أضواء
في المقالين السابقين ، رأينا كيف صنعت القاعدةُ النفعيةُ الواقعيةُ في تاريخنا حالةَ وأد ثقافي تنتج نفسها باستمرار . لقد استمر الوأد الذي قام على فرضيات القاعدة النفعية ؛ حتى بعد زوال المبررات النفعية التي يشرعن النفعي من خلالها لفعله اللاإنساني ، بل حتى بعد أن ضخ الإسلام وعيا مضادا لثقافة الوأد السائدة آنذاك في معظم الحضارات ، ومهد الطريق لتحرير الإنسان.لقد استمرت ثقافة الوأد ، وجرى تسريبها في صور شتى صور لا يراد منها إلا أن تخفف من حدتها كفعل قتل متعمد ، وجرى توظيف المعطيات الثقافية الوافدة في القرون الإسلامية الأولى لتعزيز حالة الوأد في الواقع وفي المتن الثقافي في آن واحد ، بل لقد جرى تأويل النصوص الإسلامية الأولى ؛ لتتلاءم مع روح ثقافة الوأد السائد آنذاك ؛ في حال تعذر اعتسافها لتنطق بما تريده ثقافة الوأد صراحة . وهكذا أصبح الفرد العربي / المسلم يصنع عالمه اللاإنساني (= عالم الوأد) في الواقع بوحي الثقافة الأولى ؛ بقدرما كان واقعه اللاإنساني المتوحش يصنع ثقافته التي ستستمر معه إلى هذه اللحظة الراهنة التي فجرت التناقضات ، والتي لا يزال كعربي وكمسلم يحار فيها بين ثقافة الإنسان المتعولمة ، وبين ثقافته الخاصة التي لم تعترف بعد بالإنسان . كحل وسط ، أو كحل تفاوضي ، أو كتنازل اضطراري ، ومنذ بدايات التدوين الأولى لنصوصنا الثقافية ، جرى الاعتراف للمرأة ب(حق) في الوجود وبحق في المال وبحق في التصرف ، وليس بحقوقها الكاملة كإنسان الاعتراف بشيء غير ذي بال من الحقوق ، من أجل حجب الاعتراف عن كامل الحقوق ، هو المكر الثقافي الذي مارسته إيديولوجيا التقليد على امتداد تاريخنا الثقافي الطويل . وقد نجح هذا المكر ، وأرسى قواعده على مستوى الواقع ، كما نجح في شرعنته على مستوى الخطاب الثقافي السائد . وساعده على هذا النجاح ، أن اللحظة التاريخية كانت تدعم توجهه لإبراز هذا الاعتراف الجزئي بوصفه منجزا إنسانيا رائدا في هذا المجال . لقد حاولت ثقافتنا التقليدية أن تجمع بين النصوص الدينية الأساسية التي تقوم على قاعدة التحرير الإنساني ، وتقويض كل صور التراتبية الإنسانية من جهة ، وبين استحقاقات الواقع الإنساني واشتراطات النسق الثقافي من جهة أخرى ، فالمرأة في هذا السياق لها (حقوق) يجب تأييدها ؛ ولكن ليست كحقوق الرجل المرأة في هذا السياق الماكر ، يكفيها أن يُعتَرف لها بحق (هكذا بالتنكير!) وأن تدخل في عالم الإنسان ولكن لا يجوز لها أن تطمع بالحقوق ، ولا أن تحلم بالمساواة التي تضعها في السياق الإنساني للعالم الإنساني (عالم الرجال) . يقول المتنبي ، الرمز الثقافي العربي الأكبر، راثياً أم سيف الدولة : [c1]ولو كان النساء كمن فقدنا لفُضلت النساء على الرجال وما التأنيثُ لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال [/c]ما يقوله المتنبي هنا ، هو لسان حال ثقافتنا التقليدية ولسان حال التقليديين الذين يضعون قاعدة التمايز كقاعدة أزلية أولى ، ثم يهمشون عليها باستثناءات تؤكد فرضية التمايز . الأصل ، عند المتنبي كما عند ثقافتنا ، أن التأنيث عيب ، ولكن ، هنا استثناء ، والأصل في التذكير الفخر ، ولكن هنا استثناء . (أم سيف الدولة) هي استثناء يؤكد القاعدة . و(لو) هنا وضعت لشرط مستحيل التحقق . ولهذا من المستحيل أن تفَضل النساء على الرجال ، كما أن من المستحيل أن تتساوى معهم في ضوء هذا الطرح الثقافي . في هذا السياق الثقافي ، القاعدة الأزلية الموروثة تقول : الرجال هم الأفضل . وأم سيف الدولة استثناء لا يغير الواقع ، ولا يهز المسلّمات الثقافية ؛ بقدر ما يدعمها ويؤكدها . ولهذا جرى الاتكاء على الصور البيانية التي تتعلل بما هو خارج الإطار الإنساني (=الكواكب) حيث التذكير والتأنيث مجرد إشارات مجازية . ومن هنا ، لا ضير على الثقافة التقليدية أن تتصور أن الشمس أفضل ؛ مع أن اسمها أنثوي ، ولا أن الهلال أقل ؛ مع أنه مذكر ؛ لأنه في النهاية ، لا الشمس أنثى في الواقع ، ولا القمر ذكرٌ في الواقع ، ولا يفرض هذا التذكير والتأنيث والتفاضل المجازي بينهما أي تغييرات جوهرية على التصورات الجندرية للتقليديين . والغريب أن المتنبي لا يمنح أمَّ سيف الدولة هذا الاستثناء الذي يفضلها بالأفضلية على الرجال ؛ إلا بعد أن يضعها في سياق الوأد . يقول المتنبي ، أو تقول ثقافتنا : [c1]على المدفون قبل الترب صونا وقبل اللحد في كرم الخلال وليست كالإناث ولا اللواتي تعد لها القبور من الحجال [/c]فأم سيف الدولة مدفونة (موءودة ) قبل دفنها الحقيقي بعزلها وحجبها عن الفضاء الإنساني العام . لقد تم دفنها مرتين ، مرة قبل الموت ومرة بعده . ودفنها قبل الموت مفخرة لها ، فلابد أن تدفن قبل الموت كي تحوز المكانة التي تتجاوز بها عالم النساء . إنها بسبب هذا الدفن ( الوأد الاستباقي) ، أصبحت بصريح العبارة (ليست كالإناث) الإناث اللاتي تعد القبور أفضل منازلها ! . أم سيف الدولة تم دفنها معنويا ، أو دفنت نفسها على مستوى المعنى ؛ تجاوزت الحاجة الذكورية لدفن النساء أحياء ، على اعتبار أن القبور هي الحجاب المفضل الذي تقترحه ثقافتنا : ثقافة التقليد . إذن ، في هذا السياق التقليدي ، لابد للمرأة من أن تلغي وجودها ؛ كي يتم قبولها كحالة استثناء . وجودها كإنسان على مستوى المعنى ، مرتبط بإلغائها على مستوى الجسد . هنا ، لابد أن تجاهد المرأة كي تلغي ذاتها كوجود عيني ؛ من أجل أن تحصل على شهادة الاعتراف الاستثنائية بأنها إنسان ، وأن كونها امرأة وإنساناً في آن ، هو استثناء يجب أن يبقى في خانة : الاستثناء . اليوم ، يمارس التقليديون اللعبة نفسها ؛ ليقفزوا على استحقاق المساواة . يؤكدون على مضض أن المرأة (قد!) تتفوق ، ولكنهم يؤكدون أن هذا هو الاستثناء الذي يجب ألا يكون له أثر في المنظومات الحقوقية . التحول الإيجابي الذي يفتخر التقليديون بتحقيقه في مجال حقوق المرأة ، هو إضمار ثقافة الوأد أو تحجيمها في مقابل الاعتراف بالمرأة ككائن إنساني ، ولكن ليس ككائن مساوٍ ؛ من حيث هو اختلاف ، للجنس الآخر المقابل. ما يفخر به التقليديون ، أو ما يتفضلون به على المرأة اليوم ، كان يمكن أن تكون له قيمة ؛ لو تم طرحه قبل قرنين أو ثلاثة قرون ، أي قبل أن تقوم منظومة الحقوق الغربية بتفعيل الرؤية الإنسانية للإنسان أولًا ، وللإنسان المرأة ثانياً ، وقبل أن تتعولم ثقافة الغرب ، وتصبح هي روح العالم المعاصر الذي يجبر الآخرين على مراجعة أنفسهم / ثقافتهم ، والبحث عن مبررات لكل ما هو مضاد للإنساني فيها . وتحت ضغط ثقافة العصر (= الثقافة الغربية) وما أفرزته من وعي بالإنسان ، وحساسية تجاه أي انتهاك لهذا الإنسان ، وافق التقليديون على الانتقال من مربع (الوأد) إلى مربع (النقص) ، أي المرأة ككائن أدنى / ناقص ؛ لقطع الخط على حضور المرأة في مربع (التساوي) الذي يعني الاعتراف بكامل حقوق المساواة ، التي هي حقوق الإنسان . اعتراف التقليديين ليس تصورا إيجابيا صاعدا بقوة الوعي الذاتي ، وإنما هو ضرورة أملتها عليهم الحالة الثقافية الراهنة التي يستحيل عزلها عن المنظومة الدولية لحقوق الإنسان . ولا يعني كونها ضرورة أن هذا الاعتراف النسبي مجرد نفاق ثقافي ، وإنما يعني أن هذا الاعتراف عند بعضهم حدث عن قناعة حقيقية ، ولكنه لم يتم إلا بفعل شيوع وتشرعن منظومة حقوق الإنسان العالمية ذات المصدر الغربي ، وقدرتها بنسبٍ متفاوتة على زعزعة بعض التصورات الموروثة عن المرأة وعن الإنسان عند التقليديين . إذن ، مجتمعاتنا التقليدية ، في بعض شرائحها، وفي أحسن أحوالها ، تجاوزت حالة (المرأة الموءودة) ، لكن ليس إلى (المرأة الإنسان) ، وإنما إلى (المرأة كأنسان أدنى) لا يتساوى مع الإنسان المعيار(= الرجل) . ولا يعني هذا أن ثقافة الوأد غائبة أو أنها لا تمتلك قوة الحضور الفاعل ، وإنما يعني ذلك أن المراجعات الثقافية التي حركت ضمائر بعضنا قادته إلى مرحلة وسط بين (المرأة الموءودة) و(المرأة الإنسان) . وعلى هذا ، فنحن ، في أحسن أحوالنا ، لا نزال في منتصف الطريق ، ولا يزال النصف المتبقي هو الأبعد شقة ؛ لأن قطعه يستلزم القطع مع ثقافة التقليديين ، وأن يغيب عنا هاجس الالتقاء معهم في منتصف الطريق.[c1]عن /صحيفة ( الرياض ) السعودية [/c]