائع الاعتداء علي المال العام من قبل السلطات والاجهزة العامة نفسها.- دراسات عن الانحراف الاداري في مرافق الدولة المحتلفة.- دراسات في ظاهرة الفساد والرشوة بصورة عامة.- وفيما يتعلق بالثغرات والتعقيدات القانونية والاجرائية في شأن حالات الفساد وسوء استخدام السلطة.فأننا نجد ان غالبية القوانين التي ادخلت في كثير من الدول النامية والحديثة، ومنها العراق، هي قوانين مستوردة.والمشكلة التي تطرح نفسها بصفة عامة هي هل ان هذه القوانين نابعة عن الواقع الاجتماعي في هذه الدول. ام هي في حاجة الي التغيير او التعديل..ولقد ظهر ان قانون العقوبات العراقي مثلا في كثير من نصوصه لا يستطيع مواجهة التطورات السريعة الحاصلة في المجتمع. وتشير كثير من الوقائع ان نظام الرشوة لا يمكن القضاء عليه. وان نصوص الرشوة لم تستطع سوي معاقبة الجرائم التافهة القليلة الاهمية التي يتم كشفها والقبض علي مرتكبيها من بسطاء الناس، وترك اصحاب النفوذ والسلطة او اصحاب الياقات البيضاء من كبار الموظفين بدون عقاب. بل ان الوقائع والدلائل تؤكد ان غالبية المرافق الادارية والانتاجية في الدولة غير قادرة علي مواجهة الانحرافات الادارية والاقتصادية والمالية لاسباب كثيرة. من اهمها عدم فعالية الجزاءات الادارية والجنائية. ويزيد الحال تعقيدا في مجال جرائم سوء استخدام السلطة ان هذه الجرائم وخاصة بالنسبة لانماطها الاقتصادية لا يتم الكشف عنها فورا. بل قد تظل اثارها وتداعياتها قائمة ردحا من الزمن تحت ظل نظام قانوني قائم. دون ان يشعر المجتمع بخطورتها. ويظهر ذلك بوضوح في الجرائم والانحرافات التي ترتكب من الشركات الاقتصادية الاحتكارية والشركات متعددة الجنسيات. وكذلك من اصحاب المهن الحرة.. وهكذا يتضح جليا ان جرائم سوء استخدام السلطة تتطلب من جهة اعادة النظر في فعالية نصوص القوانين الجنائية والاجرائية القائمة تجاه الانماط الحديثة من هذه الجرائم.وكذلك اعادة النظر كلية في النظام القضائي واجهزة العدالة الجنائية. نظرا للقصور الذي تعتريه هذه الاجهزة والمحاكمات التقليدية المعمول بها.ويكون واضحا ان اعادة النظر في تنظيم العدالة الجنائية لا يعني فقط تعديلاً في الاجراءات الجنائية او المؤسسات القضائية، بل لابد من ان يوضع في الاعتبار الاجهزة المعاونة. كأجهزة الرقابة الادارية. ومن اهم صور واشكال اجهزة الرقابة ذات الصلة هي الرقابة الشعبية الفعالة عن طريق اللجان البرلمانية المتمثلة بلجان الاستماع والتحري والتقصي في المجلس النيابي. مثلما هو معمول به في بعض الدول المتقدمة كأنكلترا والولايات المتحدة الامريكية وغيرهما ، حيث تقوم لجان البرلمان (الكونغرس) الامريكي بسماع الرأي في القضايا الخطيرة، او الاتهامات الموجهة الي اعضاء الحكومة والمسؤولين الاداريين والماليين. والتحقيق في الجرائم المنظمة بصورة خاصة. ومن هنا تظهر اهمية التوصيات في هذا الشأن.* مراجعة القوانين الجنائية والاجرائية المعمول بها.وما يعتريها من ثغرات تشجع علي ارتكاب الجرائم المتميزة.* عدم منح الامتيازات الخاصة التي قد تؤدي الي ابعاد افراد معينين او مؤسسات او منظمات او شركات من طائلة القانون والعقاب.* حماية السلطة القضائية وضمان استقلاليتها عن السلطة التنفيذية. ودعمها بعناصر او قضاة اكفاء من ذوي الخبرة والحيدة والنزاهة، حتي تستطيع القيام بواجباتها بشكل ايجابي وفعال ومؤثر.* اعطاء الدعم الكافي لاجهزة الامن وتطوير امكانياتها البشرية والمادية والفنية، لكي تتمكن من مواجهة قضايا الفساد والانحراف وسوء استخدام السلطة.* ايجاد اجهزة ادارية فعالة لمواجهة تصرفات الافراد والمؤسسات والمنظمات، باشكالها وانواعها المختلفة.* انشاء جهاز فعال للمحاسبة لمراجعة نشاطات المؤسسات واجهزة الدولة المختلفة بصفة دورية ومنظمة.* الاخذ بالنظام الديمقراطي الحقيقي الذي يكفل الحقوق الاساسية للانسان. ويمنع استخدام السلطة بشكل تعسفي من سلطات واجهزة الدولة.* كفالة حرية الانسان وكرامته من خلال الحفاظ علي حقوقه وتحديد واجباته.* كفالة قيام البرلمان او المجلس النيابي بواجباته بصورة جدية وفعالة وبحرية تامة، من شانها منع جرائم سوء استخدام السلطة بجميع انواعها وصورها.
|
فكر
الفساد وإستغلال النفوذ
أخبار متعلقة