لا يصلح المجتمع من غير نظام يضبط أمره، ويرعى مصلحة جموع أفراده، ومن طبيعة النظام أن يحرص على التسوية بين المواطنين جميعاً في الحقوق والواجبات، لا يفرق بينهم بسبب غناهم أو فقرهم، أو جاههم، أو قبائلهم أو علمهم أو جهلهم، فالقتل جريمة ولو صدرت من شيخ قبيلة، ومخالفة القانون جريمة ولو صدرت من وزير، وميزة النظم والقوانين أنها تصهر أبناء المجتمع كلهم في بوتقة واحدة، على قاعدة: كل حق يقابله واجب، وكل واجب يقابله حق.ومن طبيعة النظام السياسي في أي بلد أنه يشتد على مخالفي القوانين من غير رحمة، وأن يؤكد العقوبة من غير تردد، ذلك لأن القوانين إنما تشرع لمصالح الناس، فمن الرحمة بهم أن يضرب على كل يد تعبث بمصالح الناس، وتفوت عليهم مصالحهم، وفي ذلك يقول الشاعر:[c1]فقسا ليزدجروا، ومن يك راحماً[/c][c1]فليقس أحياناً على من يرجُمُ[/c]تلك هي طبيعة النظام السياسي في أي بلد وفي أي عصر، رعاية مصلحة عموم الناس، وأن كان فيها مساس بمصالح الأفراد، فالمساواة بين المواطنين تقتضي احياناً الشدة على المخالفين والمستهترين . ومن أجل هذا كان لابد ان تشرف على القوانين في كل دولة جماعة حازمة، وأيد قوية، لا تضعف في تنفيذ القوانين ولا تغفل عن تطبيقها، وكلما كانت يد الحاكم المشرفة على شؤون الجماعة حازمة في تطبيق الأنظمة والقوانين، كانت الأمة في نعمة شاملة، وأمن سابغ، وسعادة ترفرف على الناس جميعهم.وكثيراً ماتشكو الجماهير من الحكومات الضعيفة أو المحابية أو المتقاعسة أو غير الحازمة في حل قضايا الناس، ولذا نراها تطالب بالحكومات الحازمة، غير القاسية ولا المستبدة، كما تشكو من الحاكم الضعيف أو المحابي، حتى أنها تفضل عليه الحاكم المستبد العادل، ومن هنا يأتي أهمية قيام الدولة بعمليات استباقية للقضاء على المخربين والقتلة قبل قيامهم بأعمال إجرامية.ومعلوم أن الحاكم الضعيف قد يذهب ضعفه بهيبة الحكم، والحاكم المجامل تمنعه مجاملته من إحقاق الحق وإزالة الباطل، والحاكم المتساهل في شأن الاختلال الأمني لا يستطيع تثبيت النظام عندما تتفاقم الاختلالات الأمنية، وربما سيفقد السيطرة على الأمور في حين أن الحاكم الحازم قد يقسو ويشتد وهي قسوة مقيدة بالقانون والنظام، وهي لمصلحة الشعب ولضمان حقه، ولكنه لا يستبد ولا يتحكم لأن الاستبداد قسوة نابعة من هوى الحاكم الطاغية، وأما الحزم فهي شدة منبعثة من رحمة القانون بأمن المجتمع وسلامته، شتان بين هوى يستبد، وبين رحمة العدل، وشتان مابين قسوة من غير نظام، وبين شدة يضبطها قانون لحماية النظام.وليس أسوأ على النظام السياسي في أي مجتمع من التهاون في تطبيق القوانين على جميع أفراد المجتمع، بصرف النظر عن مواقع كل منهم، أو مراكز نفوذهم.لقد سرقت امرأة عربية متاعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيء بها متلبسة بالجريمة، فأتاه بعض الصحابة يكلمونه في إسقاط العقوبة عنها، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، أما والله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها). فهذا هو الحزم الذي ينبغي أن يؤخذ به في كل زمان ومكان.وخطب زياد بن أبيه حين ولي البصرة في عهد معاوية بن أبي سفيان فكان مما قاله: (اقسم بالله، لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح بالسقيم، من غرق قوماً غرقناه، ومن أحرق قوماً أحرقناه، ومن ثقب بيتاً ثقبنا بيته، ومن نبش قبراً دفناه فيه حياً، فقام إليه رجل فقال: لقد أنبأنا الله بغير ما قلت:قال تعإلى: «وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان الإ ما سعى» (النجم 37 - 39).وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم والمطيع بالمعاصي، فقال: زياد (إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضاً) وهذا هو الهوى والطغيان والاستبداد والذي تناضل الشعوب من أجل منعه وإيقافه، ولا يعتبر حزماً بأي حال بل استبداداً.وإننا ـ أيها الإخوة ـ كثيراً ما نخلط بين الحزم والاستبداد مع وجود بون شاسع بينهما في الدلالة الأثر في حياة الأمة والمجتمع.وليس بخاف أن تاريخنا الإسلامي كله مدين في صفحاته البيضاء إلى الحزم، وفي صحائفه السوداء إلى البغي والاستبداد ولابد أن نميز بين الحزم والشدة من جهة وبين البغي والاستبداد من جهة أخرى، فإذا كان البغي والاستبداد منبوذاً أو مرفوضاً ومداناً عبر التاريخ، فإن الحزم والشدة مطلوبة احياناً للتصدي لدعاة الفتنة، وإيقاف حركات التمرد والعصيان والانفصال التي تقلق الأمن وتحدث اضطراباً في المجتمع.فلو لم يكن ابوبكر رضي الله عنه حازماً في قتال أهل الردة، لأنشبت الفتنة أظفارها في الدولة الإسلامية، وقضت عليها في مهدها، وحرمت الإنسانية من كل ما قدمته الدولة الإسلامية في عصورها الزاهرة من خير وفضل على الناس جميعاً.ولو لم يكن عمر بن عبدالعزيز حازماً في رد مظالم بني أمية وإنفاذ الحق عليهم كسائر أبناء الشعب، لما كان في تاريخنا الإسلامي هذه الصفحات الخالدة، من عدل شمل أقطار الدولة المتباعدة الأطراف، ومن غنى شمل الناس جميعاً، فلا نجد من يقبلها.ولو لم يكن صلاح الدين الأيوبي حازماً في مقاومة الغزاة الغربيين من الصليبيين لظل وطن المسلمين لقرون طويلة رازحاً تحت قيود المحتلين الغزاة. وينبغي التمييز بين الحزم والشدة من جهة والبغي والاستبداد من جهة أخرى، فشتان بين الأمرين.لقد كان لحزم الحكام في عهود الدولة الإسلامية أثره في تثبيت النظام وتحقيق الأمن والاستقرار في حين كان بغي الحكام واستبدادهم بشعوبهم له أثره في انهيار الدولة وانعدام الأمن والاستقرار فيها.فلولا استبداد الحجاج وزياد بن أبيه وأمثالهما من ولاة الأمويين وسفكهم للدماء، وإرهاقهم للشعب بالمظالم والمغارم لما قامت الثورات الداخلية والتمردات التي قضت على ملك بني أمية في زمن قصير، وخلفت وراءها جروحاً دامية في جسم المجتمع الإسلامي، كان من آثارها كل ما أنبعث بعد ذلك من مآسٍ وفتن وكوارث.إن الاستبداد يكتم أنفاس الأمة، ويزيف إرادتها، ويشل تفكيرها، ويسوقها إلى حتفها دون أن تملك حق التعبير عن آلامها، في حين أن الحزم قرين حرية التعبير وملازم للحياة الديمقراطية وهو صمام أمان لتثبيت الأمن والاستقرار في المجتمع.فما أحوجنا في هذه الأيام إلى الحزم والشدة لإيقاف ظواهر الإختلالات الأمنية التي تظهر هنا أو هناك، والتي بسببها اضطربت حياة المجتمع، وفقدت الدولة هيبتها.وما أحوجنا للعدل والمسأواة وإزالة المظالم عن الناس، لينال كل صاحب حق حقه، بالقانون لا بالعنف واللجوء إلى القوة أو التظاهر أو قطع الطرقات وما شابه ذلك.وما أحوجنا إلى تفعيل القوانين النافذة، وتفعيل المحاكم لتنظر في قضايا الناس أولاً بأول، وعدم السماح بتراكم القضايا وتطويلها، حتى لا يضطر المتخاصمون اللجوء إلى أساليب غير مشروعة لمعالجة قضاياهم.وما أحوجنا للقضاء النزيه المستقل الذي لا سلطان عليه سوى سلطة القانون، فلا تؤثر فيه الرشوة، ولا يخضع للقبيلة، أو الحزب، أو العلاقات الشخصية.وما أحوجنا إلى التوزيع العادل للثروة والوظائف القيادية العليا، و=إتاحة فرص الترقي لذوي الكفاءات والخبرات، دون النظر إلى انتماءاتهم الحزبية أو القبلية، وما أحوجنا إلى تشغيل العاطلين، ومكافحة الفقر والجهل والمرض.وما أحوجنا إلى إصلاح أجهزتنا المالية والإدارية بتفعيل أجهزة الرقابة التشريعية والمحاسبية والجنائية.وما أحوجنا إلى الاستقرار السياسي، لأن عدم الاستقرار السياسي يدفع إلى العديد من الانحرافات والترضيات والمساومات، والصفقات المشبوهة، التي تمليها ظروف التوتر والقلق وهو ما يدفع إلى نشوء مراكز قوى تحاول استغلال عدم الاستقرار للإثراء والاعتداء والنهب والسلب.وما أحوجنا إلى الحكم الصالح القائم على دولة النظام والقانون وتكافؤ الفرص، والمواطنة المتساوية، وعلى المؤسسات الرقابية السابقة اللاحقة، وعلى الشفافية، والإفصاح والمساءلة والمحاسبة.وذلك لاستعادة هيبة الدولة وتعزيز سلطتها.وما أحوجنا إلى إلغاء البيروقراطية الإدارية والمالية المطولة والمعقدة التي تؤدي إلى إضعاف القوانين وتقييد التجارة، وتعدد الجهات المسؤولة وتكرارها، وهو ما يفضي إلى خلق بيئة ملائمة للفساد.وما أحوجنا إلى نظام عادل للأجور، يلبي حاجات الناس الضرورية، حتى لا يلجأ موظفو الدولة لممارسة الفساد في صورة عمولات، ورشاوى، وابتزاز، واحتيال، لأن تدني الأجور يؤدي لا محالة إلى الفقر الاجتماعي والفساد الأخلاقي.على انه لا ينبغي أن يفهم من كلامنا حين نطالب الدولة بالحزم والشدة في التعاطي مع الاختلالات الأمنية أننا ندعو إلى الاستبداد والبغي كلا وألف كلا ، وإنما نريد أن يكون للدولة هيبة بضبط المجرمين ومحاسبة الفاسدين ومعاقبة المدانين والعمل على سيادة القانون والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات . ولا نريد أن نعود إلى عهود الاستبداد وماسية ومن مآسيه الاستبداد انه يلبس الحق بالباطل فيظلم وهو يزعم انه عادل ويهدم وهو يزعم انه يبني ويضعف شأن الأمة من حيث يزعم انه يعلي مكانتها بيني الأمم وليس أدل على ذلك مما شهدناه في بلادنا قبل الوحدة من استبداد وتعسف في معالجة القضايا. ومنطق الاستبداد دائماً لا يستند إلى الحق وإنما يستند إلى فوضى الحكم واضطراب الأمن وقد يكون ذلك واقعياً احياناً ولكنه لا يبرر الطغيان والتعسف بأي حال من الأحوال. كتب عدي بن ارطأة والي البصرة في عهد عمر بن عبدالعزيز إلى الخليفة قائلاً : إن قبلي كان اناساًَ من العمال - أي الولاة - قد اقتطعوا مالاً عظيماً من مال الله ، لست قادراً على استخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشيء من العذاب ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك فعلت.. فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز قائلا: العجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر ، كأني لك جُنّة من عذاب الله ،( أي واق من عذاب الله) وكأن رضاي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل ، فانظر ما قامت عليه بينة فخذه بما قامت عليه به البينة ، ومن اقر لك بشيء فخذه بما اقر به ، وايم الله ، لئن يلقوا الله عز وجل بخياناتهم أحب إلي من ألقى الله بدمائهم). ذلك هو الطريق إلى حكم الشعب حكماً صحيحاً آمناً نطق به عمر بن عبدالعزيز قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمن وكأنه يضع لنا أصول الحكم الديمقراطي السليم في عالمنا المعاصر. وبعد، فلقد أسرف الشعب في التعاطي مع الحرية حتى وصل الحال إلى نوع من الفوضى وصار بعض الناس يطرحون قضايا تعيدنا إلى عهود التشطير المقيتة. وأسرف الحكام في مراضاة المتمردين حتى أهدروا كرامة الدولة، والله سبحانه وتعالى يقول: “ يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين “( النساء،134) وهذا هو أساس النظام السياسي الذي لا يحابي ولا يتراخى. وقال تعالى:” وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله” ( آل عمران 159) وهذا هو أساس السلطان الذي لا يضعف ولا يخور.
|
مقالات
ضرورة الحزم وعدم التهاون مع المجرمين
أخبار متعلقة