فاخر السلطان[email protected] تمارس المدرسة الدينية التقليدية المرتبطة بالإسلام الفقهي، دورا رئيسيا في بعث الفهم التقليدي للدين في المجتمع، وتعارض أي تحديث وتجديد لهذا الفهم إلا عبر المرور من بوابتها. فتلك المدرسة لم تصبح ندا فحسب لمدرسة الفهم التنويري، بل باتت تعتبرها خصما وعدوا ولا مجال للتعايش معها، بعدما واجهت الأخيرة الكثير من المساعي لوأدها ورفع الشرعية العلمية والقانونية عنها، بوصفها مدرسة لا ينتسب نهجها العلمي إلى الفقه التقليدي وبالتالي لا يحق لها الخوض في فهم الدين وتفسيره.فأغلب تفسيرات النص الديني إن لم تكن مؤيدة بدليل من "النص" ولم تمهر بختم "يجوز" الفقهي فإن المدرسة الدينية التقليدية سترفضها وتمتنع عن الاعتراف بها. والحال ان الفكر الديني التنويري الصادر من مدرسة الفهم التنويري المستند إلى الفلسفة الحديثة والمتبنى من قبل الكثير من المفكرين الحداثيين من شأنه أن يصبح عين اللادين بالنسبة لأنصار المدرسة الفقهية. ليس هذا فحسب بل إن رجال دين وفقهاء سعوا لطرح رؤى وأفكار دينية جديدة تتجاوز الفهم التقليدي، واجهوا عراقيل عديدة من زملاء لهم من نفس المدرسة، لا لشيء إلا بسبب تجاوزهم المنهج الفقهي التقليدي في فهم الدين. فقد سلط على رقاب هؤلاء سيف النبذ والإقصاء والمقاطعة ووجهت إليهم مختلف التهم، والتي يأتي على رأسها "الارتداد" و"التكفير"، وجرت محاولات لسجنهم أو حتى نفيهم من المجتمع الذي يعيشون فيه. بوسعي القول ان رؤى حسن الترابي في السودان ومحمد الغزالي في مصر وحسين منتظري في إيران خير شاهد على ذلك. فمنتظري واجه العديد من التهم ومورست ضده الإقامة الجبرية بسبب رأيه "الإصلاحي الفقهي" فيما يتعلق بنظرية ولاية الفقيه. ورؤى الترابي الأخيرة حول المرأة والمسيحيين جعلت المدرسة الدينية التقليدية في السودان تتهمه بالارتداد وتطالب بقتله. وكتاب الغزالي "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" جعلت المدرسة السلفية تقوم ضده وتكفره وتطالب باستتابته.كما حاربت المدرسة الدينية التقليدية المثقف الديني التنويري حينما سعى إلى طرح رؤى وأفكار جديدة نابعة من مناهج تفكير علمية لا تنتمي لمدرستها، والسبب في ذلك هو أنها دائما ما اعتبرت أفكارها هي عين الدين، ومنهجها هو المنهج الوحيد لفهم الدين، وأنها تملك وحدها لا غيرها حق شرح وتفسير ماهية الدين. فطرحت نفسها وأفرادها ومناهجها بوصفها وصية على الآلية المنتجة للفكر والأحكام وطرق الإيمان كآلية وحيدة في هذا المجال، وشددت على أنها تستطيع طرح خريطة الحلول للمشاكل في الحياة الاجتماعية بوصفها الخريطة المنقذة للبشرية. لا ريب في ان هذه النظرة تولدت بسبب اعتقاد هذه المدرسة بأن أفكارها ومنهجها هي الشارح الوحيد للنص الديني، حيث اعتمدت على مصدرين لا غير لأفكارها: مصادر الفقه، واجتهاد الفقيه، وأي فكرة أو رؤى تغرّد خارج هذين المصدرين فلابد أن تحظى على إجازة الفقيه وإلا فقدت وجهتها الشرعية الدينية. لذا الوصاية على الفكر والتفكير والتفسير والاصلاح والتغيير تبدو هنا واضحة، واستبداد المدرسة الفقهية يبدو أيضا جليّا.وفي القضايا الاجتماعية، أو القضايا غير الدينية بشكل عام، يبرز العقل غير الديني كبديل للنظرة الفقهية وللمدرسة الدينية التقليدية تجاه تلك القضايا. فالفقه يتصف بصفة الحكم لا صفة التخطيط والتفكير البرامجي، بمعنى انه يرتبط بأحكام الحلال والحرام لا بوضع البرامج، في حين أن القضايا والمشكلات في حياتنا الاجتماعية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتفكير المنطقي والتخطيط العقلي استنادا إلى العقل غير الديني، أي أن التخطيط للبرامج هو من مهام العلم والعقل وليس من مهمة الفقه والعقل الديني. فلا يمكن للفقه على سبيل المثال أن يطرح برامج لمعالجة تعاطي المخدرات أو انتشار البطالة أو التضخم الاقتصادي، ومساهمته هنا، إذا جاز ذلك، ستكون محدودة جدا وستتقوقع في إطار القانون.إذا افترضنا ــ على سبيل المثال ـ أن 80 من حالات الزواج في المجتمع انتهت إلى الطلاق، وأن جميع حالات الانفصال تلك كانت مطابقة لقواعد الفقه، فذلك يعني من جانب أن أفراد المجتمع يطبقون قواعد الفقه، لكنه يشير من جانب آخر بأن المجتمع يعاني مرضا لا يمكن معالجته عن طريق الفقه وهو ازدياد حالات الطلاق. وهو ما يعني أن قضايا المجتمع ليست فقهية ولا يمكن حلّها من خلال علم الفقه.أما العقل غير الديني، فلو طرح برامج لحل مشكلة المخدرات - مثلا - فإنه يكون قد ساهم في إيجاد حل جذري لمشكلة اجتماعية من خلال خوضه في الأسباب المؤدية إلى ظهور تلك المشكلة، وهو الأمر الذي لا يستطيع الفقه أن يقوم به، إذ جُل ما يستطيع القيام به هو تركيزه على حدوث تجاوزات قانونية تختص بالمجالات المادية الظاهرية للمشكلة. ان اخلاقية أي عمل مشروع متعلق بحياة البشر، غير مرهونة بالفقه، بل إن الفقه يساهم في معالجة جزء صغير من المشكلة يتعلق بالحقوق.فالمجتمع الذي يعتمد على الفقه في حل مشاكله، لا يلزم أن يكون مجتمعا صحيا وسليما. أي أن المجتمع الصحي ليس هو المجتمع الذي يراد للفقه أن يكون حلاّل جميع مشاكله.______* كاتب كويتي
استبداد المدرسة الفقهية
أخبار متعلقة