محمد زكريافي يوم الأحد 25 رجب سنة 922هـ الموافق 24أغسطس سنة 1516م ، دارت معركة حامية الوطيس بين الدولة المملوكية المصرية والدولة الفتية العثمانية في وادي مرج دابق بالقرب من حلب . ولقد وصف بعض المؤرخين العثمانيين المعاصرين المعركة بأنها كانت مجزرة , فقد غطت جثث الطرفين المملوكي والعثماني وجه أرض المعركة ووصلت الدماء إلى الركب وأظهر المماليك المصرية والجند العثمانيون رباطة جأش وقوة في القتال والنزال ، والطعان لا توصف . ووصف السلطان سليم الأول العثماني ( 1512 ـــ 1520م ) سلطان المماليك المصرية قنصوة الغوري بأنه قاتل قتال الشجعان . وتذكر المصادر التاريخية أنه لم يسقط من على فرسه إلاّ بعد أن أثخنته الجراح الغائرة والدماء الغزيرة المتدفقة من جسده النحيل , ولفظ أنفاسه الأخيرة وهو قابض على سيفه وهو ابن السبعين عاماً . وبعد معركة مرج دابق صار الطريق مفتوحاً وممهداً للدولة العلياالعثمانية إلى البلدان العربية ومنها اليمن فغربت شمس مصر المملوكية ، وأشرقت شمس الخلافة العثمانية في سماء العالم العربي والإسلامي . وطويت صفحة وفتحت صفحة جديدة في تاريخ أحداث الوطن العربي والعالم الإسلامي بصفة عامة وتاريخ اليمن الحديث بصفة خاصة والذي كان مليئاً بالأحدث العظام ، والأمور الجسام . وكان فتح العثمانيين الأول لليمن الذي امتد حكمه فيها أكثر من تسعين عاماً ( 1538ـــ 1635م ) أهم وأخطر الأحدث والمشاهد التاريخية وإنّ لم يكن أخطرها التي شهدتها اليمن .[c1]الخلافة الأموية والعباسية[/c]وقبل أن نخوض ، ونتطرق إلى تفاصيل قصة الفتح العثماني في اليمن أو بعبارة أخرى ارتباط اليمنيين بالخلافة العثمانية ، وهناك سؤال هام دائماً يطرحه المؤرخون المحدثون ، والباحثون وهو هل الدولة العثمانية كان ظهورها ضرورة تاريخية وحتمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي بعد أنّ أفل نجم الخلافة العباسية على يد هولاكو زعيم المغول في سنة ( 656هـ / 1258م ) بعد أن قتل آخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله بعد دخوله بغداد حاضرة العالم الإسلامي , وعاصمة الخلافة التي حكمت الوطن العربي والإسلامي أكثر من خمسمائة عام ؟ . وقبلها كان الوطن العربي و العالم الإسلامي تحت مظلة الخلافة الأموية ( 41هـ / 662 م ) , والذي حكمته قرابة أكثر من 80عاماً صارت الخلافة للعالم العربي والإسلامي ضرورة سياسية حتمية حيث شعرت الأمة العربية والإسلامية بالأمان والطمأنينة وبأنهم كيان واحد تحت مظلتها . وعندما أشرقت الخلافة العباسية سنة ( 132هـ / 749م ) بعد أنّ قضت على الدولة الأمية لم يحدث تغيير في نظر الشعوب العربية والإسلامية واعتبرت الخلافة العباسية امتداداً طبيعياً للخلافة الأموية وكل ما حصل من تغيير هو تغيير الخلفاء وسياستهم ولكن ظلت الخلافة الإسلامية هو الشيء الراسخ و الثابت في عقول وقلوب ، ونفوس ، ووجدان الناس على تباين فئاتهم الاجتماعية ، ومشاربهم الثقافية . [c1]المكانة الروحية[/c] وعلى الرغم أن الخلافة العباسية أصابتها الشيخوخة واعتراها الضعف ، وصار الخلفاء العباسيون وتحديداً بعد الخليفة العباسي الواثق المتوفى سنة ( 233هـ / 848 ) آخر الخلفاء الأقوياء من بني عباس دُمية وألعوبة بيد القواد التُرك ، والوزراء . وعلى الرغم أن الخليفة العباسي كان في أواخر الخلافة العباسية يحكم صورياً , وليس لديه من الحكم سوىَ الاسم واللقب فحسب بل أن البعض منهم لا يمكث في سرير الخلافة سوىَ يوم وليلة مثل الخليفة المعتز بالله المقتول سنة ( 255 هـ / 869 م ). ويصف ابن الطقطقي صورة مأساوية و مروعة عن أحوال الخلفاء العباسيين الضعاف في العصر العباسي الثاني على يد القواد الأتراك ، فيقول : “ إلاّ أن الأتراك كانوا قد استولوا منذ قتل الخليفة المتوكل على المملكة واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاؤوا ( شاءوا ) أبقوه وإن شاؤوا خلعوه وإن شاؤوا قتلوه “ . ويذكر الأستاذ أحمد أمين أنه على الرغم من سطوة القواد الترك على الخلفاء العباسيين في أواخر عهد الخلافة العباسية إلاّ أنّ الأخيرين ، كان لهم مكانة روحية كبيرة بين الرعية “ . . . وظلت هذه السلطة الروحية فيهم ، يستغلها القواد والأمراء والوزراء ، وأصحاب السلطان المادي ، فيستجلبون رضى العامة بإعلان رضى الخليفة عنهم وإمداده الروحي لهم. ومن مظاهر ذلك في هذا العهد أنّ رأينا البيعة للخلفاء تحاط بأنواع من المراسم والشعائر لم تكن معروفة ، وتؤكد البَيعة في الحرم ، ويعلي شأن أجماع أولى الحل والعقد ونحو ذلك “ . [c1]ماذا تعني الخلافة الإسلامية ؟[/c]وذكرنا في السابق ، أنّ المغول التتار قضوا على الخلافة والخلفاء العباسيين بغزوهم بغداد وتدميرها وقتلهم آخر الخلفاء العباسيين . وكان ذلك يعني خلو الساحة العربية والإسلامية السياسية من الخلافة العباسية التي كانت بمثابة مظلة ضخمة تقي الشعوب العربية والإسلامية من الخطوب ، والمحن ، والفتن الداخلية و الخارجية ويشعر الناس تحت ظلها وكنفها بالأمن والأمان والطمأنينة . وكانت الخلافة العباسية تمثل للشعوب العربية والإسلامية الحصن الحصين ، والركن الركين. حقيقة حاول بعض المماليك في القاهرة أنّ يعيدوا للخلافة العباسية رونقها وصورتها التي كانت عليها من الهيبة والأبهة مرة أخرى ولكن لأغراض شخصية بحتة تتمثل في أنّ ينعم الخليفة العباسي في القاهرة عليه بموافقته بأنّ يتولى سدة الحكم وبذلك يكون له القوة والنفوذ والسلطان ، والصولجان ، وبذلك يضفي على حكمه الحق الشرعي في حكم البلاد والعباد. وهذا ما فعله السلطان الظاهر بيبرس المتوفى سنة ( 676هـ / 1277م ) ، عندما جلس على كرسي السلطنة ، استدعى أحد الأمراء العباسيين إلى القاهرة ونصبه خليفة عباسياً . وكان الغرض من السلطان الظاهر بيبرس من أحياء الخلافة العباسية هو أنّ يضفي على حكمه الصبغة الشرعية في الحكم ــــ كما قلنا سابقاً ـــ . وهذا ما أكده الدكتور قاسم عبده قاسم ، قائلاً : “ . . . كان إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة خطوة هامة جعلت من الظاهر بيبرس حاكماً شرعياً يستمد سلطانه ونفوذه من تفويض الخليفة العباسي في القاهرة “ . وقبلها كان بعض السلاطين والملوك الأقوياء أمثال السلطان صلاح الدين الأيوبي المتوفى ( 589 هـ / 1193م) والذي كان أقوى شخصية حاكمة ظهرت على مسرح الوطن العربي و العالم الإسلامي السياسي محرر القدس من براثن الصليبيين سنة ( 583 هـ / 1187م ) ، فقد كان دائماً متصلاً بالخليفة العباسي. إدراكاً منه أنّ حكمه لا بد أنّ يصبغ بالصبغة الشرعية . وعندما رحل آخر الخلفاء الفاطميين ( العاضد ) عن مسرح الحياة السياسية في القاهرة ( 567هـ / 1170م ) “ أعاد ( صلاح الدين ) الخطبة للخليفة العباسي فوق منابر القاهرة “. وبذلك عادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية السُنية بعد أنّ كانت تحت حكم الفاطميين الشيعة أكثر من مائتي عام ( 358 ـــ 567 هـ / 969 ـــ 1171م ) . وهكذا ، كانت الخلافة الإسلامية لها مدلول عظيم الشأن سواء لدى الحكام والمحكومين على حدِ ِ سواء في الوطن العربي والعالم الإسلامي . [c1]الفراغ السياسي [/c]وعندما جنحت شمس الخلافة العباسية إلى المغيب التي حكمت العالم العربي والإسلامي أكثر من خمسمائة عام . شعرت الشعوب العربية والإسلامية بالفزع والرعب الكبيرين ، وبلغت القلوب الحناجر وبات هناك فراغ سياسي كبير بعد سقوطها على يد المغول التتار ــ كما قلنا سابقاً ــ وكان من جراء ذلك أنّ تفتت الأمة العربية والإسلامية إلى أجزاء ، و اشتعلت المنطقة العربية والعالم الإسلامي بالقلاقل والإضطرابات والحروب الطاحنة . فقد كان لظهور الخلافة أو الدولة العثمانية ( 699 ـــ 1342هـ / 1299 ـــ 1924م ) بعد زوال الخلافة العباسية حتمية تاريخية أو بعبارة أخرى كانت كل الأوضاع السياسية مهيأة لظهورها على مسرح الوطن العربي والعالم الإسلامي . وعندما كانت السلطنة العثمانية في أوج قوتها وازدهارها ، كان الوطن العربي والإسلامي يتمتع بالسيادة المطلقة على مقدراتها ولم يكن أحد من تلك القوى أو الدول الأوربية تجرأ أن تقتحم عرينه أو تستطيع تعكير صفوه السياسي . فقد كانت الخلافة العثمانية تمثل للأمة العربية والإسلامية جداراً قوياً يحميها من انقضاض الكواسر , والجوارح المتمثلة بالقوى الأوربية . وعندما تكالبت عليها المؤامرات ، والدسائس من كل مكان ، وجلس على كرسي السلطنة خلفاء ضعاف منغمسين في اللهو والملذات ، وتركهم مقاليد الحكم وشئونه للقواد والوزراء أصحاب الثقة ، والمصالح الشخصية الضيقة ، وعم الظلم ، والفساد ، كل مفاصل من مفاصل الدولة , فتحطمت قوتها وضاعت هيبتها في أعين الآخرين ، فنفذت القوى الأوربية من خلال تلك الثغرات التي حدثت في جدار الخلافة العثمانية . وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد عُمارة : “ وفي اللحظة التي بدأت فيها الدولة العُثمانية . . . تفقد ميزاتها وكفاءتها ـــ أي القوة التي جعلت منها جداراً أخر الاجتياح الاستعماري لوطن العروبة ، وعالم الإسلام ــــ وعندما امتلأ بالثغرات التي نفذ منها الغرب الاستعماري ، بالامتيازات الأجنبية ، وبالتقليد لحضارته الذي سمي (( تحديثاً )) “. وبذلك سقطت البلدان العربية والإسلامية في نفوذ القوى الأوربية الطامعة في الاستيلاء عليه .[c1]المماليك المصرية والبرتغاليون [/c] وكانت البرتغال أول القوى الأوربية التي نزلت إلى سواحل الجزيرة العربية الجنوبية ، والمحيط الهندي في القرن ( 16م / 10هـ ) بغرض احتكار تجارة الشرق من ناحية والسيطرة على منابعه ومصادره التي كانت تدر أرباحاً خيالية من ناحية أخرى . ولقد كانت أيضاً من الأغراض الرئيسية للحملة البرتغالية على سواحل الجزيرة العربية الجنوبية هو “ نشر الكاثوليكية ومحاربة المسلمين “ . وعلى أية حال ، وكان من نتائج اكتشاف البرتغاليين الطريق المباشر المؤدي إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح أنّ باتت التجارة الشرقية تحت سيطرتهم ونفوذهم فقد كانوا يملكون أسطولاً بحرياً قوياً مدججاً بالمدافع الضخمة ، والبنادق الفتاكة . ومن أجل أنّ يسد البرتغاليون المنافذ البحرية للسواحل العربية الجنوبية على السفن العربية أنّ ضربوا حصاراً محكماً على موانئ الجزيرة العربية الجنوبية من خلال إغراق السفن العربية في عرض البحر سواء المتجهة إلى الهند أو الآتية منها أو القيام بتدمير وتخريب موانئ السواحل العربية الجنوبية . والحقيقة أنّ البرتغاليين ، كانوا يدركون تماماً خطورة الأسطول البحري المصري على أسطولهم في المحيط الهندي وتحديداً بالقرب من السواحل الغربية الجنوبية الهندية. فركزوا كل قواهم على ضربه . والجدير بالذكر أنّ الأمراء الهنود طلبوا من السلطان الغوري في القاهرة مساعدته لإنقاذهم من البرتغاليين الذين كانوا يهددون ولاياتهم في الهند ــــ. وعلى أية حال ، دارت بين الأسطول البرتغالي والمملوكي معركة (( ديو )) البحرية أمام السواحل الهندية حيث “ أحرز البرتغاليون نصراً حاسماً في 2 فبراير سنة 1509 أمام سفن الحلف المصري الهندي التي بلغ عددها مائة سفينة . وكان البرتغاليون يدركون خطورة السفن المصرية ، إذ كانت هي السفن الوحيدة المسلحة بالمدافع بين سفن هذا الحلف الكبيرة العدد ، ولذلك تعمد البرتغاليون مهاجمة السفن المصرية فقط والقضاء عليها “ . وكان على العثمانيين بعد زوال دولة المماليك المصرية أنّ يتحركوا في صد غزو البرتغاليين عن المنطقة العربية وتحديداً السواحل العربية الجنوبية ، وفك الحصار الذي فرضوه عليها مما دفعهم إلى التوجه نحو السواحل اليمنية و السيطرة على عدن سنة 1538م ، وتحوليها إلى قاعدة بحرية لتكون نقطة ارتكاز وانطلاق لمواجهة الأسطول البرتغالي . وكانت عدن أول الموانئ اليمنية الهامة التي سيطر عليها العثمانيين .[c1]خريطة الأوضاع اليمنية السياسية[/c]والحقيقة من ينظر بتمعن في خريطة الأوضاع السياسية اليمنية قبل مجيء العُثمانيين إلى اليمن سنة 1538م ، سيلفت نظره الصراعات السياسية بين القوى المحلية ، فالدولة الطاهرية التي ظهرت على مسرح اليمن السياسي سنة ( 858 هـ / 1454م ) بعد أنّ ورثت حكم الدولة الرسولية الذي امتد حكمها على اليمن نحو أكثر من مائتي عام ، دخلت بحروب شديدة مع خصومها السياسيين ، وكان من أبرزهم الإمام شرف الدين الذي كان يمثل القوى الزيدية والتي أزادت قوته بعد سقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب ومقتله على يد المماليك عام ( 923هـ / 1517م ) . والحقيقة أنّ اختفاء السلطان ( عامر ) أعظم سلاطين الدولة الطاهرية عن مسرح اليمن السياسي أدى إلى حدوث إضطرابات وقلاقل ، وفوضى في الساحة السياسية اليمنية . وقد تنازع على السيطرة على حكم البلاد ثلاث قوى محلية هي القوى الزيدية المتمثلة بزعامة الإمام شرف الدين والتي كانت مؤهلة أنّ تتبوأ مكانة متميزة على مسرح اليمن السياسي ، والبقية الباقية من الأسرة الطاهرية ، والمماليك . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ وكان سقوط هذا السلطان على يد المماليك . قد أدى إلى انتشار الفوضى والاضطراب في اليمن لمدة طويلة ؛ إذ لم يتمكن المماليك أو أحد أفراد أسرة السلطان عامر حينذاك من أنّ يسيطر على الأوضاع في اليمن “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ وترتب على هذا أنّ قام صراع طويل بين ثلاث قوى هي ، الزيديون بزعامة الإمام شرف الدين ، وبقايا الأسرة الطاهرية ، والمماليك “ . ويلفت نظرنا ، أنّ القوى الزيدية تنفرد بحكم اليمن أو بعبارة أخرى تسيطر على الكثير من المناطق اليمنية قبل مجيء العثمانيين إلى اليمن . وكان من الطبيعي أنّ يحدث الصدام بين القوى المحلية الزيدية ، والعثمانيين الذين أرادوا أنّ يثبتوا حكمهم ويرسخوه في أرض اليمن . والحقيقة أنّ العثمانيين ، كان الغرض الرئيس من دخولهم إلى اليمن هو السيطرة على سواحله بهدف الوقوف والتصدي ضد المحاولات البرتغالية في إختراق مياه البحر الأحمر من جهة وعدم ضرب موانيه من جهة أخرى ـــ كما أسلفنا سابقاً ـــ . وقبل ذلك ، حاول العثمانيون التصدي للأسطول البرتغالي في المحيط الهندي ولكنه فشل في ذلك . وكيفما كان الأمر ، فقد كانت الأعمال البحرية التي قامت بها الدولة العثمانية سواء في سواحل البحر الأحمر الجنوبي أو المحيط الهندي ، قد أوقفت إلى حدِ ِ ما نشاط الأسطول البرتغالي. وعندما وطأت أقدام العثمانيين سواحل اليمن . كان من البديهي أنّ يرنو العثمانيون بأبصارهم إلى داخل المناطق اليمنية لتثبيت وجودهم السياسي فيها .[c1]العُثمانيون وسياستهم[/c]والحقيقة أنّ العثمانيين عندما وطأت أقدامهم السواحل اليمنية مثل عدن ، زبيد وغيرهما ، وجدوا ترحيباً كبيراً من الناس نظراً للحروب الدامية والمستمرة بين القوى المختلفة في اليمن كالأئمة الزيدية ، الإشراف ، المماليك والبقية الباقية من الأسرة الطاهرية ، التي سببت لهم الكثير ً من الويلات ، والمصائب ، والمحن. فوجد اليمنيون بصورة عامة أنّ وجود العثمانيين سيعمل على القضاء على الفوضى ، والاضطرابات الضاربة أعماقها في تربة اليمن السياسي ، ونشر الأمن والاستقرار في ربوعه . والحقيقة أنّ السلطان سليمان القانوني ( 1520 ـــ 1566م ) ـــ وهو أعظم سلاطين الدولة العثمانية ـــ ، كان يتحلى بالنظرة السياسية الثاقبة ، والرؤية الواضحة لطبيعة الحياة السياسية في اليمن . فإنه أدرك تماماً أنّ القوى الحقيقة التي في الإمكان أنّ تمثل للخلافة صداعاً وأرقاً كبيرين هى القوى الزيدية المتربعة في المناطق الشمالية ولذلك أمر السلطان قواده في اليمن ألاّ يحتكوا بالإمام شرف الدين الذي كان يمثل القوى الزيدية في المناطق الشمالية من اليمن ــــ كما قلنا سابقاً ـــ ، وأنّ يعملوا على تهدئة الأوضاع السياسية فيها . فقد “ . . . أرسل السلطان ( سليمان القانوني ) مرسوماً ثالثاً إلى الإمام شرف الدين بإبقاء الأوضاع القائمة في اليمن كما هي ، وبتكليفه بإرسال القوافل إلى (( عدن )) ، و بالعمل على استتباب الأمن في البلاد “ . وإذا تمعنا في قراءة محتوى المرسوم السلطاني للإمام شرف الدين سنتخلص منه بأنّ السلطان وضع الإمام تحت خدمته من ناحية وفي نفس الوقت منحه مكانة متميزة عن باقي القوى السياسية الأخرى في اليمن بأن طلب منه بتثبيت دعائم الأمن في البلاد من ناحية ثانية وأنّ يجس موقف الإمام شرف الدين من فتح العثمانيين لليمن من ناحية ثالثة وأخيرة . “ ولذلك كان العثمانيون يحتاجون إلى التهادن ولو مؤقتاً مع القوى المحلية وخاصة الزيديين حتى لا تثير هذه القوى المتاعب في وجه القوات العثمانية “ . والحقيقة أنّ الإمام شرف الدين رأى أنه من الضرورة ألاّ يدخل في صدام عسكري مع العُثمانيين نظراً أنها كانت تمثل قوة عسكرية مرهوبة الجانب . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ ومن ناحية الإمام شرف الدين ، فلا شك أنه كان يرى أنّ يقف من العثمانيين موقفاً متهادناً . . . يتسم هذا التهادن بالحذر والاستعداد في نفس الوقت ، وذلك لأنه كان يشعر من ناحية بضعفه العسكري أمام العثمانيين “ .[c1] العثمانيون والأخطاء الفادحة[/c]والحقيقة أنّ الحروب التي دارت بين القوى المحلية اليمنية المختلفة والعثمانيين على أرض اليمن لم تكن تعود أسبابها إلى أنّ العثمانيين يمثلون دولة غازية أجنبية وإنما كان يعود إلى الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الكثير من الولاة العثمانيين في اليمن المتمثلة بالظلم ، والفساد ، والنهب ، والسلب ، مما أثار ثائرة اليمنيين فالتفوا حول القوى الزيدية التي رأت الأخيرة أنّ وجود العثمانيين في اليمن خطراً يهدد مصالحها المادية ، وزعامتها على كثير من مناطق اليمن ، فأججت مشاعر اليمنيين ضد هؤلاء الولاة العثمانيين المفسدين الذين استغلوا نفوذهم في تحقيق مآربهم الشخصية ، فاندلعت المعارك الطاحنة بين الطرفين حتى خرج العثمانيون من اليمن سنة ( 1044هـ / 1635م ) . قلنا سابقاً : أنّ اليمنيين بصورة عامة لم يروا في دخول العثمانيين إلى اليمن بأنهم غزاة أجانب بل مسلمين ، وأنهم يدينون بالطاعة للخليفة العثماني بالطاعة والولاء طالما لا يتدخل في شئونهم الخاصة بهم أو بعبارة طالما لا يتدخل في شئون القبائل ومشايخهم ، وعندما أخذ بعض الولاة العثمانيين التدخل الواضح في شئون مشايخ القبائل من جهة والتقدم إلى داخل مناطقهم من جهة أخرى لترسيخ نفوذهم بها اشتعلت نيران الحروب بين اليمنيين والعثمانيين ولم تنطفئ جذوتها إلى عندما خرج الآخرين من اليمن سنة 1635م ,تحديداً في عهد الإمام المؤيد محمد القاسمي . [c1]العثمانيون يعودون[/c]وتذكر المصادر التاريخية أنّ العثمانيين يعودون مرة أخرى إلى اليمن في سنة 1849م وتحديداً في تهامة اليمن ( زبيد ) ويدخلون صنعاء سنة 1872م . وكانت من الأسباب التي دفعت السلطنة العثمانية العودة إلى اليمن بعد تلك المدة الطويلة من خروجها منها هو أفتتاح قناة السويس سنة 1869م ، فكان من السهولة أنّ تجرد حملتها إلى اليمن أو المناطق التي ترغب في إخضاعها . ولقد رغبت السلطنة بإعادة هيبتها ، وتجديد حيويتها ، وشبابها ، وقوتها من خلال إثباتها للقوى الأوربية بأنها تمتلك القوة العسكرية القادرة على السيطرة على الولايات العثمانية في الوطن العربي التي فقدتها . والحقيقة أنّ اليمن ، كانت تعيش في حالة من الفوضى ، والاضطراب السياسي ، والصراعات بين القوى المحلية والذي لم يحسم أحد منها الموقف السياسي لصالحه ، مما أثر تأثيراً خطيراً على حياة الناس من مختلف الوجوه المعيشية و تردي الأوضاع الاقتصادية وغياب الأمن والأمان في البلاد مما دفع ببعض القوى المحلية الاستنجاد بالباب العالي العثماني لكونه سلطان الوطن العربي والعالم الإسلامي الذي سيعمل على إنقاذ العباد والبلاد من مخالب الفوضى السياسية التي تمزق اليمن ، والبعض منها يرى أنّ الاستنجاد بالسلطنة العثمانية سيقوي جانبه على حساب الآخر . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ وكان هذا القرن ( 19م ) شاهداً على بداية ضعف السلطة المركزية في صنعاء ، وعلى تفتت البلاد بين عدد من مراكز القوى المحلية ، مما جعل (( الأطراف )) موضع طمع القوى المحلية بها . وكان هذا مما أغرى محمد علي باشا على البقاء في اليمن عدة سنوات ، وعلى أنّ تسرع بريطانيا إلى إحتلال عدن . . . وانتهزت السلطنة العثمانية فرصة هذا الضعف ولجوء بعض القوى الداخلية إليها ، لتمد سيطرتها من الحجاز إلى تهامة اليمن ثانية في عام ( 1849 ) ثم إلى صنعاء في عام ( 1872م ) “ . [c1]اليمن ولاية عُثمانية[/c]والحقيقة أنّ السلطنة العثمانية على الرغم من الضعف الذي أصابها من جراء تكالب الدول الأوربية وعلى رأسهم إنجلترا ، وروسيا القيصرية التي كانت تطمع بأملاك السلطنة ، والحروب والفتن ، والقلاقل التي اشتعلت في كل مكان من ولاياتها بسبب المؤامرات والدسائس والمكائد التي دبرها أعداؤها من ناحية والأخطاء الفادحة التي وقع بها الساسة العثمانيين في السلطنة في إدارة شئون ولاياتها المختلفة من ناحية أخرى فإنها لم تتنازل عن ولاياتها وعملت على بسط نفوذها السياسي فيها ومنها ولاية اليمن التي كانت تعد من أكبر الولايات العثمانية. فرفضت رفضاً قاطعاً التخلي عنها على الرغم من المشاكل والصعوبات القاسية التي واجهاتها من جراء الثورة العنيفة الذي خاضتها القوى المحلية ضدها المتمثلة بالإمام القائم ( يحيى ) والتي كلفتها الكثير من الرجال ، والمال والجهد , واعتبرت اليمن ولاية عثمانية لا يمكن التفريض بها أو التنازل عن جزء من أجزائها .[c1]اتفاقية صلح دعان[/c] ودليل ذلك عندما عقد صلح ( دعان ) بين ( الإمام ) والسلطنة العثمانية سنة 1911م . فإن مواد الاتفاقية نصت بصورة صريحة وواضحة بأنّ اليمن ولاية تابعة للسلطنة العثمانية ، وأنّ يعترف الإمام بالحق الشرعي للسلطنة على اليمن . والحقيقة كان الغرض الرئيس من تلك اتفاقية ( دعان ) هو إخماد نار الحرب على أرض اليمن لتوجه السلطنة مجهودها الحربي إلى الولايات المشتعلة بالثورات والتمردات ، والحروب كالبلقان التي كانت توقد نارها روسيا القيصرية العدو اللدود للسلطنة ، و( طرابلس الغرب ) ليبيا التي زحفت عليها إيطاليا لسلخها من السلطنة العثمانية بتأييد ضمني من إنجلترا حيث غضت الطرف عن أعمالها الحربية فيها. وفي هذا الصدد ، يقول سيد مصطفى سالم : “ والغريب أنه لم يكن المقصود من وراء هذا الصلح سوى تهدئة الأوضاع في اليمن ، وتوفير تلك الحملات الكبيرة التي أرسلت إليه حتى تتمكن السلطنة العثمانية من مواجهة باقي الأخطار التي تواجهها في البلقان وفي ليبيا ( طرابلس الغرب ) . فقد نصّ اعتراف الصلح في مقدمته على اعتراف الإمام بالسيادة العثمانية على ولاية اليمن مقابل اعتراف العثمانيين بزعامة الإمام للطائفة الزيدية . وقد أكدت هذه المقدمة باقي مواد الصلح ، كما أكد هذا المعنى أنّ اليمن بقيت موحدة ولم تقسم إلى قسمين كما قيل . فقد نصّت المواد الأولى إلى الرابعة على أنّ تصدق مشيخة الإسلام في استانبول كذلك الحكومة العثمانية على تصرفات الإمام ، عند اختيار قضاة المذهب الزيدي ، وعند تشكيل محكمة الاستئناف في صنعاء ، وعند تنفيذ حكم القصاص على أحد الأفراد “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ وفي مقابل ذلك أعطت المادتين الخامسة والرابعة عشر الإمام الحق في إبلاغ الولاية أية شكاية من ( المأمورين ) ومن ( جباة الأموال ) ، على أنّ تقوم الولاية مع الحكام ( القضاة ) بالتحقيق في هذه الشكايات وفي تنفيذ العقوبات “ . وفي ختام حديثه عن نصوص مواد اتفاقية ( دعان ) يؤكد الدكتور سيد مصطفى سالم , أنّ السلطنة العثمانية لم تتنازل عن الولاية العثمانية للإمام يحيى وإنما منحته بعض الامتيازات له والذي كان يسعى إليها لتحقيقها أثناء تمرده على العُثمانيين ، وفي هذا الصدد ، يقول : “ وهكذا يتضح أنّ السلطنة العثمانية لم تتنازل عن ولاية اليمن ، كما لم تقبل بتقسيمها ، بل ظلت محتفظة بها كاملة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ، ولكنها ضمنت وراء هذا الصلح الهدوء في هذه الولاية “ . ويضيف ، قائلاً : “ وحقق الإمام بعض المصالح الشخصية من و راء عقد هذا الصلح ، فقد اعترفت به السلطة القائمة زعيماً للطائفة الزيدية “ . [c1]الجزر اليمنية والسلطنة العثمانية[/c] ودليل آخر على تمسك السلطنة العثمانية باليمن يتمثل باهتمامها الكبير بسواحله حيث كانت تجيش الجيوش في بعض موانيه الهامة كالمخا ، والحديدة وذلك لخشيتها من محاولة القوى الأوربية النزول إليها كإيطاليا التي كانت لها أطماع واضحة في سواحل اليمن ، وجزره بعد إقامة مستعمرة اريتريا في سنة 1890م . ولقد بذلت السلطنة جهوداً كبيرة من أجل الحفاظ على الجزر اليمنية أو بعبارة أخرى إثبات وجودها في تلك الجزر حتى لا يتجرأ أحد من القوى الأوربية من السيطرة عليها على الرغم من ألاوضاع السياسية والعسكرية الصعبة التي كانت تمر بها ليست في داخل اليمن فحسب بل في داخل عاصمتها استنبول . على أية حال ، عملت السلطنة العثمانية على الاهتمام بالجزر اليمنية من خلال إقامة الفنارات فيها وفي هذا الصدد ، يقول سيد مصطفى سالم : “ بدأت السلطنة العثمانية الاهتمام في ( 1881م ) بتجديد وتحسين نظام الفنارات في البحر المتوسط وبعض الفنارات في الساحل اليمني وذلك عن طريق شركة الفنارات العثمانية . . . وقد استقر الرأي على اختيار أربعة أماكن قريبة من الساحل الشرقي للبحر الأحمر ـــ تخص جنوب هذا البحر ـــ هي ميناء المخا ، وجزيرة أبو علي ، و جزيرة الزبير ، وجزيرة جبل الطير لإقامة الفنارات بها “ . والحقيقة أنّ السلطنة العثمانية لم تتنازل عن ولاية اليمن إلاّ بعد الهزيمة الفادحة التي لحقت بها في الحرب العالمية الأولى ( 1914 ـــ 1918م ) ، فسلمت مقاليد الأمور إلى الإمام يحيى . “ فقد استدعاه آخر الولاة العثمانيين إلى صنعاء لاستلام السلطة في البلاد “ .[c1]الهوامش :[/c]الأستاذ محمد فريد ، تحقيق : الدكتور إحسان حقي ؛ تاريخ الدولة العلية العثمانية ،الطبعة الثانية 1403هـ / 1983م ، دار النفائس- بيروت - .أحمد أمين ؛ ضحى الإسلام ـ الجزء الأول ـ الطبعة العاشرة ، دار الكتاب العربي ـ بيروتـ لبنان ـ .ابن الطقطقي ؛ الفخري ، دار صادر ـ بيروت .دكتور قاسم عبده قاسم ؛ في تاريخ الأيوبيين والمماليك ، سنة الطبعة 2003م عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ـ القاهرة ـ مصر ـ . الدكتور محمد عمارة ؛ الصّحوة الإسلامية والتحدي الحضاري ، الطبعة الأولى 1985م ، دار المستقبل العربي ، القاهرة ـ مصرـ .دكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـ 1635م ، الطبعة الخامسة نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ مصر العربية ـ .دكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، سنة الطباعة 2006م ، دار الميثاق للنشر والتوزيع ـ صنعاء ـ .
|
تاريخ
اليمنيون والخلافة العثمانية
أخبار متعلقة