رسالة دكتوراه:التحولات الفكرية (1-3)
[c1]المطلوب في الوقت الراهن فهم العولمة وتحدياتها المفروضة علينا وليس افتعال المعارك معها[/c]قليلة هي الرسائل العلمية الجادة التي يعتد بها في فضاء البحث العلمي في اليمن، وقليل هم الباحثون الذين يتميزون برصانة المنهج وعمق المعرفة، ومن هؤلاء الدكتور/ توفيق مجاهد سالم سليم ورسالته العلمية لنيل الدكتواره هي » التحولات الفكرية للعولمة« حصل بموجبها على درجة الدكتوراه بامتياز من جامعة عين شمس كلية الاداب قسم الفلسفة.تتكون الرسالة من مقدمة وبابين كل باب مكون من ثلاثة فصول ويليها الاستنتاجات وقد حوت المقدمة إلمامة عامة عن كل ابواب وفصول الرسالة وفيما يلي ننشر المقدمة ويليها الجزء الثاني ويحوى الاستنتاجات على جزئين .[c1]المقدمة:[/c]اعتاد كثير من المفكرين والكتاب الكتابة عن العولمة من حيث انتهت اليه هذه الظاهرة اعتقادًا منهم ان البداية تكمن عند تلك اللحظة من تطورها تحديداً ، غافلين عن وعي منهم، او بدون وعي البداية الحقيقية للعولمة، اي تلك البواعث التاريخية ،الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاعلامية ، التي تراكمت على مدى تاريخ الراسمالية كلها، ولانه من غير المنطق ان ينطلق الجميع نحو العولمة مؤيدين أو معارضين، دون أن يتم التوقف عند السؤال لماذا كانت العولمة؟وكيف نشأت؟ فكانت مانراه الان من تحول عاصف نحو عالم جديد، ومفاهيم جديدة من قبيل مفهوم او ظاهرة العولمة.وبدون الوصول الى معرفة هذه الاسباب والمسببات ، التي ادت الى ظهور مثل هذا الوضع الجديد للعولمة، سنظل اسرى للنظرة الجزئية والعارضة ، غير مدركين لحقيقة ماندرس من موضوعات متعلقة بهذه الظاهرة، وبالتالي معرفة الآليات التي تحركها ، او تتحرك بها والقدرة على التمييز بين ماهو موضوعي، وماهو ايديولوجي ، بين ماهو جديد وماهو قديم ، بين ماهو صالح وما هو طالح في ظاهرة العولمة ... الخ..ونعتقد ان الكتابة حول العولمة، برغم كثرتها ،لم تكتمل بعد، ذلك ان الكتابة حول هذه الظاهرة هي كتابة حول ظاهرة لاتزال في طور التشكل الذي لم يصل الى نهايته بعد، فما تزال العولمة، والتحولات الفكرية لما بعد الحداثة المصاحبة لها لم تكتمل بعد ، ورياحها القوية ماتزال تدفع بالعالم بكل اتجاه، مايزال العالم يتوقع مفاجاتها السياسية والمعرفية والتكنولوجية والاقتصادية ، التي تتوالى اسرع مما كان يتخيله عقل بشري من قبل الامر الذي يعني ان هناك مناطق وزوايا كثيرة لاتزال مفتوحة امام البحث والمساءلة ، وامر كهذا يتطلب التنبيه الى اننا لاندعي باي حال من الاحوال اننا سوف نقول كل شيء في هذه ، او تلك من القضايا التي سوف نتعرض لها بالبحث والدراسة، لان عملنا هذا سيكون مجرد مساهمة بين عدد لايحصى من المساهمات البحثية حول ظاهرة كونية، تجذب الباحثين اليها وتفرض عليهم مساءلتها بالبحث والتحليل والدراسة وايضاً الحوار ليس على المستوى المحلي او الاقليمي او القاري فقط، بل على كل هذه المستويات مجتمعة، اي على المستوى الكوني.وهناك مسألة اخرى من المهم التأكيد عليها، وهي ان الكتابة عن العولمة تدفع الباحث الى التنقل في اكثر من مجال علمي/ معرفي، دون الاكتفاء باستلهام عناصر خطابها من حقل الفلسفة فقط، لهذا السبب تجد الكتابة حول العولمة صعوبات جديدة ، لانها كتابة تنتمي الى ظاهرة تحاول ان تصيغ خطاباً جديداً يتجاوز كل الخطابات السابقة، مستفيدة من لحظة تاريخية عالمية يمكن وصفها بانها تمثل عصر المعرفة والشك، عصر الترابط والانسجام الكوني وصدام الحضارات عصر الاعتراف بالآخر، والسعي لإذابة هويته، عصر الهيمنة والكلام عن الديمقراطية وحقوق الانسان، انها بعبارة واحدة مكثفة ، كتابة تنتمي الى عصر المتناقضات بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى.لهذا فقد تناول الباحث موضوع الدراسة من منظور ان العالم اليوم اصبح شديد التعقيد وتسوده حالة من الفوضى والتناقضات وعدم اليقين ، حالة من التداخل بين فروع المعرفة المختلفة بسبب تلك التغيرات والتحولات الكبرى، السريعة والمتلاحقة التي يشهدها عالمنا على كل الاصعدة ، ومن منظور ان العولمة الراهنة ليست حالة طارئة حلت على عالمنا بدون مقدمات بل هي وان مثلت في لحظتها الراهنة تعبيراً عن مرحلة جديدة في تاريخ الانسانية، فانها ايضاً قد جاءت نتيجة لمجموعة من التحولات الفكرية التي تعود بداياتها، كما يذهب الى ذلك العديد من الكتاب ، الى المراحل المبكرة من نشأة الرأسمالية في اوربا، لكي تصل مع نهاية القرن العشرين الى مرحلة اتسمت بقدر كبير من التغير والتنوع والسرعة شملت مختلف ميادين الحياة، واهم سمات هذه المرحلة - بلا شك- الثورة العلمية والتكنولوجية ، او كما يصفها البعض ، الثورة الصناعية الثالثة، وما يواكبها من تطور سريع ومذهل لتقنيات الاتصال والبرمجيات، الامر الذي ادى الى تقريب المسافات بين الامم والشعوب ، واتاحة الفرص لظهور تيارات فكرية وفلسفية وحركات اجتماعية وسياسية تعمل على مستوى عالمي وقد يؤدي الى محاولات القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة ، الافادة من هذا التطور الجديد لتؤدلجه وتقدم بالتالي العولمة بوصفها ايديولوجية الليبرالية الجديدة ، فالعولمة التي ظهرت ، مثلها مثل كثير من الظواهر التاريخية الكونية، اخذت تقيم مفاهيمها ومقولاتها الخطابية ، التي تعكس توجهات ليست معرفية فحسب بل سياسية وايديولوجية ايضاً.من هنا ، لايمكن تجاوز تلك المستجدات والتحولات الفكرية الكبرى التي شهدتها الساحة العالمية منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، وماتزال وقائعها جارية حتى اليوم ، ولانظن انها سوف تتوقف، وفي الوقت نفسة ، لايمكن القفز فوق تلك المقدمات، او تجاهل تلك المراحل التاريخية التي شكلت سياقاً مترابطاً او عتبات متلاحقة في سلم التطور التاريخي العام.من المهم تشخيص العولمة بشكل موضوعي ومتوازن ياخذ بعين الاعتبار ضرورة دراسة وتحليل وفهم تلك التحولات الفكرية ، التي رسمت خط تطورها وبالتالي تحديد ماللعولمة وماعليها ، دون اتخاذ مواقف عاطفية او ايديولوجية مسبقة ، او اطلاق احكام قيمية اخلاقية جاهزة، تعبر عن افتراضات وقناعات قد تكون اقرب الى الاوهام ، وبعيدة كل البعد عن حقيقة مايجري في العالم تحولات حضارية عميقة.المطلوب في الوقت الراهن، على مستوى الفكر والفلسفة ، هو فهم العولمة التي تفرض على مجتمعاتنا تحديات كثيرة، ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية... الخ ، وليس افتعال المعارك معها، باعتبار ان افتعال مثل هذه المعارك لايشكل- في الوقت الراهن على الاقل- المدخل الصحيح لمواجهة تلك التحديات التي تفرضها العولمة.لهذه الاسباب وغيرها تسعى هذه الدارسة الى الاقتراب من العولمة وفهمها فهماً موضوعياً، وذلك من خلال الاهتمام بدراسة تحولاتها الفكرية ، التي مرت بها منذ بداية تشكل تلك الارهاصات المبكرة لتبلور مشروعها الفكري المتعدد الجوانب- اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وفلسفياً - وحتى لحظتها الراهنة التي ظهر فيها مصطلح العولمة، واصبح الجميع يصف عالمنا الراهن بعصر العولمة.وعلى ضوء تلك المؤشرات، التي تبلورت في سياق معطيات التمهيد الذي استهلت به الدراسة بعنوان: ما العولمة؟ سواء من حيث معنى العولمة ، او تعريفها او الاشارة الى ابعادها وتجلياتها المتعددة حيث جاءت الكثير من المعطيات والآراء التي اتينا عليها لتأكيد الرأي القائل ان العولمة قد تكون جديدة اصطلاحياً وان الاصطلاح يعبر عن مفهوم جديد لكنه لايشكل في نفس الوقت قطيعة معرفية مطلقة مع ماسبقه من مفاهيم في مجاله المعرفي، وانما كان حصيلة تطور مفهومي متوافق مع تطور موضوعي للعملية التاريخية، التي مرت بها مسيرة الرأسمالية العالمية ، والخطاب الفكري الفلسفي الذي صاحب تاريخها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتقني، حتى لحظة ظهور مصطلح العولمة مع نهاية القرن العشرين لكي يعبر عن مرحلة تاريخية جديدة من مراحل تطور الرأسمالية كنظام اجتماعي تاريخي.فالعولمة كما يراها العديد من الباحثين والمفكرين والكتاب ، هي من حيث النشأة قديمة قدم الحداثة الاوربية ، فقد انطلقت ديناميات العولمة مع انطلاق دينامية الرأسمالية الغربية نفسها، والعولمة - بحسب ذلك- بقدر ما هي تجسيد لتاريخ الرأسمالية في مرحلتها المعولمة بقدر ماهي امتداد لمنطقها الداخلي ولرهاناتها التي قامت عليها منذ فجر انبلاجها قبل مايزيد عن خمسة قرون مضت.من هنا كان لابد من العودة الى " البداية " الى تلك الاصول البعيدة لمكونات ظاهرة العولمة، لمعرفة ورصد تلك التحولات الفكرية التي شكلت تاريخ الظاهرة والتي تجيب عن سؤالنا السابق: لماذا كانت العولمة؟و كيف تخلقت على هذا النحو الذي نراها عليه اليوم؟ وانطلاقا من ذلك ينقسم البحث الى بابين ، بالاضافة الى المبحث التمهيدي المذكور انفاً وخاتمة تحتوي على اهم النتائج.في الباب الاول، الذي يحمل عنوان العولمة والحداثة" سوف نكرس الفصل الاول الذي يحمل عنوان " مقدمات العولمة في ضوء التحول الحداثي" للوقوف على تلك المرحلة التي تبدأ بعصر النهضة ، وتستمر حتى نهاية عصر التنوير والثورة الفرنسية ، ومايصاحبها من احداث منها - تمثيلاً لا حصراً - الاكتشافات الكبرى، وعصر سيادة الرأسمالية التجارية ، وظهور الفكر الفلسفي الحديث، وذلك بقصد معرفة تلك البؤر التأسيسية لخطاب العولمة الراهنة في فكر تلك المرحلة التاريخية التي شكلت المقدمات الفكرية للحداثة الرأسمالية اللاحقة.في حين يكرس الفصل الثاني، حول العولمة والمسار الحداثي للرأسمالية منذ بداية نشأتها ، وحتى عتبة العولمة الراهنة من منظور ان نمط الانتاج الرأسمالي الذي نشأ في اوربا، واخذ يتوسع ويتنامى داخلها، مطوراً ومبدعاً اشكالاً جديدة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتشكيلات القومية- ناهيك عن المنجزات العلمية والتكنولوجية والمفاهيم الفكرية والفلسفية- قد اخذ يتوسع ويتنامى ايضاً خارج القارة الاوربية بهدف عولمة الرأسمالية كنظام اجتماعي تاريخي يتصف منذ نشأته ، بنزوعه نحو العالمية، متسلحاً بمختلف آليات واساليب التدخل والغزو والسيطرة العسكرية والسياسية والتجارية والثقافية وغيرها من الاساليب التي قادته الى تعميم نمط الانتاج الرأسمالي لكي يمتد في نهاية الامر في ظل العولمة الراهنة وانهيار مشروع الحداثة الراديكالية في الاتحاد السوفيتي، الى كل ارجاء الكرة الارضية.اما الفصل الثالث فيكرس حول العولمة في الخطاب الفلسفي للحداثة، من خلال الوقوف عند تلك الاسس الفلسفية لخطاب العولمة في الحداثة.سوف نتوقف عند هيجل الذي قامت على فلسفته- تقريباً- معظم التيارات الفلسفية المعاصرة لكن تعاملنا معه لن يتجاوز حدود تلك الجزئية المتعلقة بمقولة نهاية التاريخ التي يبلورها هيجل ، ويتخذ منها فوكوياما منطلقاً لكي يعيد استنساخها بما يخدم بناء طروحاته الجديدة، حول نهاية التاريخ على ضوء تلك التحولات الجديدة التي حدثت مع نهاية القرن العشرين، سوف نتوقف ايضاً عند ماركس الذي استحدث قراءة مبكرة ليس فقط لفجر الرأسمالية الغربية فحسب، بل ايضاً لمشاريعها الاستراتيجية ، التي من خلالها استشرف لحظة العولمة الراهنة ، وهو الامر الذي ابقى على حضور ماركس في الخطاب الفكري السائد في عصر العولمة الراهنة، فهو يستحضر عند البعض لكي تنقد نظرياته وافكاره الفلسفية والاجتماعية والسياسية، فيما يجرى استلهامه من قبل البعض الآخر كأحد المرجعيات الفكرية والفلسفية لتأكيد وجهات النظر حول هذه او تلك من القضايا المثارة اليوم امام الفكر الانساني ، ومن ماركس وهيجل الى هيدجر وطروحاته النقدية المبكرة حول الميتافزيقا الغربية ولكن من خلال الوقوف امام مشكلة العلم والتقنية والعولمة ، ثم الى هابرماس والبحث عن نظرية فلسفية تواصلية تدافع عن مشروع الحداثة وتقود الى عولمة تواصلية تؤمن بالحوار التواصلي القائم على القبول بالاخر وفقاً لمعايير اخلاقية كلية.وفي الباب الثاني الذي يحمل عنوان : العولمة ومابعد الحداثة سوف يكرس الفصل الاول فيه لدراسة العولمة في ضوء التحولات مابعد الحداثية، التي جاءت تعبيراً وتجسيداً لمجموعة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدأت معالمها بشكل خاص ، منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين وتوجت بانهيار المنظومة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان اوربا الشرقية ، وما صاحبها من توجهات فكرية جديدة، وكيف صور للبعض ان تلك التحولات والانهيارات الكبرى، على انها تأكيد على انتصار نهائي لاقتصاد السوق والديمقراطية الغربية الليبرالية وبانها نهاية للتاريخ وتواصلاً مع معطيات هذا الفصل.سوف يكرس الفصل الثاني لمعالجة اشكالية التلاقي والاختلاف بين العولمة والخطاب الفلسفي لما بعد الحداثة، من خلال، وعبر انموذجين فلسفيين كبيرين يشكلان ابرز اعلام تيار مابعد الحداثة ، وهما الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا ومواطنة الفيلسوف جان فرانسوا ليوتار.وسوف نختتم الباب الثاني والرسالة بفصل يحمل عنوان : العولمة ومابعد الحداثة ، يتبعه خاتمة الرسالة التي تتضمن اهم النتائج، التي سوف يتوصل اليها الباحث على ضوء تلك المقدمات التي انطلق منها في دراسته للتحولات الفكرية للعولمة.وفي ظل موضوع البحث الاساسي الى تمتد مشكلته- كما سبقت الاشارة - الى حقول معرفية مختلفة، ولا تتوقف عند حدود الميدان الفلسفي فقط، فقد حرص الباحث خلال عرض وتحليل اشكالية البحث على استخدام منهج تكاملي قوامه التحليل والتركيب والنقد، وهو ماتطلبه طبيعة الموضوع الاساسي لدراسة مختلف الاشكاليات، التي تبلورت في سياق موضوعات البحث بكل ابعاده وتجلياته الفكرية المختلفة ، كما ان موضوع وطبيعة الدراسة تقتضي منا العودة الى المنهج التاريخي المقارن ، الذي حاول من خلاله الباحث تتبع التحولات الفكرية للعولمة والرجوع الى تلك المراحل التاريخية السابقة، التي عبر خط مسارها الفكري نشأت العولمة الراهنة، كما استعان الباحث ايضاً بالمنهج النقدي في مواضع مختلفة كضرورة منهجية مكملة للمناهج السابقة، بهدف الكشف عن مختلف التناقضات التي يمكن ان ينطوي عليه خطاب العولمة، عبر مراحل تحولاته الفكرية المختلفة.