بقلم : حسن أحمد اللوزي - وزير الإعلاملا شـكَّ في أنَّ الصَّحافة - كعلم وفن ومهنة بل وكمؤسسة اجتماعية وسياسية وثقافية واستثمارية - لها مكانتُها ورسالتها ودورها في الحياة المعاصرة، ولها بصماتُها في مسيرة النضال الوطني في حياة كل مجتمع وفي كل دولة. وهي في بلادنا تحتل مكانة مرموقة ومتميزة لاعتبارات عديدة، أهمها أنّها كانت واحدةً من أدوات الثورة اليمنية المباركة في مراحل عنفوانها وترجمة أهدافها الستة السامية.. بل إنّها وُجدت وترعرعت وبقيت وصارت قوةً فاعلةً في أبعاد الحياة المتعددة بفضل ذلكمُ الدور، ونجد لها البصمات المشهودةَ في تاريخنا الوطني المعاصر فيما قبل فجر الثورة اليمنية الخالدة التي انتقلت بشعبنا من حياة الظلام والعبودية والاستبداد والاستعمار إلى حياة الحرية والتحرُّر.. الحرية من النظام الكهنوتي الإمامي الظالم والمنغلق والتحرر من نير الاستعمار البريطاني البغيض.غير أنّ هذا الكتابَ الذي بين أيديكم إنّما يشير إلى لطائفَ محددة يحتمها سياقُ التناول للصِّحافة لما قبل ذلك التاريخ، إلا أنَّه يركِّز بشكل أساسي على الصحافة وتطورها وتنامي دورها في ظل مسيرة الثورة اليمنية المظفرة (سبتمبر وأكتوبر) ويؤرخ لها بصورة أكثر تركيزاً وشمولاً ودقة في مرحلة جديدة لاحقة وحاسمة في ظل رسوخ وثبات نصر الثورة اليمنية بتحقيق نصر الوحدة وإحاطة ذلك النصر بسياج الديمقراطية في ظلال الجمهورية اليمنية.. وبتبني النظام الدستوري في بلادنا الملتزم بمبادىء الحرية السياسية والاقتصادية والثقافية بعدَ أن صارت أهداف الثورة اليمنية حقيقةً معيشةً في جوانب كثيرةٍ من حياة المجتمع، وفي بنية الدولة وفي الممارسة لسلطاتها المتعددة.فإذا كان الفصلُ الثاني يتناول واقع الصحافة والعمل الصحفي في بلادنا منذُ فجر السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م حتى فجر الوحدة الخالدة عام 1990م، فإنّ هذه المرحلة تجعل المطلعَ يقف في صورةٍ واضحةٍ أمامَ بذور مرحلة تأسيسية لعبت فيها الصحافة دوراً جوهرياً في تثبيت وترسيخ الوعي بأهداف الثورة ومواكبة عملية التغيير التي صارت أدواته تفلحه في حياة المجتمع وتقيم البناء الجديد في ظل النظام الجمهوري لبنة لبنة وتخوض مواجهة واضحة ومبدئية في مواجهة الثورة المضادة، وتقف جنباً إلى جنب مع المقاتلين الثوار والفدائيين في معارك الدفاع عن الثورة اليمنية المباركة ومقارعة الاستعمار وإبراز منجزات النضال الوطني ومكاسبه في ظل الوضع التشطيري الذي لا نحبُّ الخوضَ في أوضاعه الأليمة إلا لإعطاء ما يقدِّم إلمامة واضحة عن تلك المرحلة على أهميتها البالغة. ومن ثمّ فإنَّ الفصول الخمسة الأخرى تركز على الصحافة وحركة نموها وتطورها في ظل الجمهورية اليمنية بفروعها الثلاثة : الصحافة الرسمية والصحافة الحزبية والأهلية ومستقبل الصحافة فيما تمثله الصحافة الإليكترونية.وفي هذا التاريخ صار الاشتباك في قضية الصحافة بين الحرية ووظائفها الاجتماعية والسياسية ومدى الالتزام بالمسؤولية بالغَ الشدة ومتنامي الفعالية الأمر الذي أستدعى الوقوفَ أمامَ دور القضاء في صيانة الحرية الصحفية وفي دعم ومساندة هذه الحرية وتنقية الشوائب التي يمكن أن تلحق بالعمل الصحفي عندما يكون هناك تعدٍّ بارتكاب ما يُسَّمى جنحَ وجرائم النشر خاصةً إنَّ الانتقال إلى مجتمع التعددية السياسية ونشوء الأحزاب والتنظيمات السياسية صاحبه تغيرٌ عميقٌ وإيجابيٌ لصالح حرية الصحافة في بلادنا وتكريس التوجُّه الواضح في البلاد لإطلاق العنان أمام حرية الصحافة وإلغاء جانب من الدور الذي كانت تلعبه وزارتا الإعلام في الشطرين والأجهزة الأخرى في الرقابة على الصحافة بل وملاحقة العمل الصحفي في تفصيلات بعيدة ودقيقة.إذاً فمايو 1990م مثل بكل المعاني والدلالات المتصلة بالحياة العامة في الجمهورية اليمنية تاريخاً جديداً للحريات العامة والخاصة ولممارسة كل الحقوق الإنسانية وبخاصة حرية التعبير وإبداء الرأي وممارسة النقد البناء. ويتجسَّد جوهرها في حرية الصحافة، كما هو قائمٌ اليوم وجعل السلطة القضائية مناطاً للاحتكام في الوقوف أمام القضايا الجزائية التي تقع فيها الصحافة بين حينٍ وآخر بين يدي المحاكم صاحبة السلطة الوحيدة على الصحافة.ويتجلى مما سبق الوضوحُ الكاملُ لأهمية هذا الكتاب من حيثُ موضوعه وتتوضَّح في ذات الوقت تلكمُ الأهميةُ من خلال المصدر الذي أعتمد عليه الكتابُ في مادته الغنية والذي كفل نسبةً عاليةً من الموضوعية والمصداقية في تناول كافة عناوين هذا الكتاب ونعني الكُـتَّابَ أنفسَهم.. لقد تمت عمليةُ الكتابة من خلال مختصين ذوي علاقة مباشرة بالعمل الصحفي، ومن أساتذة أكاديميين يتميزون بكل الصفات التي يمتلكها الباحث والمدرسُ الجامعي، وبالتالي فإنَّ المنهجية تحكّمت إلى حدٍّ بعيدٍ في تناول موضوعات هذا الكتاب بموضوعية لا غبارَ عليها ولم نتدخل فيها مطلقاً.. فكانت حريةُ البحث والاستنتاج مكفولةً في كافة العناوين، سواءً في الفصل الخاص بواقع الصحافة والعمل الصحفي في اليمن أم في البُنية التشريعية والقانونية للنشاط الصحفي وكذلك في موضوع تناول تطور الصحافة الرسمية في الجمهورية اليمنية وموضوع الصحافة الحزبية والأهلية في اليمن، إضافةً إلى موضوع الصحافة الإليكترونية كدراسةٍ لحدثٍ جديدٍ فرضته الثورة الاتصالية والتطور التقني للشبكة العنكبوتية.وكوننا نضع هذا الكتاب بين يدي المختصين، وفي المقدمة أولئك العاملون في حقل الصحافة والأساتذة الأجلاء في الجامعات اليمنية الرسمية والأهلية، إنّما قصدنا أن تكون مادةُ هذا الكتاب قابلة للمزيد من النقاش، وهي تتطلب حتماً ما يمكن أن يجرى عليها من تصويبات وما يمكن أن يُضاف إليها وبما يجعل من هذا الكتاب بداية نواة لموسوعة شاملة للصحافة اليمنية الرسمية والحزبية والأهلية والخاصة والصحافة الإليكترونية.. وبالتالي فإنَّ التعمُّق في النظر إلى الموضوعات الصحفية ومحتوى النشر الصحفي لم يقف عند حد التشريع المباشر في اختيارات معينة لصحيفة محددة سواءٌ كانت رسمية أم حزبية وإنّما تُرك لكتابٍ آخرَ يتوقف بإمعانٍ أمامَ الموضوعات والوظيفة الصحفية وما لها وما عليها في الممارسة العملية!!.إنّ الرؤية التي يحتضنها الكتابُ ويقدِّمها هي رؤيةٌ عامةٌ ولا شك أننا بحاجةٍ في هذا الطريق إلى رؤية تفصيلية تتعمَّق أكثرَ في إيضاح مدى التزام صحافتنا السيارة بقيم الحرية واحتراسها من الخروج عن نطاق الدور والوظائف التي يتعين أن تقوم بها الصحافة وبإملاء من الضمير المهني والالتزام بالحرية والمسؤولية في بلاط السلطة الرابعة التي لا هوادةَ معها وفيها إلا الانتصار للحق وللمعلومة الصحيحة والمعرفة عموماً وبما يبيِّن إلى أي مدى كانت المسؤولية مجسَّدة في كل أساليب النشر الصحفي في بلادنا. وأنّ هذا الكتاب لا شك يؤكد بأنّ حرية الصحافة لأبعد الحدود ظلت مكفولة ومجسَّدة في حقول الممارسة لسلطة الصحافة في الصحافة الرسمية كما في الصحافة الحزبية والأهلية والصحافة الخاصة ولكنها تبدو في خضم المعركة السياسية الكبرى للتعددية التي لم تبلغ بعد طورَ النضوج الكامل، فكانت تلك الحالات من الانحراف في الجانبين عن جادة الصواب وهو ما يعطل المسار الصحيح للتطور الديمقراطي المنشود!! .. ولا نريد أن نطلق أحكاماً عامة على الصحافة الإليكترونية، فإنّها في نظرنا ما زالت قيدَ التأمُّل والنقاش والتكوين وما زلنا نرى أنَّ خطابها على محدوديته يتوجَّه ببضاعتها إلى الخارج والإبحار في فضاءٍ بعيد لا يتواصل معه المتابعُ داخل الوطن والمهتم إلا في حدود ضيقة لأبعد الحدود.. وإنَّ معايير المهنية الصحفية ما زالت مفقودة في كثيرٍ من المواقع التي يحكمها المزاجُ الشخصيُّ وتوجهها أفكارُ المشاغبة والمكايدة السياسية أكثر من أن توجهها خدمة الغايات المرتبطة بالصحافة وحريتها ومسؤوليتها على حدٍّ سواء.وبالتالي نستطيع أن نؤكد أيضاً بأنَّ التباكي وذرف الدموع بدعاوى التضييق على حرية الصحافة يبقى عبثاً غيرَ جميل وضلالاً مكشوفاً لدى كلِّ مَنْ يطالع ويتابع تفصيلات تفاعل السلطة القضائية مع الحياة الصحفية والقضايا المنظورة أمام المحاكم، فإنَّ النتائج التي يوضحها البحثُ الخاصُّ بهذا الموضوع. ونسبة القضايا التي تمّ عرضُها على القضاء توضح ذلك بجلاء، بل إنَّ المدهش أنّ الكثير من الأحكام التي صدرت من المحاكم كانت لصالح الصحف وهو ما يدحض مبالغات الشكوى حول التضييق على حرية الصحافة، رغم فداحة ما يُنشر من مواضيعَ تكرِّس العدوان عليها، وهذا يرجعُ إلى أنّ جزءاً من المشكلة يتعلَّق بمَنْ ينخرطون ويستسهلون ولوج العمل في حقل الصحافة دون أن يدركوا ما تعنيه مهنة الصحافة من مسؤوليات خطيرة وما تتطلبه من قدراتٍ وإمكانيات وطاقات. فقديماً قالوا في متعطل أو أحد المتطفلين على المهنة : (أدركته حرفة الأدب) حين كان الأدبُ فضاءً مشاعاً يمكن أن يتعلَّق بأهدابه وأن يتسلل إلى داخله كلُّ من هبَّ ودبّ.. لكنَّ الصحافة حقيقةً ما زالت محصنة إلى حدٍ ما من أن تكون مهنةَ مَنْ لا مهنةَ له وخاصةً أنَّ تطور الصحافة في الحياة المعاصرة قد تقدّم في سياق لا يقبلُ إلا أن ينخرط فيه المقتدرون بعلمهم وخبراتهم ودراستهم بل وبمالهم وبفكرهم وبرؤاهم وإخلاصهم للقيم التي يناضلون لإدراكها.كما يكتسب هذا الكتابُ أهميته من اتجاه ثالث باعتباره يقدِّم الصحافةَ كحقلٍ من حقول الحرية وممارستها وكقوةٍ دافعةٍ ومؤازرة للنهج الديمقراطي ولتجسيد الممارسة الديمقراطية الحقَّة في الجمهورية اليمنية. فبدون صحافة حُرة لا يمكن أن ندّعي ممارستنا والتزامنا بالنهج الديمقراطي ولا يمكن أن تعطي الممارسة الديمقراطية ثمارها المباركة وأن تسير في نهرها في الوجهة الصحيحة التي تحقق التدافعَ والتنافسَ والنتائج المعبِّرة عن إرادة المواطن الناخب أولاً وإرادة الجماهير المساندة لذلك المواطن، إلاَّ إذا كانت الصحافةُ قوةً وفعلاً مؤثراً في حركة الممارسة الديمقراطية، وتؤدي دورها بفعالية كاملة عند ممارسة الحقوق القانونية والحقوق الدستورية في خضم العملية الديمقراطية.. فالممارسةُ الديمقراطية كحقٍّ دستوري وحقٍّ قانونيٍّ ووسيلة من وسائل المشاركة السياسية والتعبير عن إرادة الفرد وإرادة المجتمع وتحديد اختياره تبقى مصونةً وتحقِّق النُضجَ المطلوبَ بالدور الريادي الملاصق من قبل الصحافة وبفعالية حريتها في كافة الحقول السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها. ومن هنا نستطيع القول بأنَّ الفصل الأول الذي تشرفتُ بتقديمه كورقة عمل إلى مؤتمر صنعاء حول الديمقراطية والإصلاح السياسي وحرية التعبير الذي احتضنته بلادُنا في الفترة من 25 - 26 يونيو 2006م تحاول أن تقف وقفة قيمية ومنهجية أمامَ حرية الصحافة؛ باعتبارها جوهرَ حرية التعبير وهي لذلك “أي الصحافة” قوةٌ في فعل الممارسة الديمقراطية وهي في النهاية السمةُ الحضارية التي تصبغ ماهية الدولة الديمقراطية وتكشف عن فعل وحركة المجتمع الديمقراطي التعددي الحُر.. والمتقدِّم.[c1]---------------------------------------------------------------------------* من مقدمة كتاب جديد أصدره مركز التوثيق الإعلامي - وزارة الإعلام [/c]
الصحافة في ظل مسيرة الثورة ودولة الوحدة
أخبار متعلقة