أفكار
ظلت العلاقات الثنائية بين دول المغرب العربي رهينة لصراعات سياسية حادة منذ حصولها على استقلالها الوطني خلال مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ولم تُوفق كل المحاولات والجهود السياسية الهادفة إلى رأب الصدع في بلوغ الأهداف المرجوة.بل إن الدول المغاربية لم تتمكن حتى الآن من بلورة تصور مشترك لعلاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها فرنسا المستعمر السابق لمجمل هذه الأقطار، وكل الاتفاقيات المبرمة مع دول الاتحاد بشمال المتوسط وقّعتها دول المغرب العربي بشكل منفرد، من دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة التي تجمع ما بين شعوبها.فقد سارعت كل من تونس والمغرب إلى توقيع اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي في وقت مبكر جدا، وذلك في تزامن مع الفترة التي كانت تعاني فيها الجزائر من عزلة دولية خانقة ومن موجة إرهاب دموي قاتل في مرحلة التسعينات من القرن الماضي. أما ليبيا فكانت فريسة، في الفترة نفسها، لحصار اقتصادي وسياسي غربي بسبب تداعيات أزمة “لوكيربي”، وظلت موريتانيا تواجه وضعها الداخلي في غفلة وصمت من الجيران والأشقاء، ودفعتها أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية الصعبة إلى القيام بتطبيع مجاني مع الكيان الصهيوني. وحينما اقترحت دول من المغرب العربي أن يتم التنسيق بين الحكومات بخصوص التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، بالنسبة للمشاريع المقبلة خاصة بعد اجتياز دول المنطقة عتبة الألفية الجديدة، رد الرئيس الجزائري على الاقتراح بحدة، مؤكدا أن الجزائر لم تُستشر حينما عمل البعض على توقيع اتفاقيات ثنائية منفردة، والآن يريدون، وفق ما عبر عنه في السياق نفسه، أن يتقاسموا معنا بعض الأوراق الاستراتيجية التي نمتلكها، في إشارة غير مباشرة من قبله إلى الأهمية القصوى التي يمثلها ملف الطاقة بالنسبة لمفاوضات الجزائر مع أوروبا.ومثل هذه المواقف تمثل عينة بسيطة لطبيعة العلاقة المركبة والشديدة الحساسية التي تميز دول المغرب العربي والتي يعود بعضها إلى جذور تاريخية سحيقة، مثلما يعود بعضها الآخر إلى الخلافات الشخصية التي نشبت بين رموز وقادة حركات التحرر الوطني بالمنطقة في زمن الاستعمار، وازدادت حدة بعد حصول كل الدول على استقلالها الوطني.والمؤسف أن المؤشرات الحالية التي تدعمها المواقف المتشنجة للكثير من السياسيين، لا يبدو أنها ستسهم في إزاحة حُجب الفرقة والتمزق عن شعوب المنطقة.وتعكس مواقف دول المغرب العربي من المشروع الأخير الموسوم بالاتحاد من أجل المتوسط، مقدار التباين الحاد في مواقف الدول بشأن الاستحقاقات السياسية والاقتصادية التي تخص مستقبل المنطقة، وقد كان لافتا أن الزعيم الليبي عبر عن تحفظاته ومخاوفه بصدد المشروع الجديد، بكثير من الصراحة والوضوح. فقد أكد أن هذا المشروع يفتقد أهم عنصر من عناصر النجاح التي يفترضها أي مشروع مماثل ألا وهو شرط التكافؤ والندية، ويبدو أن القذافي لا يريد التضحية بموقعه الريادي في الاتحاد الإفريقي من أجل أداء دور ثانوي في مشروع تكون فيه مقدرات ليبيا النفطية واحتياطياتها المالية الضخمة عرضة للأطماع والمزايدات.ويبدو أيضاً أن الموقف الجزائري من المشروع لا يختلف كثيرا عن الموقف الليبي، حتى وإن تميز ببعض الخصوصيات التي تعود لطبيعة الوضع الداخلي لهذا البلد الذي يشهد واقعاً، يجعله غير قادر في المرحلة الراهنة، على ترجمة قناعاته بصدد هذه الملفات الدولية إلى مواقف حاسمة، لأن الثمن الذي سيدفعه سيكون كبيرا على مستوى استقراره الداخلي، خاصة أن فرنسا يمكنها أن توجه له ضربة مؤلمة بالنسبة للجرح المفتوح بمنطقة القبائل.كما أن الاقتصاد الجزائري لم يؤهل حتى الآن بالقدر الكافي، من أجل استقبال استثمارات أوروبية كبرى، ولا يبدو أن الأوروبيين ومن ورائهم فرنسا، يملكون رغبة صادقة للدخول في شراكة حقيقية مع الجزائر في المرحلة الراهنة، قبل الوصول إلى تسوية نهائية للملفات العالقة بالنسبة لموضوع “الحركة” الجزائريين الذين دعموا الاستعمار ومسألة العودة المحتملة لبعض “الأقدام السوداء”، أي السكان الأوروبيين الذين ولدوا وعاشوا في الجزائر أثناء فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، أو لأبنائهم أو حتى لليهود الجزائريين وتعويض من لا يريد العودة منهم عن “الممتلكات” التي فقدوها أثناء مغادرتهم البلد غداة الاستقلال. وهذه المعطيات وغيرها التي يعلمها الكثيرون ممن لهم معرفة جيدة بالشأن الجزائري، جعلت الرئيس بوتفليقة يتردد كثيراً، قبل أن يحسم موقفه بشأن المشاركة في مراسيم الإعلان عن ميلاد الاتحاد الجديد في باريس يوم 13 يوليو/ تموز، ويبدو أن حضوره اللقاء كان من باب تأكيد المثل العربي الشائع، “مكره أخاك لا بطل”.أما الدول المغاربية الأخرى وهي المغرب وتونس وموريتانيا فلم يكن لديها ما تخسره من خلال دعمها ومشاركتها في المؤتمر المتوسطي. فتونس كانت تعلم أنها لن تحصل من الناحية الاقتصادية من هذا الاتحاد على أكثر مما حصلت عليه حتى الآن، وهي التي تصفها الدول الأوروبية وتحديدا فرنسا وألمانيا بسويسرا المغرب العربي. وقد استطاعت أن تبرم اتفاقيات شراكة جد مهمة مع الجانب الأوروبي في مراحل سابقة وفي مجالات مختلفة،كما تمكنت من الحصول على معاملة تفضيلية من الدول الأوروبية في ما يخص التكوين والتأهيل حيث ترتبط الجامعات التونسية باتفاقيات علمية مع الكثير من الجامعات الغربية وتحديدا الفرنسية منها، وبالتالي فإن الاتحاد الجديد لن يضيف شيئا جديدا أو مثيرا لمزايا حصلت عليها تونس وتمتلكها بشكل فعلي، ويأتي دعمها الحالي للمبادرة الفرنسية من باب رد الجميل.والاستنتاج نفسه يمكن أن ينطبق إلى حد ما على المغرب، الذي يحصل على أكبر دعم مادي تقدمه فرنسا كمساعدة مباشرة لدولة أجنبية، كما أن فرنسا أكدت في أكثر من مناسبة عن دعمها للاقتراح المغربي بصدد تسوية نزاع الصحراء وعبر ساركوزي عن ثبات الموقف الفرنسي في خطابه الذي ألقاه أمام البرلمان المغربي في آخر زيارة له لهذا البلد. أما الجانب الموريتاني فلم يكن أمامه ما يخسره، ليس لأنه حصل على مجمل ما كان يصبو إليه، ولكن لأنه وبحكم الوضعية الاقتصادية الصعبة التي يمر بها فإنه يأمل أن يستفيد من وضعيته كأفقر بلد في الاتحاد الجديد من أجل دعم برامجه التنموية.وفي ظل كل هذا الصراع والتنافس الدولي والإقليمي الذي يجتاح المنطقة، يظل المغرب العربي يطمح إلى تحقيق أحلام شعوبه في التكامل والاتحاد، حتى تكون مشاريع الشراكة مع الأوروبيين تتويجا لمسار وحدته الداخلية، وليس ترجمة باهتة لمشاريع الآخرين ولطموحاتهم الملتبسة والمريبة.[c1]* عن/ صحيفة “الخليج” الإماراتية[/c]