القيروان .. أو (غابة الزيتون) هذه الأرض الطيبة الممتدة في موقع القلب من ساحل الشمال الإفريقي حيث عطر وأريج الهضاب وانتعاشه الأفق وسحر الطبيعة تتوقف قليلاً لنستنشق عبق التاريخ ونسترجع صوره الفريدة الزاهية ونتلمس بكل دفء بعض آثار تونس العديدة المتميزة التي جعلتها محطاً لأنظار المؤرخين وعلماء الآثار.فعلى الرغم من تلاحق الحضارات على أرضها الجميلة وماخلفته من آثار عظيمة خلال الأحقاب المتتالية قبل الإسلام فما تزال هناك معالم أصيلة نشأت وبلغت أوج أشدها واكتملت شخصيتها الفذة في ظل العروبة والإسلام ومن تلك المعالم مدينة القيروان أقدم وأول مدينة عربية إسلامية في المغرب العربي اختطها القائد الملهم (عقبة بن نافع الفهري).لقد كان عقبة بن نافع منذ انطلاقته للجهاد والفتح يفكر في إنشاء مدينة منيعة تصلح لأن تكون مكاناً استراتيجياً تعسكر فيه قواته ومحطاً آمناً للمسافرين واستراحة للقوافل التي تنتقل بين الشرق والغرب الافريقي وقاعدة لنشر الاسلام في المغرب فأخذ يحث الخطى ومن حوله جيشه الفاتح للبحث عن موقع مناسب تتوافر فيه تلك الصفات وحين توسط البيداء في افريقيا حيث تونس الحالية توقف عند نقطة أخد يتأملها ويجول ببصره في جميع أرجائها ثم أمر جيشه بحط الرحال وركز رمحه في وسطها وراح يحط بعضاً فوق الأرض حدود مدينته التي أسماها القيروان.إن اختيار عقبة بن نافع لموقع القيروان يدل على بعد نظر ثاقب فالمكان يقع في جوف الروابي على منتصف الطريق بين الحصون والشواطئ البيزنطية ومخبأ بين القبائل الجبلية وهو بحق المكان المناسب الذي طالما كان يبحث عنه.وبدأت أعمال البناء عام 50 هـ الموافق 670م واتبع في تخطيط المدينة ماهو متبع في تخطيط المدن الإسلامية فكان أول مابدئ ببنائه في وسط المدينة المسجد الجامع الذي حمل اسم جامع عقبة بن نافع والى جواره وخلف القبلة دار الإمارة ثم اختط الأهلون بيوتهم من حولهما وقد استغرقت عمليات البناء خمس سنوات حيث انتهت عام (55 هـ) الموافق (675م).لم يمنع القيروان انعزالها بعيداً عن العمران من أن تنمو وتزدهر فقد شدت إليها المطايا من كل مكان وقصدها الناس من كل بلد وعظم قدرها فكان سوقها يمتد على طريق طولها ميل وثلثان، تبدأ من الجامع من جهة القبلة وتنتهي إلى باب أبي الربيع في جنوب المدينة وقد ظلت زمناً طويلاً عاصمته الأولى الإفريقية والأندلس وموطناً لبث اللغة العربية ونشر الإسلام في افريقية التي دخلها كثيرون من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ـ أمثال عبدالله بن عباس وأبي ذر الغفاري.وإذا ذكرت القيروان ذكر معها ابن الشيق القيرواني وابن شرف وكان لهما شرف الإسهام في بناء الشخصية العربية الإسلامية وإثراء التراث الإسلامي وتدعيم مسيرة حضارته العظيمة.وتضم القيروان اليوم عدداً كبيراً من المساجد في مختلف أحيائها منها القديم الأثري كمسجد الأبواب الثلاثة الذي شيد في منتصف القرن الثالث الهجري ومسجد الفقيه ابي الربيع القطان ومسجد الأنصاري ومنها المستحدث التي تم بناؤه في العصر الحاضر.ومازالت مدينة القيروان محافظة على طابعها الإسلامي الذي تميزت به ومازال جامع عقبة الذي يعتبر أقدم أثر إسلامي في المغرب كله تعبر عن الفن المعماري الأصيل وذلك بفضل اهتمام القائمين على هذه الآثار وحرصهم على حفظها من الاندثار لتظل القيروان مدينة إسلامية حديثة تنطق بماضيها ورمزاً عربياً خالداً محفوظاً في جفون التاريخ.إعداد/ داليا عدنان الصادق