[c1] 1) ذكريات من أيام المدرسة المتوسطة [/c]لعل أول مرة أقرأ فيها لباكثير كانت عام 1952 أو نحو ذلك وانا صبي في المدرسة المتوسطة في عدن. كان مدرس اللغة العربية قد اخبرنا اننا سنقدم في الحفل السنوي للمدرسة للآباء والمدرسين والطلبة مسرحية نثرية بعنوان "مسمار جحا" للأديب اليمني المصري علي أحمد باكثير وأخبرنا أن مسمار جحا في الرواية يرمز إلى قناة السويس التي كانت في ذلك الوقت ما زالت تحت سيطرة الجيش البريطاني. وكان الاستعمار البريطاني في عدن لا يدرك الأبعاد السياسية للمسرحية بينما كان مدير المدرسة متعاطفا مع ما تطرحه المسرحية. وقد انيط بي دور بسيط جدا رغم أنني كنت الأول على الفصل ربما نظرا لصغر سني وحجمي وأذكر أنه كان علي أن اردد أكثر من مرة عبارة " يا أبا سحتوت كل حي يموت".وكان مدرس اللغة العربية قد أنشأ في الفصل مكتبة صغيرة كنا نساهم في تمويلها من مصروف الجيب وزودها بعدد من الروايات والكتب الحديثة واذكر أنني استعرت منها روايات مثل "كفاح طيبة" لنجيب محفوظ و"سلامة القس" و"واإسلاماه" لباكثير. كما أن المدرس قرر علينا ابياتا لباكثير مطلعها:ياسيف يعرب جرد غمدك الآنا فيوم بطشك بالاعداء قد حانايوم انطلاقك من غمد شقيت به دهرا ولاقيت من بلواه ألوانا وأخبرنا أن القصيدة كانت تخاطب أمام اليمن الأمام أحمد بن يحيى حميد الدين. ولعل المدرس كان مخطئا فالأمام أحمد كان طاغية فباكثير عند قيام ثورة الأحرار أو ثورة الدستور في اليمن عام 1948 ومصرع الإمام يحيى والد الإمام احمد قال في قصيدة بعنوان "أمة تبعث" منها:[c1]ملك يموت وأمة تحيا بشرى تكاد تكذب النعياما كان أبعد ان نصدقها سبحان من أردى ومن أحياشعب نضا الأكفان عنه وقد بليت فأهداها الى يحيىغفر الإله لعاهل بطل صان الحمى حرا ولم يعياماضره لو قد أضاف إلى حسناته التعمير والإحياوأمامك الملك الجديد على عهد من الشورى سما هدياقل للذي يبغ الرجوع إلى عهد طوته يد البلى طياإن يبغ احمد أن يرى ملكا فليبغ قوما مثله عميا[/c]وفي هذا البيت الأخير يقدم لنا رأيه في الأمام احمد قبل أن يتغلب على ثورة الدستور التي لم تستمر في الحكم سوى بضعة اسابيع. كما أن باكثير كتب قصيدة احتفى فيها بالمجاهد الجزائري الكبير "الفضيل الورتلاني" الذي لعب دورا هاما في تلك الثورة. ولكن ربما كتبها باكثير مخاطبا احمد عندما كان وليا للعهد وكان بعض الاحرار يؤملون فيه خيرا في البداية، وكان يلقب "بالسيف أحمد" فربما لذلك خاطبه بسيف يعرب. وقد أخبرني كل من د. محمد أبوبكر حميد ود. أحمد السومحي و الأستاذ عبدالحكيم الزبيدي انهم لم يطلعوا على تلك الأبيات في أي اثر لباكثير الذي أنهى القصيدة محرضا: "وأعلن الحرب يابن الحرب إعلانا"[c1] 2) ذكرى لقاء وحيد بباكثير[/c] كان علي أن انتظر حتى ابريل عام 1968 للقاء باكثير. فذات يوم أخبرني والدي الشاعر الدكتور محمد عبده غانم أن باكثير موجود في عدن وأنه سيزورنا هو والعلامة الضريرالشيخ محمد سالم البيحاني. كان لدي موعد للعب التنس فألغيته واستقبلت باكثير والبيحاني مع والدي في المنزل. أما البيحاني فكنت قد رأيته قبل ذلك بل كنت اواضب على صلاة الجمعة في مسجد العسقلاني بعدن الذي جدده البيحاني في الخمسينيات من القرن الماضي وبنى لنفسه شقة صغيرة ملاصقة للمسجد. كان المسجد من طابقين وفيه قسم للنساء وكان يكتظ بالمصلين أيام الجمع ولا ينافسه من حيث أقبال المصلين عليه إلا مسجد العيدروس الذي كان يخطب فيه الشيخ علي باحميش. وقد قضى الشيخ باحميش شهيدا في أوائل السبعينيات عندما دهسته سيارة وهو على الرصيف فقد كان رحمه الله ينتقد الحكم الشمولي وابتعاده عن تعاليم الدين بجرأة لم يكن لها مثيل في ذلك الزمن وقد حضرت بعض خطبه في مطلع السبعينيات وكان المسجد الكبير يكتظ ويفيض بالمصلين وبالناقمين على الاوضاع. أما الشيخ البيحاني فقد هاجر بعيد استيلاء الحكم الشمولي الى الشطر الشمالي وتوفي هناك.وكان البيحاني قد انشأ صرحا تعليميا هاما في عدن وهو المعهد الاسلامي ليكون أزهرا مصغرا في عدن وقد اختار له المدرسين الأكفياء بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية والمناطقية من اليمن شمالا وجنوبا مما يدل على سعة أفق ذلك العالم المفكر. وكان البيحاني رحمه الله صديقا لوالدي فقد طلب من والدي قص شريط افتتاح المعهد وعلى كل حال فقد كان والدي في ذلك الوقت المسؤول الاول عن التربية والتعليم في عدن. ولكن البيحاني أيضا كان قد طلب من والدي تقديم أحد كتبه الدينية القيمة وأذكر انني قرأته بمقدمة لوالدي. وكان البيحاني صديقا قديما لباكثير منذ انتقاله من حضرموت الى عدن نحو عام 1931 حيث كون باكثير صداقات ايضا مع جدي لأمي رجل التنوير الصحفي المحامي محمد علي لقمان ومع والدي وغيرهما من الشعراء والمثقفين وصار عضوا في نادي الإصلاح العربي الأسلامي بعدن والذي كان يديره جدي لقمان (وكان قبل ذلك يديره تحت مسمى نادي الادب العربي الذي أنشئ عام 1927 بتشجيع من عبد العزيز الثعالبي) بينما كان جدي السيد عبده غانم الهاشمي الحسني رئيسا لنادي الأصلاح في التواهي منطقة الميناء. وكان باكثير عندما وصل الى عدن عام 1931 قد أصبح شاعرا معروفا بينما كان والدي الذي يصغره قليلا شاعرا ناشئا دون العشرين وقد رحب والدي بباكثير عند مقدمه بقصيدة ضاعت منه ولكنه ذكر منها بيتا في المقدمة المعنونه "رحلتي مع الشعر" لأعماله الشعرية الكاملة التي نشرتها دار العودة و هو:[c1] ياعلي الفضائل الجم كن لي موئلا واطرد العذاب المهولا[/c]ويقول أن باكثير قال له برفق فيما بينهما: لو قلت "الفضائل الكثر" لكان أفضل. ومنذ بضع سنوات أهداني الدكتور محمد ابوبكر حميد صورة من تلك القصيدة وجدها بين أوراق باكثير بخط والدي قبل التحاقه بالجامعة الامريكية ببيروت التي تخرج فيها بدرجة الامتياز عام 1936 كأول خريج من الجزيرة العربية وكان الاول على دفعته وحصل على الجائزة الاولى للمسابقة الشعرية التي عقدتها جمعية العروة الوثقى في بيروت وشارك فيها شعراء متميزون. وقد تطور شعر والدي كثيرا منذ قصيدته في باكثير حتى القصيدة الفائزة. وكان خط والدي الجميل في تلك الورقة القديمة بحروف كبيرة ثم أصبح أصغر فأصغر كلما تقدم به العمر. وقد أخبرني الاستاذ الجليل عبدالله فاضل فارع أنه عندما رأى مقطوعة مخطوطة لوالدي في معجم البابطين عرف أنها ليست بخط والدي الذي كان يدرسه الخط في الثانوية. والواقع انها بخطي المتواضع فقد كتبتها نيابة عن والدي الذي كان يجد صعوبة في الكتابة في شيخوخته. ويمكننا هنا أن نلاحظ أن باكثير كان على الرغم من نتاجه الضخم "يؤرشف" او يحتفظ بكل الاوراق والقصاصات القديمة التي تهمه فاحتفظ بقصيدة والدي أما والدي فقد كان أقل حرصا وقد أضاع بل واتلف عن عمد كثيرا من نتاجه الذي كان لا يرضى عن مستواه. أذكر أيضا أن والدي اخبرني أن باكثير كان يفكر في الالتحاق بالجامعة الامريكية ببيروت كما فعل والدي وكما فعل بعده الشيخ عبدالله بلخير "شاعر العروبة" السعودي الحضرمي الاصل، وقد طلب باكثير من والدي أن يزوده باستمارة الالتحاق بالجامعة فارسلها إليه ولكن باكثير آثر بعد ذلك الذهاب الى مصر. وقد أخبرني الدكتور محمد أبوبكر حميد أن باكثير كتب الى الجامعة في بيروت يطلب الإلتحاق بكلية الزراعة إلا ان الجامعة اعتذرت يومها لعدم وجود كلية للزراعة فيها. و كما يذكر الدكتور أحمد السومحي في كتابه "علي أحمد بكثير-حياته وشعره الوطني والاسلامي" فقد نزل باكثير في عدن في ضيافة محمد علي لقمان الذي كان يعطف عليه ويواسيه بعد ان توالت عليه النوائب في حضرموت بوفاة زوجته الحبيبة ووالده وأخويه وبعض اقاربه علاوة على مالقيه من عنت في سبيل دعوته الى الاصلاح الاجتماعي. ولقمان كان من أهم بل ربما أهم رجال التنوير في عدن آنذاك و كان على اتصال ببعض رجال التنوير في العالم العربي في تلك المرحلة أمثال الأمير شكيب أرسلان وعبدالعزيزالثعالبي ومحمد كرد علي ومحمد علي الطاهر والقاضي الشاعر الكبيرمحمد محمود الزبيري والشيخ أحمد محمد نعمان كما كان على علاقة بالفيلسوف البريطاني برتراند رسل والزعيم الهندي المهاتما غاندي وهذا الاخير نصحه ان يدرس القانون وينشئ صحيفة للمطالبة بالحكم الذاتي كخطوة أولى نحو الاستقلال وقد صار لقمان بالفعل أول خريج قانون في اليمن كما انشأ صحيفة فتاة الجزيرة أول صحيفة مستقلة في اليمن وكانت تطالب بالحكم الذاتي منذ مطلع الحرب العالمية الأولى كما أنشأ أول صحيفة انكليزية بعد ذلك ونشر أول رواية يمنية كما نشر عددا من الكتب السياسية والأدبية منها "بماذا تقدم الغربيون" الذي كتب مقدمتة الامير شكيب أرسلان. وكان لقمان يكتب الشعر التقليدي في تلك الفترة ولكنه كما ذكر هو نفسه في بعض كتاباته انه بعد ظهور شعراء حقيقيون أمثال عبد المجيد الاصنج ومحمد عبده غانم وابنه البكر علي محمد لقمان هجر الشعر الى غير رجعة. وعلى الرغم من علاقتي الشخصية الوثيقة به إلا انني لم اقرأ له شعرا وأذكر انه ذات مرة قرأ علي وعلى شقيقي الدكتور الشاعر قيس ونحن في الثانوية معلقة عنترة من الذاكرة وكان إلقاؤه رائعا. كان لقمان يكبر باكثير بنحو عشرة أعوام ويبدو أنه كان يتبادل القصائد مع باكثير كما يبدو من ابيات باكثير التالية الى لقمان: [c1]رأيت رسائلك الوافيه عقودا من الدرر الغاليةفشعر رقيق أسير القوافي وشعر طليق بلا قافيه[/c]وقد أخبرني الدكتور محمد أبوبكر حميد أنه لم يجد بين أوراق رسائل لقمان الكثيرة الى باكثير سوى قصيدة واحدة للقمان. وعلى كل حال فإن هموم الرجلين حول مستقبل الامة وحول الادب والرواية والشعر والفكر كانت واحدة أو متقاربة. يقول باكثيرفي إحدى قصائده الكثيرة الموجهة الى لقمان: [c1]فدم ياسيدي لقمان حيا وسلوى للعليل وللحزينفكم فرجت من همي وضيقي وكم كفكفت من دمعي الحزين[/c]وعندما رحل محمد علي لقمان عام 1933 الى بربرة في الصومال حيث ذهب مديرا لشركة"البس" لم يطق باكثير الحياة بعيدا عن عطفه وتلك العلاقة الادبية والفكرية فتبعه الى الصومال ونزل في هرجيسة عاصمة الصومال البريطاني آنذاك فكتب الى لقمان قصيدة منها:[c1]قسما ما لنا سواك ملاذ فحنانيك أيها الأستاذلو تعطفت فانثنيت إلينا لاستتبت لنا المنى والملاذفي ربى هرقيسا هواء وماء ورياش ووابل ورذاذغير انا وانت لست لدينا مالنا في ذرى الجمال نفاذ[/c]بل ان باكثير قد أهدى ديوانه "العدنيات" الذي مازال مخطوطا الى امرأة لراحلة لم يسمها (اغلب الظن أنها زوجته التي فجع بوفاتها شابة) وإلى محمد علي لقمان.وعلاقة باكثير بالشيخ البيحاني كما ذكرت تعود أيضا الى مايسمى "بالفترة العدنية" في حياة باكثير وقد حضر باكثير مع الشيخ مؤتمرا للوفاق في جبوتي بين المجموعات العربية المتخاصمة وألقى قصيدة امتدح فيها الشيخ على توفيقه بين المتخاصمين ومنها:[c1]نورا أرى ملأ الفضاء بريقا في الشاطئ الشرقي من أفريقالم يأل منطقه وحسن بيانه لقلوبهم رغم اللظى ترقيقاإيه "محمد" لا عدمت كفاءة قد طوقتك بفخرها تطويقا[/c]أعود الى لقائي اليتيم بباكثير ففي ذلك اليوم من ايام ربيع 1968 شعرت بأنني شخص محظوظ إذ قضيت بضع ساعات في رفقة ثلاثة من الرجال الافذاذ في تاريخ اليمن الحديث. رجال تركوا بصماتهم على الحركة الاصلاحية والتعليمية وعلى الفكر والادب وخلفوا الكثير من الآثار والكتب القيمة. وقدتعاملوا معي كأني واحد منهم ولم يشعروني مطلقا بأني تلميذ في حضرة أساتذة بل تبسطوا معي في الحديث وخاصة باكثير خصوصا عندما عرف أنني مهندس ذو ميول أدبية. كان ثلاثتهم أقل مني قليلا في الطول وربما كان باكثير أقصرهم قامة. كان الشيخ البيحاني يلبس الجبة وعمة علماء الدين أما باكثير فكان يلبس بدلة غربية رمادية اللون وكان مبتسما معظم الوقت وتبدو عليه السعادة الغامرة والاسترخاء ولعل تلك السعادة كانت بسبب لقائه صديقين عزيزين على قلبه بعد كل تلك العقود. كان يتحدث معي بصوت هادئ أقرب إلى الخافت بوجه بشوش يجعله قريبا الى النفس وشعرت أنه بصحة جيده. وتطرق الحديث الى مصر وما كان يتعرض له كأديب عروبي إسلامي من مضايقات بسبب الايدلوجيين ضيقي الافق في تلك الفترة والى ما رآه في اليمن الجنوبية خلال زيارته واتضح انه عدل عن أي تفكير في العودة الدائمة الى حضرموت أو عدن بعد ان رأى بدايات مساوئ الحكم الشمولي فمعاناته في مصر تظل أهون الشرين. وكان قراره صائبا. وكنت نصحت والدي أيضا أن يهاجر ولو مؤقتا فأبى ولكنه اضطر ان يفعل ذلك بعد أقل من اربعة أعوام . بعد ذلك اللقاء الذي بقي محفورا في الذاكرة بعام ونصف تقريبا رحل باكثير إلى عالم آخر لا يرى فيه المرء ظلم الانسان لأخيه الانسان وقد رثاه والدي مع عدد كبير من الشعراء في مختلف الدول العربية ومما قاله والدي في تلك المرثاة وهو يتذكر صداقته بباكثير في أوائل الثلاثينيات، وكما علمت من الموقع الذي أنشأه الاستاذ عبدالحكيم الزبيدي فقد زاره والدي برفقة شقيقي الدكتور نزار غانم في مصر عام 1969 :[c1]لم يمض منذ رأيته إلا القليل من الشهورفي داره في ضفة النيل المصفق بالنميروهو الكثير فليس ينسى الود للماضي الاثيرأيام تجمعنا به عدن على الامل المنيرأيام كان يزورنا في حلقة النادي النضيرفيهز آفاق الندي بشعره العذب المثيرويجيبه الانشاد في وهج شجي مستطيرلحنا تردده الشبيبة في العشي وفي البكورثم يقول مذكرا ببيت باكثير الشهير: "ولو ثقفت يوما حضرميا لجاءك آية في النابغينا"للحضرمي مع النبوغ مواقف الشرف الشهيرإلى أن يقول مذكرا بمؤلفات باكثير:أنى لفضل الباكثير على العروبة من نظير(شيلوك) (شعب الله) و(الفرعون) تدوي بالنكيرو(السر) و(القصران) تعكس للنهى عبث القصورو(القس) تروي كيف قاضي الحب يقضي في الامورو(الجلفدان) تحذر المغرور عاقبة الغرورو(الحبل) ينشر في الغسيل تفاهة الرأي الفطيروإذا (بإسلاماه) تدعو المسلمين إلى النفيروإذا (بمسمار ) الحماة يدق في نعش المغيروإذا بصهيون تدان بربهارب الشرور(بإله إسرائيل) حين يقول بالعرق الحقير[/c]الى ان يقول:[c1]إن غاب عنا الباكثير فذكره ملء الصدور..[/c]وقد رأيت مجموعة كبيرة من أعمال باكثير على مكتب والدي فهو لم يكتب هذه المرثية الطويلة التي اقتطعنا منها بعض الابيات ولم يذكر ما ذكر من كتب باكثير في مرثيته إلا بعد أن قرأ أو اعاد قراءة تلك الاعمال. وهكذا كان شأن اولئك الافذاذ لا يهرفون بما لا يعرفون.[c1]3) باكثير والانتماء[/c]منذ بضع سنوات نشرت مقالا في الخليج جاء في مقدمته أنه يحق لليمن وبالذات حضرموت أن تقول إن باكثير ينتمي إليها فهو حضرمي الوالدين والنشأة ويحق لمصر أن تقول إنه ينتمي إليها "فالمرء حيث ثبت وليس حيث نبت" وفي مصر طارت شهرته ونال الجوائز الادبية وبعضها من عبدالناصر نفسه الذي وافق على إعطائه منحة تفرغية لكتابة ملحمة عمر وهي منحة ربما لم تعط لغيره من الادباء المصريين، وفي مصر تزوج وفيها دفن. كما يحق لإندونيسيا أن تقول إنه ينتمي إليه ففيها ولد وقضى طفولته وكل وطن يحب أن ينتمي إليه العظماء والناجحون.وقد لاحظت في الموسوعة الشعرية التي اصدرتها مؤسسةجائزة عبدالعزيز البابطين عام 2001 بعنوان "مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين" والتي جاءت في خمسة مجلدات أن باكثير ظهر في القسم الخاص باليمن واختار له معدا القسم الدكتور عبدالعزيز المقالح والشاعر محمد حسين هيثم قصيدة بعنوان "واقفة بالباب". كما ظهر في القسم الخاص بمصر والذي اعده الدكتور عبدالقادر القط وعماد غزالي واختارا له مقطعا من مسرحيته "اخناتون ونفرتيتي" وهي التي كانت من تاليفه وكتبها بالشعر التفعيلي (أو ما يسميه بعضهم بالحر وهي تسمية يطلقها بعضهم على ما يسمى بقصيدة النثر) وكانت المسرحية على وزن المتادرك وهو أقرب الاوزان في نظري الى النثر، كتبها عام 1938 ونشرها عام 1940 وكان قبل كتابتها بثلاثة أعوام قد ترجم مسرحية شكسبير "روميو وجولييت" مستخدما الشعر التفعيلي الذي أسماه يومها "النظم المرسل المنطلق" أي المرسل من القافية (وكانت هناك قبله محاولات كمحاولة محمد فريد ابوحديد لإرسال القافية مع الاحتفاظ بالوزن الخليلي للبيت الكامل) وكان باكثيرهنا يحاول أن يترجم المصطلح الانكليزي running blank verse والحقيقة أن باكثير كان قد في هذين العملين قد وقع على الشعر التفعيلي وسبق بذلك السياب ونازك الملائكة بنحو عشرة أعوام. وباكثير ذكر في أكثر من مكان ان السياب كان يذكر له هذا السبق. ولكن الساحة الادبية ظلت لسنوات تنسب هذا الشكل للسياب ونازك وتختلف عمن منهما الاسبق اليه.والحقيقة ان موسوعة البابطين المذكورة وضعت الشاعر أحمد السقاف المولود في اليمن في القسم الكويتي ولم تذكره في القسم اليمني على الرغم مما قدمه السقاف لليمن من المشاريع الهامة كعضو منتدب للهيئة العامة للجنوب والخليج وعلى الرغم من زياراته المتكررة لليمن كما ذكرتني أنا شخصيا في القسم الخاص بالامارات ولم تذكرني في القسم اليمني على الرغم من كتاباتي العديدة عن شعراء اليمن وعلى الرغم من أن والدي وخالي علي لقمان في القسم اليمني من الموسوعة. ولكن يمكن أيضا القول إن شاعرة معروفة بحرينية الأصل مثل ثريا العريض سجلت في القسم السعودي فقد تزوجت من سعودي واستوطنت في السعودية وهي ابنة الشاعر البحريني الكبير ابراهيم العريض المذكور في القسم البحريني. ولكنا بالمقابل نجد شاعرا بحريني المولد هاجر وتوفي في قطر هوعبد الرحمن المعاودة مذكورا في قسمي بحرين وقطر في نفس الموسوعة وبقصيدتين مختلفتين بل إن احد القسمين يذكر أن وفاته كانت عام 1996 بينما يذكر القسم الاخر انها كانت عام 1997 وحبذا لو تجنبنا مثل هذا التناقض في نفس الكتاب أو الموسوعة.وانا نفسي عندما ترجمت مختارات من الشعر اليمني ونشرتها في كتاب اخترت قصيدة "الشهيد" لباكثير ضمن الكتاب وهي القصيدة التي يقول فيها:[c1]فيم احتشادكم هذا لتأبيني[/c] أنتم أحق بتأبين الورى دوني[/c] وعلى كل حال فأنا أرى ان الشعراء الذين ينتمون الى اكثر من قطر عربي يعدون همزة وصل بين القطرين ويساهمون في التقارب بين ابناء هذه الامة بعيدا عن الإقليمية الضيقة. وأظن أن باكثير كان يمكنه الانتماء الى مصر واليمن واندونيسيا بنفس السهولة. ونحن اذا عدنا الى شعرائنا في العهد العباسي مثلا نشعر انهم ينتمون في الغالب الى الامة بلغتها وفكرها وحضارتها وثقافتها وليس الى بلدان معينة بل لانعرف اين ولد الكثير منهم وان حفظنا الكثير من أشعارهم. كم منا من يعرف أين ولد البحتري أو العباس بن الاحنف؟أعود إلى مقالي في صحيفة الخليج فاذكر انني قلت في نهايته ان شهرة باكثير في مصر تذكرنا بالشهرة التي اكتسبها عمارة اليمني عندما هاجر الى مصر في أواخر عهد الفاطميين ولقي لديهم الحفاوة على الرغم من أنه تمسك بالبقاء على مذهبه السني. فالأدباء في الدول الاطراف كانوا ينالون الشهرة عند الانتقال الى الحواضر الكبرى وان كانت الصحافة و وسائل الإعلام اليوم قد يسرت للادباء في الاطراف أن يعرفوا في مختلف أرجاء العالم العربي.[c1]4) هل ظلم باكثير؟[/c]يقول الاديب الروائي الكبير نجيب محفوظ وكان في وقت من الاوقات يشاركه نفس المكتب في إحدى الدوائرالحكومية، أنهما ظهرا معا واشتركا في جائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية عن روايتهما رادوبيس وسلامة القس ويرى أن باكثير أديب عظيم ولكنه مسرحي أكثر منه روائي. ويرى أن باكثير لم يظلم رغم صيحته في الصحف قبل وفاته "لقد ذبحوني" ويقول : (كيف ظلم؟ انه كروائي نشرت أعماله وما يصلح منها للسينما تم تقديمه وهو كمسرحي تم تمثيل الكثير من اعماله المسرحية في حياته وبعد مماته، اما اذا مات وفي ذهنه شيء لم يتم في حياته فهذا ليس ظلما ولكنها ارادة الله). ولا أدري كيف غاب عن نجيب محفوظ ذلك الظلم الذي كتب عنه كثير من الادباء المصريين أنفسهم فالصرخة (لقد ذبحوني) التي أطلقها باكثير وهو الرجل المتواضع الصبور لم تكن الا بسبب التعتيم الذي عانى منه من بعض النافذين المعادين لاتجاهه الاسلامي والعروبي والذين وقفوا ضد تقديم اعماله على المسرح ونشر كتبه. بل ان بعض كتبه نشرت ولم تغادر المخازن. وذلك الظلم هو الذي دعا باكثيرالى الفكير في آخر عمره بالعودة الى موطنه الاصلى هروبا من ذلك الظلم ولكنه أدرك أن الظلم هناك كان أدهى. ثم ان باكثير كان أول من كتب شعر التفعيلة ولكن ذلك الشكل ظل الى يومنا غالبا ما ينسب الى غيره، فأي ظلم بعد ذلك الظلم. ومن الضروري أن نعيد الحق الى نصابه بالتأكيد على ان شعر التفعيلة هو انجاز باكثيري في المقام الاول، دون طمس أفضال الآخرين الذين رسخوا وطوروا ذلك الشكل المهم في تاريخ شعرنا الطويل.
|
دراسات
علي احمد با كثير....ذكريات وخواطر
أخبار متعلقة