الشاعر الراحل عبدالله البردوني في أجرأ حديث فني!!
لم تعرف اليمن قدر موهبة الفنان احمد قاسم العظيمةأعترف أنني من أشد المعجبين بالشاعر الأديب الناقد الصحفي الإنسان الأستاذ عبدالله البردوني.. وأن كثيراً من آرائه أتحمس لها إلى حد تبنيها.. وأخالف بعض آرائه إلى حد أنني أفكر بالرد عليها!!أعترف أن البردوني من الشعراء والأدباء القلائل جداً الذين أحب أن اسمعهم وهم يتحدثون ويلقون أشعارهم ويضحكون بقهقهة عالية.. وأعترف أنني أختلف مع الكثير مما قاله البردوني في هذا الحديث الذي سيكون ضمن أربعين حديثاً مع نخبة من ألمع رجالات الفن والأدب في اليمن سأنشرها في كتابي القادم (مبدعون في الذاكرة)!!أواخر الثمانينيات في مدينة تعز الحالمة في بلكونة فندق تطل على المدينة الرائعة.. يتسلل الينا صوت الفنان أيوب طارش بأغنية رائعة كتبها الشاعر المتميز عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) أجدها فرصة كمدخل للحديث الفني الذي أتفقت مع أستاذنا الكبير عبدالله البردوني على إجرائه.. أقول له: أستاذ عبدالله .. لنبدأ بسؤال حول تأثير لطفي أمان والفضول والمحضار على الأغنية اليمنية؟يقول: هناك فروق بين الثلاثة.. يمكن المحضار أكثر غنائية، لكن عبدالله عبدالوهاب متفرد!! أما لطفي أمان فاختيرت له بعض القصائد دون أن يكونها تكويناً غنائياً!! (المحرر: ما هذا الكلام يا أستاذ!!) حتى القصائد التي غنيت للطفي وعلي محمد لقمان ومحمد سعيد جرادة، اختيرت لا على أنها غنائية.. مثلاً عندما يغني احمد قاسم (يارفيقي) للجرادة ليست القصيدة غنائية إلا من ناحية تجاوب أوزانها وقوافيها.. والقصيدة الغنائية مختلفة عن القصيدة المقروءة أو المسموعة.. لم يتوافر عندنا إلى الآن من يحسن القصيدة الغنائية ذات الغناء، خاصة في الغناء بدرجة أولى.. ما عندنا مثلاً مثل (عبدالرحمن الابنودي وحسين السيد وصلاح جاهين) في مصر أو مثل (عمر الحلبي وحسين حمزة) في سوريا، أو مثل (الأخوين رحباني وأبو شقرا) في لبنان).. عندنا إلى الآن الذي غني هي قصائد، لكن كانت قصائد بعضها أقرب إلى الغناء كقصائد عبدالله عبدالوهاب وقصائد طوعها للغناء إلى أن تكون أغنيات!!!فاحمد قاسم طوع (يارفيقي) كما طوع قصائد أخرى.. لأن أحمد قاسم موهبة لحنية كبرى، وموهبة صوتية راقية جداً، وأعتقد أنه من كبار الملحنين والفنانين، وأظن أننا إلى الآن، أو الدوائر السياسية إلى الآن لم تعرف قدر احمد قاسم بموهبته الفنية القائمة على علم واصالة.. فالحان احمد قاسم في الخليج أسيل من الحانه في اليمن!!.. وأظن أن قصائد جرادة وقصائد أخرى منها قصائد نزار قباني لحنها احمد قاسم وطوعها لحنياً وأدائياً وكاد ان ينقلها إلى عمل آخر هو )(الغناء) بدلاً من (الشعر) لهذا كانت القصيدة التي يغنيها احمد قاسم تقرأ شعراً، ولكن تسمع غناءً وكأنها عمل مختلف!!أستاذ عبدالله.. بعد توقف الفنانين اليمنيين الكبار عن العطاء الفني.. أين تقف في رأيكم الأغنية اليمنية حالياً؟يصمت لحظة، ويقول:ما من شك ان الفنان إذا توقف حاضره، تكلم ماضيه، وكذلك الشاعر والفيلسوف.. أي أن كل فنان مضى ترك تسجيلات وأسطوانات، والفنان هو الذي عندما يذهب يبقى فنه، ثم تبقى الاستفادة منه وانتزاع الخصائص الصوتية أو محاولة تقليد الخصائص الصوتية.. والمقلد سيصبح فناناً كبيراً إذا كان مقلداً عن أصالة وليس تقليداً آلياً.. وأعتقد أن الفنانين الذين مضوا ما كانوا بالمكانة التي نرى أنها كبيرة!! لكنهم كانوا في فترة (رواداً).. فلو نعود الآن إلى الأغاني التي سجلها مثلاً القعطبي وفضل محمد اللحجي والقمندان وغيرهم, لاعتبرناها الآن (أغاني مجالس) ولا يمكن أن نعتبرها أغاني إذاعية وتلفزيونية!! لإن الغناء الذي على الأوتار، أو صوت فريد بلحن فريد، لم يعد الآن ]يشبع حاجة الجمهور الذي عرف الأغاني المكثفة الآلات، والمتجاوبة الذبدبات.. فأعتقد أن فترتنا لا تحتاج إلى تقليد الأوائل من فنانينا.. وإنما تحتاج إلى فن مدرسي تساعده الأصالة، لأن الدراسة لا تخلق فناناً، وانما الأصالة هي التي تخلق الفنان، يساعدها الدراسة والفن العلمي.. حيث أصبح الآن كل شيء علماً!!والحقيقة أن الفنان (احمد السنيدار) يعتبر امتداداً متطوراً لقاسم الأخفش، كما كان الأخفش أيضاً امتداداً متطوراً لسعد عبدالله.. أما الذي جاء كظاهرة فريدة فهو (أيوب طارش).. على أن أيوب الذي أغنى الأغنية بصوته القوي والمعبر، كان غير متعدد النغمات!!.. كان أيوب يتمتع بصوت قوي عريض الذبذبات في ليونة، وكان أيوب طارش يجيد الغناء لشاعر واحد وهو عبدالله عبدالوهاب نعمان، وعندما يغني لغيره يغني على غرار ما يغني له!! ولو لم تسعف أيوب قوة الأداء وعرض الذبذبات وطول النفس لما أمكن أن يكون له هذا الامتداد!!.لكن أيوب طارش لاقى تلاميذ ومتلقين أحسنوا عنه التلقي، فحاولوا تقليده.. ومن تلاميذه خمسة أو ستة أصوات يحاولون تقليده.. ومن حسن الحظ أن الذين يقلدون أيوب يملكون أصواتاً تختلف عن صوته لهذا اعتصموا من التقليد ونجو من أن يسموا مقلدين.. وفي النادر ما يكون للفنان الغنائي تلاميذ، لأن الغناء لا يأتي بالتعلم من أساتذة، ولا بتقليدهم.. وإنما لابد أن يكون لكل مغنٍ صوته الخاص، ولو قلد في النبرات، أو قلد في الأداء.. حتى أننا نلاحظ أن هناك أغنيات يؤديها أكثر من مطرب أو مطربة وتأتي من كل واحد ذات إيقاع خاص، وذات إسماع خاص، وكأنها لواحد آخر.. نأخذ مثلاً أغنية (هان الود) غناها عبدالوهاب، وغنتها فائزة احمد.. كذلك (آخذ حبيبي يا بلاش) غنتها نجاة الصغيرة ثم فائزة احمد، وكل صوت يعطيها بعداً جديداً ولوناً مختلفاً.. لأن المسألة في الغناء (صوتية) وليست الكلمات والشعر الإ مجرد تابع للأداء الصوتي وللحن.. فليس في الفن ما نسميه تكرار تلاميذ واساتذة إلا مجازاً من حيث تقول إن كل فنان يبدأ بالتقليد ثم ينتهي بإمتلاك خصوصيته الصوتية وخصوصيته الأدائية وطربها الوجداني!!.أستاذ عبدالله.. على ذكر أيوب طارش وعبدالله عبدالوهاب نعمان.. أثيرت قبل فترة قضية (لم ولن أقتنع بها شخصياً) أن الفضول كان يلحن معظم الحان أيوب طارش وتقدم باسم أيوب؟!.. ما رأيكم في هذه الأقاويل؟ كان عند عبدالله عبدالوهاب تصور للقصيدة التي أنشاها للغناء.. وكان يوحي لأيوب كيف يمكن أن تؤدى لكن لا يؤديها أيوب كما عزفها عبدالله، لأن عبدالله كان يحاول أن يشتم سيكولوجية الكلمة، فيضع لها لحناً.عبدالله عبدالوهاب لم يلحن لحناً جيداً.. وإنما كان عنده تهيؤ نفسي إلى أن هذه الكلمة تؤدى صوتياً هكذا، تمد هذه العبارة، تقصر هذه العبارة، يلتوي هنا الصوت!!.. فكان عند عبدالله عبدالوهاب تصور غنائي من إيحاء الكلمة ومن إيقاع سياقها في القصيدة!أما أن عبدالله عبدالوهاب أول شاعر غنائي فهذه حقيقة!!.. لأن عبدالله أول شاعر تخصص بالأغنية.. وأقول تخصص بالأغنية، أي أن قصائده غنيت غناءً جيداً!!.. ثم أن قصائده التي غناها أيوب طارش وغيره تصلح للقراءة لانها نص أدبي جيد.. وهذا تحول من عبدالله عبدالوهاب إذ تحول من القصيدة السياسية إلى القصيدة الغنائية.. إلى جانب تعاليق سياسية كانت ذات طابع أدبي، وذات طابع فكري، وذات إيقاع خاص.. فعبدالله يبدو من الناس الذين يملكون موهبة عريضة, لكن التي ظهرت من مواهبه هي شعر الأغنية وتوفيقه بفنان عرف أن يؤدي كلمته بالشكل الذي يرضيه!!وهكذا أنتهى الجزء الكبير من حوارنا الذي اختلف كثيراً مع ما قاله أستاذنا الكبير عبدالله البردوني حول العديد من آرائه التي ذكرها!!