عندما حصل التفجيران الانتحاريان في بغداد ولاهور يومي الاثنين والثلاثاء، كنت ما أزال مشغولاًَ بانتحارياتنا نحن في لبنان، أعني المذابح التي أثارتها "فتح الإسلام"، والتي انتهت يوم الأحد الماضي بعد حربٍ بين التنظيم وبين الجيش اللبناني على مدى مائة وخمسة أيام!لقد أدى الانقسام الداخلي اللبناني البالغ درجة هائلة من العمق، إلى شعور فئة بالانتصار مع ضرب "فتح الإسلام"، وشعور فئات أخرى بالانزعاج إن لم يكن بالفشل لظهور الحكومة اللبنانية بمظهر المنتصر. والشعور بالانتصار شعور غير مسوغ بالفعل، إنما شعرت بالراحة كأنما أزيلت عن صدري صخرة ثقيلة. فقد ترجح لديّ الخوف مع بدء المعارك بين التنظيم المذكور والجيش، من أن السيناريو موضوع لكي تتفجر المخيمات الفلسطينية كلها، فتنشب حروب في لبنان بين الجيش والفلسطينيين، وبين الفلسطينيين واللبنانيين، كما حدث من قبل. ويضاف إلى هذه المأساة عبء جديد على السلطة الفلسطينية التي انقسمت الآن بين غزة ورام الله. فالمعروف أن الرئيس حافظ الأسد، أثار على عرفات كل مخيمات لبنان خلال الثمانينيات، وأسهم في طرده من لبنان في المرة الثانية، بعد أن أرغمه الإسرائيليون على الخروج في المرة الأولى. ونظم معارضو عرفات والمنشقون عليه في مجموعات من بينها "فتح الانتفاضة" التي عادت الآن لتفريخ تنظيم "فتح الإسلام". وبعبارة أخرى فإنني اعتبرت ثوران ما سمي "فتح الإسلام" عملاً استخباراتياً الهدف منه إثارة مزيد من الفوضى والانقسام في لبنان وبين الفلسطينيين.وقد ترتب على التخوف الأول تخوف آخر بشأن الجيش. فقد حرص الجيش اللبناني على عدم الظهور بمظهر المنحاز لهذا الطرف أو ذاك في الصراع الداخلي، كما أنه ما أراد الاصطدام بسوريا. لذلك فقد لا يكون مستعداً لمواجهة ظاهرة "فتح الإسلام" حتى لا يعتبر ذلك انحيازاً من جانبه لــ"14 آذار"، وضد المعارضة اللبنانية وضد سوريا. ثم إن قدرات الجيش في العتاد والتدريب قد لا تكون كافية لحسم المعركة لصالحه، وبخاصة إذا امتد القتال للمخيمات الأخرى، وللفلسطينيين وسلاحهم خارج المخيمات.وقد تضاءلت هذه المخاوف كلها. فالقتال ما نشب إلا من حول مخيم نهر البارد والجيش -وإن طال أمد القتال - استطاع حسمه لصالح الأمن في لبنان، وكسب عن طريق ذلك سمعة عالية لجهة القيادة، ولجهة الضباط والجنود بشجاعتهم وتضحياتهم. ولذا يأتي الشعور بالراحة لانقضاء الأمر. أما الشعور بالانتصار، فليس هو التعبير الصحيح عن حقائق الأمور. إذ هناك حوالي خمسمائة قتيل بين الجيش والمسلحين، وهناك تشريد عشرات الألوف من الفلسطينيين واللبنانيين. وهناك تخريب المخيم وجواره. وهناك أخيراً الجرح الدامي الجديد بين اللبنانيين والفلسطينيين. فالمعروف أن المسلمين السنة هم الذين أتوا في المقدمة في احتضان اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وها هم سنة شمال لبنان أو أكثرهم وبعد ما أصابهم من مسلحي نهر البارد، يأبون أن يعاد إعمار المخيم، أو أن يعود إليه أي مسلح.أما السبب الأهم لعدم القدرة على الإحساس بالانتصار للقضاء على هذه الجماعة أو تلك من هؤلاء الانتحاريين؛ فلأن هؤلاء جزء منا، ولأنهم تحولوا إلى ظاهرة يصعب تجاهلها أو تلافي آثارها. وأخيراً لأن "المعنى" الظاهر من استمرار هؤلاء وتوافر أنصار لهم دائماً، أن الخلل متأصل في قلب مجتمعاتنا، وأن الكفاح طويل ومضن مع أنفسنا للخلاص من التطرف والمتطرفين. فالأمر الذي لم يعد إنكاره ممكناً أن هناك انشقاقاً بداخل المسلمين، إن لم يكن بداخل الإسلام. فقد ظهر بالتدريج أسلوب حياة جديد في اللباس والمظهر والسلوك والاعتقاد. وليس من الضروري أن يكون كل هؤلاء الجدد عنيفين. إذ أن كثرتهم الساحقة في الواقع تتسم بالوداعة أو الانعزال. والوداعة موجودة بشكل خاص في الإحياء الصوفي الذي يتسم بالغرابة أيضاً. أما لدى الأصوليين فتغلب الغربة، ويغلب الانعزال الذي قد يدفع باتجاه العنف. والواقع أنه منذ ثمانينيات القرن الماضي، تبلور "التيار الرئيسي" لما عرف بالصحوة الإسلامية و"الإسلام السياسي". والتيار الرئيسي يقول بالتلازم بين الدين والدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. لكن يريد الوصول لذلك عن طريق الوسائل السلمية والمشروعة كالانتخابات والاحتجاجات غير العنيفة، والتي يقصد الإسلاميون من ورائها المشاركة في إدارة الشأن العام فيما يقولون ويعلنون.أما التيار الآخر العنيف، وهو تيار قلة جذابة، فيرى أن الإسلام يعاني من هجمات وصدمات لابد من الرد عليها بالدفاع أو بجهاد الدفع، قبل الوصول إلى "التمكين". فالمعتدلون أو المسالمون واهمون في تجاوز المرحلة التمهيدية العنيفة، والركون إلى الأنظمة، وإلى النظام العالمي المتآمر على الإسلام والمسلمين... وعلى ذلك، أي مجاهدة "الصليبيين واليهود"، تعاهد ابن لادن مع الظواهري، وعلى ذلك أيضاً قامت "القاعدة". بيد أن العنف الإسلامي، وإن أرعب الغربيين، فإنه ما كسر النظام العالمي، ولا غير الأمور لصالح الإسلام. وقد اعتدنا على القول إنه بعد ست سنوات من "الحرب على الإرهاب" ما أمكن للولايات المتحدة وحلفائها القضاء على "القاعدة". لكن في المقابل ما تحطم الغربيون تحت وطأة الهجمات؛ بل إن مجتمعاتنا وأنظمتنا هي التي تنقسم وتسقط تحت وطأة الضربات الانتحارية والتفجيرات، عندنا وفي العالم الأبعد.لا أخطر من القاعدة على استقرارنا وأمننا وتماسكنا. ومع ذلك فهناك خطر أكبر بدأت نذره في الأفق خلال الأعوام الأخيرة. فالنزعة الانتحارية تحولت هدفاً بحد ذاته. ومن جانب ألوف الشبان في العالمين العربي والإسلامي. ومن جهة أخرى صار بوسع جهات مختلفة أن تستخدم هؤلاء الشبان حسب هواها ما دام ذلك يؤدي إلى الموت بطرائق استعراضية.ففي أوساط شبابنا –وبمعزل عن "القاعدة"- نزوع غلاب للموت لأي سبب ومن دون سبب، وفي أوساط شبابنا تقبل لاستعمال جهات لهم للتخريب والموت بحجة الجهاد أو حتى من دون حجة. والعجيب أن المعارضات السياسية العربية، وأجزاء من الجمهور، يتقبلون ويستحسنون ذلك من جانب الشبان؛ بزعم أن هذه التصرفات ضد الأنظمة هي إضعاف لها! ولاشك أن الانقسام يكون قد بلغ بذلك درجة عالية من السوء. لأن مقصد الشباب الموت والتسبب بأكبر قدر من التخريب وليس لهدف محدد. فالجميع يعرفون أن الانتحاريات لا تسقط أنظمة، وأن المقصود هو التخريب أي القضاء على معالم "الحضارة" التي يعتبرونها غربية/يهودية أو متغربة.ولاشك أن مجتمعاتنا تمر بمخاضات عسيرة، وهي بحاجة مع أنظمتنا لتطوير واسع وعميق. بيد أن الخيار الإسلامي (المعتدل) ليس واعداً رغم جماهيريته. فهو يقول بالانفصال عن العالم أو بالعلاقة المشروطة. أما الجانب البارز والهائج والثائر فهو جانب الانتحاريين الذين لا علاقة لأهدافهم بما يقومون به. فما عاد أحد يصدق جهادهم العالمي، أو يؤمن بإمكان الوصول إلى شيء عن طريقه. وما جرى في العراق أكبر دليل على ذلك، فقد استطاع الانتحاريون ومناصروهم كسر الأحادية القطبية. لكنهم عاجزون عن الدخول في مشروع لحياة عادية في مجتمع متنوع كالمجتمع العراقي. ولذلك فهم ينصرفون اليوم لمقاتلة أولئك الذين قاتلوا معهم إلى جانب استمرارهم في التهجم على الشيعة، والأقل على الأميركيين! وقبل شهور عندما أمر "الأمير" ثلاثة شبان بتفجير أنفسهم أمام مبنى حكومي بالجزائر العاصمة بفارق نصف ساعة بين كل منهم؛ نفذ الأولان الأمر قاتلين ومخربين. أما الثالث فقد تردد بسبب تجمع الناس في مكان التفجيرين، وابتعد إلى مكان خال من الساحة حيث فجر نفسه! وهكذا ربما أشفق الشاب على الناس. لكن ذلك لم يمنعه من الانتحار لأن الحياة عنده، حياته هو، لا معنى لها، فكيف بحيوات الآخرين؟!كنت قد عزيت نفسي لسنوات بأن الظاهرة الانتحارية العدمية أو الفوضوية في مجتمعاتنا، تشبه ظاهرة "بادر -ما ينهوف" بألمانيا ، أو "الجيش الأحمر" الياباني. لكن هذا قياس مع الفارق. فتلك مجتمعات مليونية ما خرج عليها انتحاري غير عشرات الأفراد، وانتحاريونا أكثر عدداً وعدة بكثير، ثم إن انتحاريينا يحظون بجماهيرية في مجتمعاتنا ما حظي بها أولئك. وأخيراً فإن انتحاريينا يتلبسون بلبوس ديني إسلامي، فيتسببون بانشقاق عميق! ولهذه الأسباب كلها نجد أنفسنا ومجتمعاتنا وأنظمتنا في مشكلة كبرى نتيجة الاستنزاف والإضعاف، وضياع الخلق والمسؤولية... ولا حول ولا قوة إلا بالله. [c1]نقلا عن / صحيفة (الاتحاد) الإماراتية [/c]
الانتحار ’’الجهادي’خلل مجتمعي متأصل!
أخبار متعلقة