العلماء والقضاة بشرٌ!
يقول الأصمعي: أصعب الصعوبات توضيح الواضحات، وقد صدق فكيف يمكنك أن تشرح النهار أو الليل أو الشمس أو القمر، إنها معانٍ واضحةٍ لا تحتاج لشرحٍ ولا تأكيد فهي من المسلّمات، غير أنّ تصاريف الزمان وتقلب أحوال البشر، تجعلنا نحتاج في بعض الأحيان إلى توضيح الواضحات!نعلم جميعاً أنّ القضاة والعلماء والزهّاد والعبّاد بشرٌ يعتريهم ما يعتري غيرهم من الخطأ والصواب، ويتنازعهم ما يتنازع البشر من دواعي الخير والشر، وهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرة أكّدت عليه الأديان والفلسفات واتفقت عليه المذاهب والطوائف، ونماذجه مسطورة في كتب التراث وفي حوادث الواقع، ويجب وضعه في سياقه العام لتفهمه والتعامل معه بطريقة حضارية متنوّرة.الداعي إلى التقوى قد يتركها، والحاثّ على الورع قد يجانبه، والمجتهد في العبادة قد يناقضها، وهكذا دواليك، فمادمنا جميعاً نتفق على أنهم بشرٌ يعتريهم النقص والتقصير، فيجب أن نقرأهم في هذا السياق.تحدثنا الأخبار اليوم أنّ قساوسة متبتلين في أميركا قد ارتكبوا أفظع الجرائم الأخلاقية، وأنّ متدينين عرباً فعلوا الفعل ذاته، وما خفي كان أعظم، فكم من القصص التي فيها ارتكاب أنواع المناكر يتداولها الخاصة ثم العامة عن هذا أو ذاك.نعم نحن لا نخفي أنّ مثل هذه الأفعال في حق القضاة والعلماء والفقهاء أشنع منها في حق غيرهم، ولكنّ الفكرة الأساسية من هذا الطرح هي إثبات أنهم بشرٌ كغيرهم، وأنّ مقاييس الجودة التي يفرضونها على المجتمعات بالصولجان والقوّة لا تنطبق عليهم على الدوام بل إنهم أحياناً ينعتقون منها ليغوصوا في بشريتهم وإنسانيتهم، وأنّ غرائزهم التي يقاومونها قد تغلبهم، وهذا ما يرشدنا إلى أنّ أحكامهم وفتاواهم المغلّظة في حق شبابٍ صغارٍ لا يمتلكون من العلم ما يمتلكه هؤلاء العلماء هي بحاجة إلى إعادة نظرٍ وتقييم، لا لشيء إلا لأن الواقع قد أثبت بمعلنه قبل خافيه أنهم بشرٌ كغيرهم، مع استحضار أنّ أمثال هؤلاء لديهم من العقل والعلم والأدب والخلق ما يفترض أن يردعهم، وذلك بعكس كثير من الشباب الذي يتفتق فتوةً ولا يملك ذات الروادع العلمية أو الدينية أو الاجتماعية.إذا كان هذا حديث الواقع فإن حديث التاريخ أبلغ وحوادثه أكثر، وهذه كتب التراث الكبرى ومدوناته الواسعة تحدثنا بالعجائب عن هذه الفئة من البشر التي يدعي بعضهم لها قداسة لا تليق بها ولا تركب عليها، ويخبرنا بأنهم كغيرهم فيهم الساعون إلى الموبقات سراعاً والخاضعون للشهوات مراراً والراضخون للملهيات تكراراً، لا لأنهم دعاةٌ أو قضاةٌ أو فقهاء أو محدثون أو علماء، بل لأنهم باختصار شديد، بشرٌ من البشر، وأناسي من الناس، يجري عليهم ما يجري على غيرهم، ويحدث منهم ما يحدث من غيرهم، وإن زاد بعضهم شيئاً فإنما يزيد بأنه حين ينغمس في الشهوات فإنه يصل بها إلى أقصاها، ويذهب بها مذهباً لا يذهبه العاديون من الناس، إمّا بحكم الانقطاع الطويل وكبت الغرائز الأساسية وتضييق مسارب الغرائز بطريقة متشددة، وإما بحكم عوامل نفسية أخرى منها الكبت والحرمان والتشديد البعيد عن طبيعة الأديان التي دائماً ما تراعي الحاجة النفسية والجسدية للإنسان.لا ننكر أن السياق الاجتماعي يفرض شروطه على رجال الدين كما يفرضها على باقي المجتمع، ولذلك -وعلى سبيل المثال- نجد أنّ علماء بعض المناطق يتشددون في تحريم القات، بينما نجد بعض علماء اليمن يتساهلون فيه، بل ويبيحونه وبعضهم يتعاطاه اقتناعاً بإباحته، وقل مثل ذلك في النبيذ وغيره، فالنبيذ مثلاً كانت إباحته شائعةً لدى فقهاء العراق في القديم، وكان الكثير منهم يتعاطونه اقتناعاً بإباحته وبناء على الرخصة التي يرونها فيه، ولهم على ذلك أدلة مبسوطة في كتب الفقه، وحينما جاء أحمد بن حنبل للعراق حاول أن يناقشهم في قناعتهم تلك، فألف كتابه المسمّى «الأشربة» ليؤكد لهم حرمته، ولكنّ رأيه ظلّ رأياً من الآراء التي تتداول في ذلك الوقت، ولم يغير كثيراً من الواقع المعيش حينها.يا سادة إن التشدّد الزائد والتطرف في التحريم، ومحاولة جعل البشر ملائكة ورفع سقوف شروط الجودة المشددة إلى مستوى ملائكي لا يمكن أن تلغي غرائز البشر وشهواتهم، ولذا فإن الأديان -غالب الأديان- قد جاءت لتراعي هذه الغرائز ولتضع لها المسارب تلو المسارب والطرق تلو الطرق، فشهوة الجماع لها طرقها المشروعة، وشهوة الشراب لها آراؤها المعروفة، وشهوة الطعام كذلك، وغيرها كثير مما جاءت بتفهمه الأديان والفلسفات والمذاهب والنحل.يجب أن نتفهم القسوة التي أبداها الكثيرون تجاه مثل هذه النماذج، فهي تأتي ضمن سياق (أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم)، وذلك جرّاء طرح خطابٍ دينيٍ متشددٍ ينسى البعد البشري في الإنسان، وجرّاء خطابٍ دينيٍ متعالٍ على الإنسانية عسير التطبيق على البشر لما يكتنزه من مثالية متناهية لا تمت لعالم البشر بصلة، فنحن نعلم جميعاً من الدين أن «كل ابن آدم خطاء وخير الخطّائين التوّابون»، وكذلك الحديث الذي في مسلم «والله لولا أنكم تذنبون فتستغفرون لذهب الله بكم وجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم من محبته للعفو».يذكر التاريخ فيما يذكر أن القاضي ابن خلكان قد تعلّق بأحد أبناء الملوك تعلقاً عظيماً، وكتب فيه أشعاراً تبين مدى عشقه له، وقد اتهم الفقيه الأصولي سيف الدين الآمدي بترك الصلاة، واتهم بعض قضاة بني العبّاس بالشذوذ الجنسي وسارت بأخباره الركبان.ومن حديث التاريخ ما نقل عن بعض الصوفية من تسامحهم في هذا الشأن، وربما عدّه بعض غلاتهم أو المنتسبين لهم كرامةً لا ندركها نحن العامّة! وغير ذلك كثير في كتب التراث والفقه وهو ميسور لمن أراد جمعه، ولولا خوف الإطالة، لنقلت الكثير منه هنا غير أنني اكتفيت من القلادة بما يحيط العنق.بكلمة، ليس في هذا المقال دعوة لانحلال ولا تزهيد في اعتدال، غير أنني أحسب أنّ الشامتين مخطئون في هكذا قضايا، ولكنّني أحسب- أيضاً- أنّ الذين وقعوا تحت نير التشدد الزائد على مسائل توافه سيشفون غليلهم شماتةً في مثل هذه الحالات رداً على الظلم والتسلّط والإيذاء، ولو ترفّعوا عن مثل هذه الشماتة لكان ذلك منهم موقفاً أخلاقياً يحسب لهم، ولكن سيبقى البشر بشراً أنّى تقلبت بهم الأحوال والأفكار والأخلاق.[c1]* صحيفة «الاتحاد» الإماراتية[/c]